هذا الكتاب للشيخ الدكتور علي الصلابي العالم والمؤرخ الإسلامي المعروف هو امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية وموسوعة الحروب الصليبية. وقد جاء في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، فتناول في المقدمة المطولة أهمية الكتاب واستعراض مفصل لموضوعاته وواجب الأمة تجاه تالاريخها. ثم في الفصل الأول تكلم عن غزو المغول لبلاد المسلمين، وعن أهمية دراسة تاريخهم والتعريف بهم وموطنهم الأصلي والقبائل التي يتكون منها مجتمعهم، وعن حياتهم الاجتماعية، ودينهم، وتداعي المجتمع المغولي قبيل جنكيز خان، والفوضى فيه ومحاولات توحيد القبائل المغولية، وأحوال العالم الإسلامي قبيل الغزو المغولي، كالخلافة العباسية، والأيوبيين في مصر والشام، وانتشار الموبقات، كالخمر، والجواري، والغناء والطرب، وظهور جنكيز خان على مسرح الأحداث، وتوحيده للقبائل تحت زعامته وبناء الإمبراطورية المغولية، وتضمن وقفات عن مقومات المشروع المغولي في عهد جنكيز خان، كشخصيته وأهم صفاته، كالشجاعة والسخاء والكرم والغيرة، والقسوة والإخلاص لأصدقائه ومعرفته للرجال وقيادته للقادة، ودستور الدولة (الياسا) وموقف الشريعة الإسلامية منه، وأشار إلى مجموعة من وصايا جنكيز خان لجيشه، وإلى طريقة التسلح والتجهيز لدى المغول، وأساليب القتال والاتصالات في الجيش وفقه القيادة، وعقدهم للمجلس العام (الكوريلتاي) كل سنة وحضور أهل الحل والعقد من المغول فيه، كما بين الكتاب عادات وتقاليد المغول الاجتماعية والخرافات التي انتشرت بينهم. ثم فصل الحديث عن قضاء المغول على الدولة الخوارزمية. وتناول الفصل الثاني سقوط بغداد، فتكلم عن خلفاء جنكيز خان، وتقسيم ممالكه وانتخاب أوكتاي خانا أعظم للمغول والنظم والإصلاحات التي تمت في عهده ومعاملته لرعاياه من المسلمين، ومواصلة المغول زحفهم على البلاد الإسلامية، وفتحهم لأقاليم الصين الشمالية وغزوهم لأوربا، ثم تولي كيوك خان زعامة المغول وسياسته مع المسيحيين، ثم اختيار منكو خانا أكبر على العرش المغولي من بعده وإصلاحاته الداخلية وتسويته بين طوائف الإمبراطورية المغولية وحرصه على تكوين تحالف بين المغول والمسيحيين، وجهود هولاكو في القضاء على الإسماعيلية واقتلاع جذورهم، وتحرك جيوشه نحو بغداد وحصارها واستباحتها ومقتل الخليفة المستعصم بالله، والخراب الحضاري الذي لحق ببغداد، وتكلم عن حكومة هولاكو (الحكومة الأيلخانية بالعراق) وإدارتها في عهد الجويني. أما الفصل الثالث فتكلم فيه عن دولة المماليك وعن أصولهم ونشأتهم وعن نظام التدريب والتربية والتعليم والمراحل التي يمرّون بها وعن نظام التخرج وانهاء الدراسة ولغتهم ورابطة الأستاذية والزمالة بينهم وجهودهم في دحر الحملة الصليبية السابعة وصور من شجاعتهم وعن أسباب هزيمتهم ونتائجها. وفصل الحديث عن شجرة الدر، ومقتل السلطان أيبك وشجرة الدر. وتحدث عن سلطنة علي ابن المعز ثم تولي سيف الدين قطز، وترتيبه للأمور الداخلية. وفي الفصل الرابع كان الحديث عن معركة عين جالوت الخالدة وانكسار المغول على يد سيف الدين قطز، ومآثر هذا السلطان المسلم العظيم.ولقد بين الكاتب في كتابه طبيعة المشروع المغولي ونقاط ضعفه وقوته، وكيف استباح العالم الإسلامي وتهاوت مدن المسلمين، كبخارى وسمرقند وكابل وبغداد وغيرها أمام جيوش المغول، فاستباحت الديار وهتكت الأعراض، وصودرت الممتلكات وغابت أسباب النصر، وتعمقت عوامل الهزيمة في الأمة أمام المشروع الغازي ومضت السنن والقوانين الإلهية وعملت عملها ولم تجامل أحدا، وما تغيرت ولا تبدلت والناس في همّ وغمّ وذل وضعف وخور، وصغار، حتى استوعبت القيادة الإسلامية في مصر فقه المقاومة وادارة الصراع وعرفت كيف تدفع أقدار الله بأقداره من خلال سنن النهوض، وأسباب النصر، فكانت النتيجة المذهلة في معركة عين جالوت، فلقد تحرك سيف الدين قطز من خلال مشروع إسلامي ملك مقومات الصمود والتحدي وحقق الانتصار، فكانت الرؤية واضحة والهوية صافية، والبعد العقائدي حاضرا، والفقه السياسي ناضجا، والقوة العسكرية متفوقة في مجاليها المعنوي والمادي، وعرف سيف الدين قطز مكانة العلماء في الأمة وقوة تأثيرهم ونفوذهم الروحي على الشعب فقربهم واحترمهم وفتح لهم أبواب التعليم والوعظ والإرشاد فقاموا بدور كبير في تعبئة الأمة ودفعها لكي تلتف حول المشروع الإسلامي الذي قاده سيف الدين قطز.والمؤلف معروف بطريقته في التأليف إذ يعنى بإظهار معانٍ في فقه التمكين من خلال حوادث التاريخ، والتأكيد على مبدأ الاعتبار بمعرفة أحوال الدول وعوامل بنائها وأسباب سقوطها، والاهتمام بمعرفة عقيدة أهل السنة والجماعة وتربية أبناء الأمة عليها، وإثراء المكتبة الإسلامية التاريخية بالأبحاث المنبثقة عن عقيدة صحيحة وتصور سليم بعيدا عن سموم المستشرقين. ويميز الكتاب أسلوبه الرائق المسترسل، المدعم بالاستشهاد بالنقول والآثار والعزو للمصادر والمراجع المعتمدة، وذكره للأشعار التي تجيش بالعاطفة الإسلامية، وذكره لنتائج البحث في آخر الكتاب، وقائمة ثرية من المصادر والمراجع. وقد أخذ بعضهم على المؤلف نهجه في السرد التاريخي المفتقر إلى العمق والتحليل، وهو محل نظر كما لا يخفى. ونحن نطالع مثلا دفاعه عن المماليك ورد الشبهات التي أثيرت حولهم والحض من شأنهم كما ذهب إليه المستشرقون ومن لف لفهم من العرب. وحسب الكتاب أنه يعتبر بالتاريخ لواقع أمتنا المعاصر، ويتبع العلم للعمل، ومن ذلك قوله: "وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصّلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد ويقابلوا الريح بالإعصار ويقاتلوا الغزاة بكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون" ... " إن الذين استطاعوا التصدي للمشاريع الغازية، وانتزاع المدن والقلاع والحصون من المغول والصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح، وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم. إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرف مستقبلها".