الموافقات
أبو إسحاق الشاطبي
الموافقات
نبذة عن الكتاب

سفر عظيم من أعمال الإمام الجليل أبي إسحاق الشاطبي، صنفه ليكشف به النقاب عن أسرار الشريعة في التكليف، وليبين المقاصد والحِكم والكليات التي اشتملت عليها الشريعة، مستقرءا في ذلك نصوص الشارع وآثار السلف؛ ولا غرو فقد انتوى تسميته (التعريف بأسرار التكليف) إلا إنه عدل عن ذلك إلى الموافقات لرؤيا شيخه بأنه هدي به للتوفيق بين مذهبي مالك وأبي حنيفة (مدرسة الأثر ومدرسة الرأي). وقد جاء هذا الكتاب بعد جمود أصاب مدارس الفقه الإسلامي، وتعصب مذهبي كاد أن يهوي بالواقع الإسلامي إلى منحدر سحيق، ولكن الله قيد هذا الإمام في المغرب الإسلامي ليجدد به معالم ما اندرس، ويبعث بروح التجديد والاجتهاد في هذا الدين على وفق هدي القرون الأولى الفاضلة، مراعيا لمقاصد وروح الشريعة؛ تماما كما فعل الإمام ابن تيمية في المشرق الإسلامي وقتها. وقد كان هذا الكتاب كما وصفه الشاطبي نفسه "مختَرعا مبتكرا ما سُمع بمثله"، فهو بحق تناول مباحث لم يطرقها أحد قبله بنظرة تحليلية مقاصدية فريدة. وقد كان لهذا السفر العظيم بالغ الأثر في تصدي كثير من المصلحين المعاصرين لهجمات التغريب التي مني بها العالم الإسلامي في الفترة الأخيرة من أمثال ابن عاشور وعلال الفاسي وغيرهم كثير. على أنه وفي المقابل قد قام بعض المفتونين بالغرب أيضا باتباع متشابه كلامه في دعوته للتجديد وعدم الجمود؛ للهجوم على الثوابت بغية هدم الدين والانبطاح لتيارات التغريب. ولا عجب فقد قال الشاطبي: ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط لأنها سيالة لا تقف عند حد... فقد رأينا وسمعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن [الاعتصام: 2/139]. وقد تناول المصنف ذلك في خمسة أقسام: القسم الأول: المقدمات العلمية؛ وهي ثلاث عشرة مقدمة، كالمرتكزات التي يمهد بها المصنف السبيل لما سيشرع فيه، فتناول موضوعات شتى من مثل، أصول الفقه ومسائله وموقعها من حيث القطع والظن، والعلم المعتبر ومراتبه وطرقه وكذا مراتب أهل العلم والخلاف المعتبر، والتحسين والتقبيح العقليين. والقسم الثاني: تناول الأحكام التكليفية والوضعية، ولكن بنظرة مقاصدية غير تقليدية؛ ففي التكليفية ومن جملة ثلاث عشرة مسألة؛ أطال النفس في مسائل المباح وكذا مسألة العفو، وفي الوضعية وبعد أن قسمها لخمسة أنواع؛ الأسباب (14 مسألة) والشروط (8 مسائل) والموانع (3 مسائل) والصحة والبطلان (3 مسائل) والعزائم والرخص (11 مسألة) أطال النفس في الأسباب (علاقته بالمسبب وقصد المكلف والتفات القلب والتوكل والحكمة والابتلاء) وكذا العزائم والرخص دون باقي الأنواع. أما القسم الثالث فقد كان في المقاصد؛ ولعل هذا القسم هو الأشهر حتى إن البعض جعل الموافقات مرادفا للمقاصد، وقد قسمه إلى قسمين: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف: أما الأول منهما فقد قسمه إلى أربعة أنواع؛ قصد الشارع في وضع الشريعة (13 مسألة تطرق فيها للضروريات والحاجيات والتحسينات ومراتبها وأحكامها وكذا التعليل ثم الترجيح بين المصالح والمفاسد) وقصده في وضعها للإفهام (5 مسائل تناولت أهمية اللغة العربية في فهم مقصود الشارع وبعض الأحكام والآداب واللطائف) وقصده في وضعها للتكليف بها (12 مسألة تناول التكليف وكسب الإنسان والمشقة والحرج) وأخيرا قصده في دخول المكلف تحت أحكامها (20 مسألة فتناول مراغمة الهوى وحظ النفس وتداخلهم مع الأحكام الشرعية). وأما الجزء الثاني منه وهو مقاصد المكلف فقد تناول فيه اعتبار نية المكلف في الأحكام كلها وفيه أربع عشرة مسألة (العبادات والمعاملات والإكراه والخطأ والنسيان