هذا الكتاب "فقه الواقع - ضوابط وأصول" للدكتور أحمد بوعود، يأتي كمساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والحصانة الثقافية، وإحياء المنهج السُنني، كسبيل لإعادة قراءة الواقع بدقة وموضوعية، والتبصر بكيفيات تغييره، وتحديد مواطن الخلل وأسبابها التي لحقت بالأمة المسلمة فأقعدتها عن ممارسة دورها في الشهادة على الناس وإلحاق الرحمة بهم، والتحقق بالرؤية الاستراتيجية التي تفقه الحاضر، وتعتبر بالماضي، وتبصر المستقبل، وتدرك العواقب والتداعيات المترتبة على فعلها، فالفقه الحقيقي هو بتحديد التوافق بين التكليف والاستطاعة، أي بين النص ومحل تنزيله، وهذا يستدعي الانخراط في المجتمع والاندماج فيه والتعرف على مكوناته ومؤثراته ودراسة الظواهر الاجتماعية، ومعرفة أسبابها، والمساهمة في دوائر الخير، ومحاولة التوسع فيها على هدى وبصيرة، ولا يتحقق ذلك بتشكيل أجسام بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، وإقامة هياكل وكيانات وخيام خارج المجتمع والحياة، أو السير خلف المجتمع ورصد تصرفاته والحكم عليها، بل الواجب هو الدخول في المجتمع وإغرائه بفعل الخير، وذلك هو سبيل الخروج من الأزمة، ومعاودة إخراج الأمة من جديد. وقد تناول الكاتب الموضوع في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. أما الفصل الأول فقد جاء تحت عنوان: فقه الواقع، مفهومه، عناصره، أهميته، واشتمل على ثلاثة مباحث، تناولت المقصود بفقه الواقع، والذي يتمثل في الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها. كما تناولت العناصر الأساس لفقه الواقع، والتي تتمثل في إدراك التأثيرات البيئية الطبيعية باعتبارها محددًا أساسيًا وموجهاً رئيسًا لحياة الناس، وفقه الحركة الاجتماعية على اختلاف أنواعها باعتبارها الروابط التي تربط بين الناس، وسبر أغوار النفس البشرية، باعتبار الإنسان المحور والأساس في هذا الوجود. ثم تناولت أهمية فقه الواقع، فإذا غفل الإنسان عن واقعه، وأعمى بصره وبصيرته عنه، فإنه لن يعبد الله عز وجل حق عبادته كما أمر، ومن لا يتصفح مع نصوص القرآن وصحيح الحديث حقيقة الواقع المتغير - الذي جعل الله تغيره بلاءً - يعجز عن عبادة الله وعن الاجتهاد، حيث يمكن لفقه الواقع أن يدلنا على منهج الاجتهاد ونوعه المطلوب، كما يفتح لنا باب التجديد، ويضع معالم التغيير، وذلك تحت ضوء المنهاج الشرعي واستمدادًا من أصوله، كما أن الجهل بالواقع والغفلة عنه يؤدي إلى أن يسود الجمود والتحجر والانغلاق، وأن تغيب سعة الإسلام ورحمته، وتندثر مقاصده، ومن ثم تلغى شريعة الله عز وجل من جميع المجالات، وخاصة في ظل حكم الجبر. كما تناولت التطرف في التعامل مع فقه الواقع والذي يدور بين طرفين، الأول: ينادي بالتشبث بالتراث الإسلامي بتفسيراته وتحليلاته ومشخصاته كما هي، ويدعو إلى الكتاب والسنة، دون أن يضع منهجًا للفهم والتعامل معهما ومع التراث الإسلامي، ويرى أن الخلل ليس في ميراث المسلمين وإنما في التابعين. وهذا الطرف أدى به اختياره إلى الحرفية والسكون، وإلى منهج التكفير والتبديع والتحريم، وتضييق حدود الشرع. أما الطرف الثاني: فينادي بتجديد التراث الإسلامي - وضمنه الوحي - باعتباره جامدًا لا يحقق نهضة وتقدمًا في مستوى تقدم الغرب.. فهذا الطرف، وهو المنبهر بالغرب أدى به اختياره إلى العلمانية واللائكية، وهي طامة لم تعرفها القرون السابقة، وقد أشار الكاتب إلى أن وجود هذين "التطرفين" لعله كان الدافع الأساس إلى الكتابة في هذا الموضوع والبحث فيه. أما الفصل الثاني فقد جاء تحت عنوان: الاجتهاد وفقه الواقع، أصول العلاقة، واشتمل على ثلاثة مباحث، حيث تناول في المبحث الأول مكانة الواقع في القرآن الكريم، لكن على سبيل التمثيل لا الاستقراء، ومن ثم فقد تكلم عن القرآن المكي والمدني وما بينهما من