الإحكام في أصول الأحكام كتاب في أصول الفقه من تأليف أبي محمد بن حزم الفقيه الأصولي اللغوي الظاهري، يبحث في الألفاظ وما يتعلق بها، والأدلة الشرعية والكلام في الأخبار وأحكامها في فصل مطول، وعرض للأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والعموم والخصوص، والجمع والاستثناء والكناية بالضمير والإشارة والإعجاز والتشبيه، والنسخ والمتشابه، ثم تكلم في ختام الكتاب عن مبحث الإجماع. ويقع كتاب الإحكام في قسمين كبيرين، عالج في الأول منهما الوجوه التي تعبدنا الله بها والتي لا حكم في شيء من الدين إلا منها، مثل أحكام الخبر وأنواعه، والأوامر والنواهي، والعموم والخصوص.. وتشغل هذه الأمور وغيرها اثنين وثلاثين بابا، والقسم الثاني وهي الأبواب الثمانية الأخيرة تعرض ابن حزم للوجوه التي غلط بها قوم في الديانة فحكموا بها وجعلوها أدلة وبراهين وليست كذلك، وهي سبعة أشياء: شرائع الأنبياء السالفين قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والاحتياط، والاستحسان، والتقليد، والرأي، ودليل الخطاب، وللقياس وفيه تعرض للعلل). فالقسم الأول تأسيس بدأه بتعريف المصطلح حتى لا يقع الخلاف حول المفهومات، والقسم الثاني هدم لما يعتقده من يأخذون بتلك المبادئ السبعة. وقد بدأ رحمه الله تعالى بباب اثبات حجج العقول ثم بباب ظهور اللغات، ثم ببيان الألفاظ المعروفة عند أهل النظر، ثم بالمراد من الحظر والإباحة، ثم بأصول أحكام الديانة وأقسام المعارف، ثم بمعنى البيان وحكم تأخيره وفي القول بموجب القرآن، ثم بأخبار السنن، ثم بالأوامر والنواهي الواردة في الوحيين، ثم بالعام والخاص، ثم الاستثناء، ثم الكناية والضمير، ثم الكناية بالإشارة، ثم بالمجاز والتشبيه، ثم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم النسخ، ثم المحكم والمتشابه، ثم الإجماع، ثم استصحاب الحال، ثم بأحكام أقل ما قيل، ثم حكم الاختلاف، ثم حكم الشذوذ، ثم بيان خلاف الصحابة، ثم الفرق بين القياس والدليل النظري، ثم ضرورة لزوم الشريعة لكل إنسان، ثم صفة الفقيه والمفتي، ثم بيان شرائع الأنبياء، ثم ابطال الاستحسان، والاستنباط والرأي، وإبطال التقليد، ثم حكم دليل الخطاب وصفته، ثم إبطال القياس، ثم إبطال العلل، ثم الاجتهاد. ويستفاد من ترتيب الأبواب السابقة في الإحكام أن ابن حزم يريد تمرين الطالب على الترقي في تناول المسائل وهضمها شيئا فشيئا، حتى يشتد عوده ويتمكن من الدخول في المناقشة والترجيح.والكتاب على مذهب الظاهرية قوي في الأصول مع وجود الشذوذات كإنكار القياس والتقليد والإجماع. وقد نحى ابن حزم منهجا متأثرا بالفلاسفة، لكنه أيضا كثير الشذوذ عن السلف. ومما يتضح جليا في مذهب ابن حزم الاستدلالي أخذه بمذهب الاستصحاب، وخاصة استصحاب البراءة الأصلية: فهو يكثر منه جدا، وهو عمدته في الاستدلال غالبا. وقلما تجد في الكتاب موضعا قبِل فيه قول المخالف، ولو مجرد قبول. بل إنه يعمد إلى هدمه جميعا، وكثير من احتجاجات ابن حزم التي قد يراها المرء قوية، لا تخرج عن الحجج الخطابية. والسمة الظاهرة على منهج ابن حزم في الترجيح والاستدلال أنه يميل إلى الأخذ بالنسخ أكثر منه إلى الجمع بين النصوص، وإن كان في كثير من الأحيان يوافق الصواب في الحكم بالنسخ. وهو في هذا على خلاف طريقة ابن تيمية مثلا التي تميل إلى الجمع أكثر منه إلى القول بالنسخ.