اشتهرت تسمية هذا الكتاب عند أهل العلم بـ"خلق أفعال العباد". ولكن العنوان الكامل فيه إشارة لما تضمنه الكتاب؛ فقد اشتمل الكتاب في أوله على مقدمة طويلة ضمنها الرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، ومن ثم فإن العنوان يدل على الرد على طائفتين: الطائفة التي غلت في الإثبات فجعلت بعض أفعال العباد غير مخلوقة لله، والطائفة الأخرى التي غلت في النفي فأنكرت صفة الكلام لله تعالى. فالجملة الأولى من العنوان رد على الطائفة الأولى، والجملة الثانية رد على الطائفة الثانية. والناظر في الكتاب وفي وقت تأليفه وفيما ذكره العلماء عن البخاري حول مسألة اللفظ يعلم أن البخاري ألفه بسبب ما وقع من الفتنة بين بعض أهل الحديث في هذه المسألة، وقصد بذلك بيان الحق والرد على الغالطين. وقد انتهج فيه البخاري رحمه الله طريقة أهل الأثر وأئمة الحديث والسنة الذين يعظمون نصوص الوحيين ويلتزمون بمنهج السلف الصالح في التلقي والاستدلال والرد على المخالف. فقد ضمنه الرد على الجهمية والمعتزلة والرافضة والمشبهة والقدرية والجبرية واللفظية وغيرهم. وهذه الردود على قيمتها العلمية العظيمة فإنها تهدم أصول البدع الأخرى التي تفرعت عن الجهمية كالأشعرية والماتريدية، فتفيد المسلم معرفة بطلان هذه المذاهب جميعا من إنكار العلو ونفي حقيقة الكلام وتعطيل صفة النزول وغير ذلك من صفات الله تعالى. ومن منهجه رحمه الله في كتابه أنه يسند الأحاديث والآثار على طريقة أهل الحديث. ويتسم أسلوب المؤلف في هذا الكتاب بالاختصار وعدم التوسع في الكلام وترك التكلف والتطويل، إلا أنه في الاستدلال على مسألة الفرق بين القراءة والمقروء أطال وتوسع وأتى بأنواع من الأدلة من القرآن والسنة ومن كلام الصحابة والأئمة المتعلقة بمسألة خلق أفعال العباد وأقوالهم وأن قراءتهم من عملهم، وعملهم مخلوق. فهذا التوسع الذي فعله في هذه المسألة سببه ما وقع من فتنة واشتباه وكثرة خوض بالباطل فيها. وقد اعتذر رحمه الله عن تلك الإطالة بقوله: "وقال الخليل: يقلل الكلام ليحفظ، ويكثر ليفهم، ونحن على قول عمر". ويستفاد من ردود البخاري على المخالفين عدة أمور: منها مناقشة المخالف في ثبوت النص وبيان ضعفه إذا كان ضعيفا، ومنها مناقشة المغالط في الأدلة العقلية وتقرير الصواب فيها على طريقة أهل السنة، فيجمع في الرد بين الاحتجاج بالأخبار والاحتجاج بالحجج العقلية الصحيحة الموافقة لها، ومنها إلزام الخصم باللوازم التي تدل على بطلان قوله، ومنها إثبات تناقض المخالفين لأهل السنة، ومنها الإحاطة بأقوال الناس في المسائل العقدية وإرجاع هذه المسائل إلى مآخذها.