الاختلاف في الواقع الزماني والمكاني، كما تكلم عن تناول القرآن لرسالة الأنبياء، فلكل قوم هاد، ولكل رسول قضية، ولم يكن الله عز وجل ليهلك قومًا بالكفر وحده، حتى ينضم إليه الفساد في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، ثم تكلم عن الرسالة الخاتمة، كما تناول عرض القرآن لأنباء الأمم السابقة، وللقصص أثر بالغ في النفوس، تعوض عن الكثير من الكلام، إذ هي واقع حي مماثل يستعرضه علينا القرآن وكأننا نشاهده، حتى نعرف أسباب الهلاك فنتجنبها وأسباب النجاة فنتبعها، كما تناول عرض القرآن لتغيير أحوال الناس الفاسدة، وتقريره لأحوال الناس الصالحة، وتناول أيضا وفاء القرآن بحاجات الناس، ففي القرآن الكريم نماذج كثيرة من هذه النماذج التي تظهر فيها مراعاة النفس الإنسانية وأحوالها العارضة والطارئة والاستثنائية، رفعًا للحرج، ونزولاً عند الضرورة، وكل ذلك يدور مع ما قصد إليه الشرع من مقاصده العليا، وختم بضرب الأمثال في القرآن، فضرب الأمثال في القرآن غرضه تقريب السامع من الحقيقة وإيقاظ ضميره، وتصوير المراد بصورة محسوسة فتتقبلها الأذهان دون عناء، وقد جاءت الأمثال في القرآن الكريم تصور المدح والذم، والاحتجاج والاستدلال، والافتخار والاعتذار، والوعظ وغير ذلك. كما تناول في المبحث الثاني مكانة الواقع في المنهاج النبوي، حيث تعرض لبعض الملامح الأساسية للدعوة النبوية، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم خصبة بمظاهر التعامل مع الواقع واعتباره، ذلك أنها التطبيق الفعلي للقرآن الكريم، وقد تعرض الكاتب لوجهين من مظاهر الواقع، يتمثل الأول في الإجابات المختلفة عن السؤال الواحد الذي كان يوجَّه للنبي صلى الله عليه وسلم من سائلين مختلفين.. ويتمثل الوجه الثاني في صور التعامل مع الواقع في السيرة النبوية الشريفة، والتي منها مخاطبة الناس حسب الأفهام ودرجات الوعي، ومخاطبة الناس حسب قدراتهم، ومراعاة أحوال الناس في المنشط والمكره، واعتبار حاجات الناس والرأفة بهم، والتيسير ورفع الحرج. وتناول في المبحث الثالث مكانة الواقع في سنن الراشدين، إذ إن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع نهج الخلفاء الراشدين، وقد اختار دراسة بعض مظاهر تقدير الواقع في سنة الراشدين، والعناية به في توجيهاتهم وسياستهم باعتبارهم أئمة الفقه وحكام الدولة، وكان الكــلام مركزًا على اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنــه، لما أثيـر حولها من كلام وجدال وأفكار بعيــدة عما قصد إليه رضي الله عنه. أما الفصل الثالث فقد جاء تحت عنوان: الاجتهاد وفقه الواقع، ضوابط العلاقة، واشتمل على ثلاثة مباحث، فتكلم في المبحث الأول عن أي تعامل مع الواقع أو طبقًا له ينبغي أن يؤطر بمقصد من مقاصد الشريعة، فالشريعة ما وضعت إلا لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وفي المبحث الثاني: تكلم عن بعض مصادر التشريع ودورها في ضبط العــلاقة بين الدعوة والواقع، وقد تناول في ذلك القياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والاستصحاب. وفي المبحث الثالث: تكلم عن دور المجتهدين في ضبط العلاقة بين الواقع والدعوة الإسلامية وترجيح ما يتعارض فيها، والشروط الواجب توافرها في أولئك المجتهدين، وأنه لا مناص من اجتهاد جماعي شُوري، يجــمع إلى المجتهدين الفـقـهاء جـمـاعةً مـن العدول، أولي علم بشؤون الدنيا في مجالاتها المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ثم خاتمة في آخر الكتاب ذكر فيها أهم ما توصل إليه في تناوله لهذا الموضوع، وقد حرص الكاتب على ذكر الأمثلة والاستدلال من الكتاب والسنة وعزو النقول إلى مصادرها الأصلية ودفع الشبهات الواردة في الكثير من مفردات هذا الموضوع. وانظر أيضا: تصنيف التاريخ الإسلامي - التاريخ الحديث والمعاصر.