يعد "التمهيد" موسوعة شاملة في الفقه والحديث، وهو من أنفس ما كُتب في شروح الحديث. وهو كتاب شرح فيه ابن عبد البر كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، ولكنه رتبه ترتيبا آخر يختلف عن ترتيب الإمام مالك؛ فرتبه بطريقة الإسناد على أسماء شيوخ الإمام مالك، الذين روى عنهم ما في الموطأ من الأحاديث، فقد جمع أحاديث كل راوٍ في مسند على حدة معتمدا في ترتيبهم على حروف المعجم، وترجم للرواة، وخرَّج الأحاديث وشرحها لغويا وفقهيا، وذكر آراء أهل العلم والفقه، وقد اقتصر فيه على ما ورد عن الرسول من الحديث، متصلا أو منقطعا، أو موقوفا، أو مرسلا، دون ما في الموطأ من الآراء والآثار، وقد قضى في تأليف كتاب التمهيد أكثر من ثلاثين سنة يحرره وينقحه. يقول المؤلف عن هدفه من تأليف الكتاب: "رأيت أن أجمع في كتابي هذا ما تضمنه موطأ مالك بن أنس في رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي عنه من حديث رسول الله، مسنده ومقطوعه ومرسله وكل ما تمكن إضافته إليه صلوات الله وسلامه عليه. ويقول ابن عبد البر عن السبب الذي دعاه إلى تصنيف كتابه: "فإني رأيت كل من قصد إلى تخريج ما في موطأ مالك بن أنس من حديث رسول الله قصد بزعمه إلى المسند، وأضرب عن المنقطع والمرسل، فلم أَرَ جامعيه وقفوا عند ما شرطوه، ولا سلم لهم في ذلك ما أملوه، بل أدخلوا من المنقطع شيئا في باب المتصل، وأتوا بالمرسل مع المسند". ولابن عبد البر أسلوب واضح في التصنيف؛ فهو قد صنف الأحاديث بحسب الراوي، فكان يجمع أحاديث كل راوٍ في مسند. ورتب الرواة بحسب الترتيب الأبجدي لأسمائهم، ثم وصل كل حديث مقطوع وجده متصلا من غير رواية مالك، وكذلك كل مرسل وجده مسندا من غيره، وجمع أقاويل العلماء في صحة الأحاديث وتأويلها وأحكامها وناسخها ومنسوخها وشروحها، وجمع كذلك ما يعرف من الأثر المتعلقة بمعاني الأحاديث والإسناد، وشرح غريب الألفاظ. وقد أشار إلى المذاهب الأخرى، وله فيها اختيارات وترجيحات. والإمام ابن عبد البر -رحمه الله- اقتصر في شرحه على الأحاديث المرفوعة، لم يتعرض للموقوفات ولا المقطوعات ولا أقوال الإمام مالك، إنما اقتصر على شرح ما يضاف إلى النبي سواء كان بأسانيد متصلة أو منقطعة، فتكلم على الأحاديث الموصولة، وتكلم على المراسيل، وتكلم على البلاغات، ولم يتكلم على ما جاء موقوفا على الصحابة أو مقطوعا عن التابعين. ومن اليسير الذي قد يؤخذ على هذا السفر العظيم تردد مؤلفه أحيانا في تحديد من وقع منه الوهم، ومن ذلك قوله: "وأظن الوهم فيه جاء من قِبَل مالك أو من قبل يزيد بن الهادي". كما أنه قد يؤخذ عليه صعوبة الترتيب من جهة كونه مرتبا على الشيوخ، ولو رتب على الأبواب لكان أولى، على ترتيب مالك -رحمه الله- لكن هذه وجهة نظر الإمام ابن عبد البر. إلا أن هذه الطبعة (طبعة الفاروق الحديثة) قد رتبت الكتاب وفقا للأبواب الفقهية.