ونظرا لانفرادِ ابن حزم بالمذهب الظاهري، فإن منهجه في الجدل وأسلوبه في الذب عنه يتخذ منحى خاصا، تبعا لاختلاف المدرسة الظاهرية – في أسسها الفكرية والمنهجية في تعاملها مع نصوص الوحي- عن باقي المدارس المذهبية الأربعة الأخرى؛ إذ إن قواعد المذهب وأصوله يشكلان المنطلق الأساس الذي يقوم عليه الجدال، وتنبني عليه المناظرة.وابن حزم ينهج في الاستدلال منهاج الجدل، يناقش الآراء، فيسرد أدلة الخصم دليلا دليلا، ثم يناقش هذه الأدلة، مبينا بطلانها وبعدها عن الأصول في نظره، ويسرد من الحجج ما يثبت دعواه ويبطل دعواهم، ثم ينتقل إلى مرتبة ثانية من مراتب الجدل، وهي إبطال أقوال خصومه من أقوالهم، فيسلك مسلك الإلزام والإفحام، بعد أن سلك مسلك الحجة والبرهان، هذا عند نفسه، مع اعتداد بالرأي وشدة على المخالف وغمز للعلماء.ومقدمة الإحكام هي مفتاح المنهج العام لكتاب للكتاب، إذ لخص فيها ابن حزم غرضه من تأليف الكتاب، وهو بيان الحق بالدليل، وبيان مراد الله تعالى في الأحكام، وقد عبر عنه بجملة نافعة وهي قوله: "مستوفى مستقصى، محذوف الفضول محكم الفصول". وبين في مقدمته أن الدين لا يؤخذ إلا عن الله تعالى وعن لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد اعتنى بهذين الأصلين في كل صفحات كتابه كل العناية، تقعيدا وتقريرا واستقراء. وقد أشار في مقدمته إلى ضرورة التعقل بالقلب، وطلب الرشد من الله تعالى، وأنه لا يجوز للمسلم التعلم بلا تعقل أو تدبر. وبسبب هذا المسلك فقد جعل ابن حزم أول أبواب كتابه في إثبات حجج العقول وبيان الحقيقة والغلط فيه. ومن حِدة ذكائه أنه ختم الباب الأخير في كتاب الإحكام بكيفية حدوث الخطأ في الاجتهاد تأسيسا لضرورة التعقل واثبات حجج العقول على مراد الله تعالى.ولما كان ابن حزم رجلا منهجيا منطقيا، فهو لا يسطر جملة إلا بدليل نصي أو عقلي، وله عناية بالبراهين العقلية تكاد تكون من أنفس ما كتبه أهل العلم. وهو ينتصر للمذهب الظاهري بالاستدلال بلغة العرب التي هي لغة القرآن، والمقصود بالظاهر عنده ظاهر اللفظ الذي لا يجوز تأويله إلا بحجة قوية. وهذه قاعدة مطردة عنده في جميع الأبواب والمسائل التي يناقشها، لا تكاد تنخرم أو تتخلف. ويبدأ ابن حزم الباب بقوله: قال أبو محمد، ثم يشرع في عرض المسألة ثم أدلتها من النقل والعقل وبعض أقوال السلف، ثم يفند أدلة المخالف بالجدل الفقهي والإلزام المنطقي. وكثيرا ما يورد في صفحات كتابه: لا يحل كذا، لم يصح كذا، برهان هذا هو. وكل ذلك بأسلوب الجزم والقسوة في كثير من الأحيان. وابن حزم دائما يقرر حرمة خرق الإجماع لأقوال الصحابة والتابعين، وضرورة استعمال العقل في دائرة الشرع. وأغلب الفروع الفقهية مخرجة عنده على هذين الأصلين ولا يكاد يخرج عنهما. وهو في كثير ٍمن صفحات الكتاب يقرر حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "فإذا نهيتكم عن شي فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه. وابن حزم يرد على قواعد العلماء التي تستنبط بالاستقراء باستقراء مثله، كرده على من قال إن مقتضى الأمر بعد الحظر الإباحة، أن الإباحة في الآيات التي يستدلون بها ليست من مقتضى صيغة الأمر، إنما المقصود بها الإباحة والجواز بدليل أن قول الله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} أن الاصطياد غير واجبٍ لحديث أنه صلى الله عليه وسلم حل من عمرته ومن حجه، ولم يصطد. وابن حزم يعتني بمعاني الحروف كثيرا، وقد وظف الترجيح فيها في مسائل كثيرة مثل مسألة الواجب المخير، فقد غلط من يقول إن الواجبات كلها فرض عند الأمر بها عند التخيير، فقال إن ذلك غلط لأن "أو" لا توجب تساوي ما عطف بها واجتماعه، إنما يوجب ذلك الواو والفاء وثم.ويلاحظ أن ابن حزم إذا كان في المسألة خِلافٌ لفظي أو معنوي يميل بقوة إلى ترجيح مذهبه لاعتزازه به، ولا يتوسط في ذلك، وهذا مشاهد في كثير من المسائل ومقرر في كتابه الإحكام، ومثاله مسألة واجب التخيير ومسألة دخول النساء في خطاب الذكور.وابن حزم رحمه الله تعالى يرفض الاحتجاج بمفهوم الموافقة لأنه عنده جزء من القياس، والصحيح أنه ليس من القياس لأن دلالته لفظية، ومما يضعف قول ابن حزم هنا أن دلالة الموافقة قال بها داود الظاهري شيخ ابن حزم، وقد نقل هذا القول ابو إسحاق الشيرازي في كتابه التبصرة.ومسألة الإجماع عند ابن حزم رحمه الله تعالى فيها اضطراب شديد، فيبدو أنه متردد في ميزان الإجماع الذي يجب التحاكم إليه. فمرة يحده بنصوص الوحيين، ومرة يحده بأقوال الصحابة وعلماء الإسلام، ومرة يحد الإجماع بمسائل الاعتقاد فقط. وهو أيضا ينكر القياس في الدين جملة في كثير من صفحات الكتاب سواء بالتصريح أو التلميح. وهو يفرق بين العلة والسبب في المعنى، وهو تأصيل منه لموقفه من إنكار القياس، وقد استطرد في ذلك في مواضع كثيرة من كتابه.ويتميز الكتاب بأنه موسوعة حديثية، فقد ضم مئات الأحاديث صحيحها وحسنها، وفيه اختيارات كثيرة لابن حزم، يمكن تتبعها وجمعها ومعرفة معالم ابن حزم في اختياراته وترجيحاته. وهذه الاختيارات ليست في فروع الشريعة فقط، بل حتى في اللغة والمنطق والتأريخ والحياة عموما. كذلك في كثير من صفحات الكتاب وقفات قيمة لتدبر كلام الله تعالى من خلال تفسير الآيات القرآنية، أو من خلال نقد من فسرها بخلاف ما يعتقده ابن حزم. وفي كتاب الإحكام أسلوب تربوي لكيفية النقد وتقوية الملكة الفقهية والأصولية، وذلك من خلال المناقشة والإلزام لحجة الخصم، وفيه آثار ومرويات للسلف تبلغ المئات، وهو يمثل موسوعة فقهية مقارنة، عرض فيها ابن حزم آراء الفقهاء والمجتهدين من الأئمة والمحققين مما وقف عليه في مصنفات الفقه في عهده، أو ما نقله عن المصنفات الفقهية الموثوقة، وفيه بعض القصص والمناظرات، كقصته مع من ناظره من فقهاء عصره في مسألة دية الأصابع. ولغة الكتاب سهلة وفيها مسحة أدبية أحيانا، وفي بعض أجزاء الكتاب يوجد استطرادات وتكرار لكلام المؤلف مما تقدم من مسائل. وفي الكتاب نكت وفوائد علمية ينثرها ابن حزم بين ثنايا كلامه، وهي كثيرة ومبثوثة في أول الكتاب ووسطه وآخره.