هذا الكتاب القيم من تأليف العلامة أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل الجرجاني الدار المتوفى سنة 471هـ، وهو من الشخصيات التي وقفت على أسرار البيان العربي ودقائقه، واسعة الجوانب، وبخاصة فيما يتصل منها بالأدب والنقد وأسرار النظم ودقائق المعاني. وقد تأثر في كتبه بآراء ومذاهب من سبقوه من رجال النقد والبيان كالجاحظ والجرجاني والآمدي والعسكري. ويحكم عبد القاهر في الأسرار والدلائل على كثير من الأدباء والشعراء أحكاما صادقة تدل على عدالة نقده. ويستدل بالكثير من أشعار المحدثين ويعقد بينها موازنات تدل على وقوفه على دقائق البيان. وقد ألف هذا الكتاب بعد كتابه "أسرار البلاغة"، وقد درس عبد القاهر في "أسرار البلاغة" المعاني ووجوهها وكيف تتفق وتختلف ومن أين تجتمع وتفترق وتتبع خاصيها ومشاعها. ثم ألف بعد ذلك كتابه "دلائل الإعجاز"، وأثبت فيه أن الميزة والوصف الذي كان به الإعجاز هو الفصاحة والبلاغة والبيان وأن هذه الفصاحة ليست إلا حسن الدلالة وتمامها وتبهرجها في صورة رائعة من النظم أو هي أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأنه لا ميزة للعبارة على الأخرى إلا بقوة دلالتها على الغرض المقصود، وذلك راجع إلى النظم. ويبحث في هذا الكتاب أيضا عن النظم وصلاته الوثيقة بالمعنى، وأنه موضع الفصاحة ومكانها، وقد ربط النظم بمعاني النحو ووجوهه، فأوجد صلة بين النحو والبيان، وكان فيما كتب يترجم عن فلسفة النحو، أو قل إنه كان نحويا بليغا، ويثبت عبد القاهر في الدلائل أمورا على جانب كبير من الأهمية، ومنها: التفرد والبلاغة التي كان بها الإعجاز هي في النظم لا في اللفظ أو المعنى، فالنظم هو الذي كان فيه المزية؛ وأن النظم هو توخي معاني النحو وأحكامه، وهو متصل بالمعنى اتصالا وثيقا، فليست الميزة فيه من حيث اللفظ والحروف، ولكن من حيث النظم والتأليف، وفي معناه من حيث إن هذا النظم إنما هو نظم تابع للمعاني ومقتف أثرها ودال عليها، وأنه لولا معناه لم يكن شيئا مذكورا؛ وأخيرا، أن السجع والتجنيس لولا أنهما يتبعان المعنى لم يكن فيهما غناء، والتقديم والتأخير والحذف والفصل والقصر ووجوه الخبر والحال ومواقعهما كل هذه إنما تتبع المعنى وتتغير تبعا لتغيره. والكتاب يبدأ بمقدمة يفيض فيها المؤلف في بيان فضل العلم عامة، وفضل علم البيان خاصة، مع جهل الناس بحقائقه، ويبين أنه الأداة لمعرفة الإعجاز. والناظر في موضوعات "دلائل الإعجاز" التي ضمها فهرسته المنشور في الصفحات الأولى منه، ينتابه شعور بأن صاحب الكتاب تفجرت عنده ينابيع المعرفة، فسلكت به شتى الدرس البلاغي الذي راح يلقيه على قراء زمانه، من طلبة وعلماء تفاوتت مداركهم وقدراتهم بين المتقبل المتذوق، والدعي الغبي، فأفرغ جل ما توصل إليه من حقائق ومعلومات صاغها بمنطق المحاضر الموسوعي، لا يسعه الانضواء في موضوع واحد، بل يلتفت إلى هذا الجانب وذاك، وإلى هذا الباب وهذا الميدان من أبواب الفكر البلاغي وميادينه المترامية الأطراف. فعلى الرغم من كون الكتاب قد وضع لتأسيس علم المعاني، وما يقتضيه من مسائل محددة توافق عليها العلماء والدارسون، فإننا أمام سلسلة أو خليط من الموضوعات التي تداخلت وتفرعت، أو اتسقت وافترقت، فهي في تضامها تؤلف الأفق البلاغي الواسع لما سماه: علم المعاني، مفتوحا على علمي البيان والبديع اللذين لم يستقلا عن العلم الأول، إلا في نطاق الاصطلاح والتحديد المتأخرين مع السكاكي أو القزويني، ومن تبعهما وعاصرهما من علماء البلاغة. وثمة عدد غير يسير من الموضوعات التي طرحها وعالجها المصنف داخل موضوعات الأبواب والفصول المختصة، أي تلك التي ترتبط مباشرة بعلم المعاني. وأهم موضوعات الكتاب هي كما يلي: الكلام في الشعر: روايته وحفظه وذم علمه؛ الكلام في النحو؛ كلام تمهيدي في الفصاحة والبلاغة؛ كلام في المجاز وفروعه ووجوهه؛ نظم الكلام وعلاقته بالنحو والبلاغة، وما يستلزم من معرفة التقديم والتأخير والإسناد والاستفهام والخبر والنكرة؛ موضوع الحذف: مواضعه وأنواعه، بلاغته؛ كلام ثان في الخبر بين التعريف والتنكير، والإثبات والنفي؛ كلام في الحال ودور واو الحال؛ الفصل والوصل، باب اللفظ والنظم، متداخل فيه: المجاز الحكمي، والكناية والتعريض؛ القصر والاختصاص: إنما، ما وإلا؛ فصول أخرى في اللفظ والنظم، متداخل فيه: الحقيقة والمجاز؛ القول المبسط والموسع في الإعجاز والفصاحة والبلاغة؛ حقيقة الإعجاز ومعالمه ووجوهه، متداخل فيه: غريب الكلام، وفساد الذوق، الفصاحة والنحو؛ الاستعارة: وجوهها وأنواعها وسمو المعنى فيها؛ الاحتذاء والأخذ والسرقة في الشعر؛ الموازنة بين المعنى المتحد في اللفظ المتعدد (في شعر البلغاء)؛ السجع والتجنيس المتكلفان وذمهما؛ متعلقات الفعل ومتغيرات معاني الجمل؛ إدراك البلاغة وتحقيقها في الذوق والإحساس الروحاني. وقد أفاض عبد القاهر في شرح أسرار النظم في الكتاب كله، حتى ليكاد يكون الكتاب موقوفا على شرح نظريته في النظم والتطبيق عليها. والجرجاني وإن كان لم يصرح إلا أنه يرد في كتابه على مقالات القاضي عبد الجبار المعتزلي. ويبدو أن المؤلف كان يريد أن يؤسس بكتابه هذا علما جديدا استدركه على من سبقه من الأئمة الذين كتبوا في "البلاغة" وفى "إعجاز القرآن"، ولكنه من الغريب أنه لم يسر في بناء كتابه سيرة من يؤسس علما جديدا، كالذي فعله سيبويه في كتابه العظيم، أو ما فعله أبو الفتح ابن جني في كتابه "الخصائص"، أو كالذي فعله عبد القاهر نفسه في كتابه "أسرار البلاغة"، بل كان عمله وهو يؤسس هذا العلم الجديد مشوبا بحمية جارفة لا تعرف الأناة في التبويب والتقسيم والتصنيف، وكأنه كان في عجلة من أمره، وكأن منازعا كان ينازعه عند كل فكرة يريد أن يجليها ببراعته وذكائه وسرعة لمحه، وبقوة حجته ومضاء رأيه.