وكذا الحيل والذرائع، والمصلحة والمفسدة والإضرار). والقسم الرابع تناول الأدلة الشرعية في طرفين؛ الطرف الأول في الأدلة على الجملة؛ وهو بدوره تناوله من نظرين: النظر الأول وهو كليات الأدلة وقد تناوله في أربع عشرة مسألة فبين الأدلة وأقسامها من حيث القطع والظن وكذا جريانها على مقتضى العقول، وانحصار الأدلة في النقل، وما هو الكلي والجزئي، ومآخذ الاستدلال، وتحقيق المناط وتنقيحه، وموقع عمل السلف من الاستدلال. أما النظر الثاني فقد كان في عوارض الأدلة وقسمه إلى خمسة فصول؛ الأول الإحكام والتشابه (6 مسائل)، والفصل الثاني الإحكام والنسخ (4 مسائل)، والفصل الثالث الأوامر والنواهي وقد أطال فيه النفس في نحو ثماني عشرة مسألة، ثم عرج على العموم والخصوص في سبع مسائل وختم العوارض بالفصل الخامس في البيان والإجمال في اثنتي عشر مسألة وأما الطرف الثاني فقد كان في الأدلة على التفصيل: واقتصر على الكتاب والسنة؛ ففي الكتاب ذكر أربع عشرة مسألة (هدايته وإعجازه، وأسباب النزول، والقصص، والترغيب والترهيب، وكلية وشمولية الأحكام، وبيان السنة، والظاهر والباطن من معانيه، والمكي والمدني، وفهم السلف، وخطر التفسير بالرأي)، وفي السنة ذكر عشر مسائل (معناها وأنواعها ورتبتها وبيانها للقرآن وسنة الصحابة وعصمة النبي صلى الله عليه وسلم). وختم بالقسم الخامس وهو كتاب الاجتهاد وقد ردد النظر فيه بين أطراف ثلاثة: الأول: المجتهد والاجتهاد؛ تناول فيه أربع عشرة مسألة (أنواع الاجتهاد وأوصاف المجتهد، وتحرير معنى الاختلاف وأسبابه، ومحل الاجتهاد وشرطه، والخطأ المغفور، واعتبار المآلات). والثاني: فتوى المجتهد؛ تناول فيه أربع مسائل (منزلة المفتي، وأنواع الفتوى، وفتوى من يخالف مقتضى علمه، والتشديد والترخيص) والثالث: حكم الاقتداء بقول المجتهد؛ تناول فيه آداب المقلد وأحكامه في تسع مسائل. ثم ذيل هذا القسم بلواحق الاجتهاد، تناول فيه نظرين؛ التعارض والترجيح (3 مسائل)، والنظر الثاني: في أحكام السؤال والجواب "علم الجدل" (6 مسائل). وهو في كل ذلك يسبر أغوار القضية التي يتناولها وكأنما يستقرئ جميع تفاصيلها من الشرع والآثار والعقل حتى يستقر في الذهن ما يقرره بلغة رصينة واستدلالات لطيفة مع ما فتح الله به عليه من فقه في الدين وورع جعل لكلامه نورا يشرح الله به الصدر لما ذهب إليه فلا يكاد المرء يجد له مدفعا، وقد أوتي من قوة الحجة وسبر واسع لآراء المخالفين؛ ما جعله ينقض مذاهبهم بالرد عليها ردودا تفصيلية لا مجملة، وهو في ذلك إنما يبني في دارسه أصولا منهجية عتيدة، تساعده على تكوين ملكة الاجتهاد، وتمكنه من قياس الجزئيات على كليات واضحة جلية لا تذر في النفس ترددا على أن هذا هو مقصود الشارع وحكمه في النوازل والمستجدات. ولعل غلبة هذا النمط الجدلي من إيراد الشبهات بحججها تفصيلا كما يذكرها أصحابها ثم الرد عليهم واحدة واحدة، قد خرج أحيانا بالكتاب عن مقصوده وأضفى عليه نوعا من الصبغة الأكاديمية الجافة. ومما يؤخذ على المصنف أيضا قلة عزوه للمصادر سواء في الأحاديث والآثار أو فيما ينقله عن الأئمة الأعلام. وهو الأمر الذي تداركه المحقق في هذه الطبعة (مشهور). ولا نبالغ إن قلنا أن هذه الطبعة (دار ابن عفان بتحقيق مشهور) هي أفضل طبعة خدمت هذا الكتاب من حيث تدقيق النص ومقابلته على أكثر من نسخة والتعليق والعزو والإحالة؛ إضافة إلى ذكر أهم ما ورد في الطبعات السابقة من تعليقات محققيها (كالشيخ دراز)، وجعل المجلد السادس للفهارس وهي جد نافعة فعلاوة على فهارس الآيات والأحاديث والآثار والأشعار والتراجم، ضمنها أيضا فهارس الفرق والطوائف والمذاهب والملل، وفهارس الفوائد العلمية.