هذا الكتاب المبارك المختصر هو أول المتون في المذهب الحنبلي على الإطلاق، وأشهرها بالاتفاق، وهو من مؤلفات العلامة أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخِرَقي البغدادي، وقد كان من سادات الفقهاء والعُباد، خرج من بغداد مهاجرا إلى دمشق لما كثر بها سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، وأودع كتبه ومصنفاته بدار في بغداد، ولكن الدار احترقت ولم تنتشر مؤلفاته، والذي يظهر أن تأليفه للمختصر كان في أواخر حياته، وهذا بقرينة قوله في آداب الطواف من كتاب الحج : (ثم أتى الحجر الأسود - إن كان - فاستلمه)، فقوله: (إن كان) " دليل على أنه ألفه و "الحجر الأسود" عند القرامطة، فإنهم - لعنهم الله - انتزعوا الحجر الأسود في حج عام 317 هـ، ولم يرد إلى مكانه إلا في عام 339 هـ، أي بعد وفاة الخرقي بنحو خمس سنين؛ حيث توفي الخرقي بدمشق عام 334 هـ وهو أول حنبلي دفن بها. وقد أوضح الخرقي غايته من هذا الكتاب بقوله: (اختصرت هذا الكتاب على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه ليقرب على متعلمه، مؤملا من الله عز وجل الثواب، وإياه اسأل التوفيق للصواب)، والخرقي قد جرى على طريقة أصحاب الإمام الشافعي فحذا في ترتيب مختصره حذو المزني في ترتيب مختصره؛ إذ جعل الجهاد بعد الحدود، وختم مختصره بالعتق، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب. والموفق ابن قدامة قد التزم ترتيب الخرقي في كتابه المغني؛ حيث يقول: (ثم رتبت ذلك على شرح مختصر أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي - رحمه الله -، لكونه كتابا مباركا نافعا، ومختصرا موجزا جامعا، ومؤلفه إمام كبير، صالح ذو دين، أخو ورع، جمع العلم والعمل، فنتبرك بكتابه، ونجعل الشرح مرتبا على مسائله وأبوابه، ونبدأ في كل مسألة بشرحها وتبيينها، وما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها، ثم نتبع ما يشابهها مما ليس بمذكور في الكتاب، فتحصل المسائل كتراجم الأبواب)، وقد جاء الكتاب مشتملا على الفروع الفقهية مقسمة إلى كتب وأبواب وفصول ومسائل، مبتدئا بأبواب العبادات المشتملة على أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم المعاملات المفتتحة بالبيوع ويليها أبواب المعاملات المختلفة كالرهن والصلح والإجارة وضم إليها الوصايا والفرائض، ثم تناول أحكام الأسرة مبتدئا بالنكاح ثم بصور الفراق المختلفة وما يتبعها من أحكام، ثم تناول أحكام الجراح والديات والحدود والجهاد، ثم الصيد والذبائح والأيمان والكفارات، ثم القضاء والقسمة والشهادات والدعاوى، ومختتما بالعتق. وقد استطاع الخرقي أن يجمع في إحكام مذهب الإمام أحمد، وأن يتقن سَوق مسائله في يسر واختصار، مما جعله المتن المعتمد في المذهب، وقد تلقاه العلماء بالقبول، وعُنُوا به أشد العناية، لغزارة علمه مع صغر حجمه وقلة لفظه، فتناولوه بالشرح والنظم والعد لمسائله والتخريج لأحاديثه والشرح لغريبه وغير ذلك، ولم يخدم كتاب في المذهب مثل ما خدم هذا المختصر ولا اعتني بكتاب مثل ما اعتني به، حتى إنه قيل إنه شُرح بثلاثمائة شرح، وأعظم شروحه وأشهرها وأوفاها هو كتاب المغني للموفق ابن قدامة. وقد اشتهر هذا المختصر في طبقة المتقدمين، والمتوسطين، وتوالت خدماتهم عليه، فكان الأشياخ في هاتين الطبقتين يتداولونه بالرواية: قراءة، وإقراء، وحفظا، وكتابة، حتى صار من مزايا المترجَم له: الإشارة إلى حفظه المختصر وقراءته، وإقرائه، وكتابته. وللكتاب عدة طبعات محققة، ولكنها لا تخلو من النقص، ومن ذلك الطبعة التي بين أيدينا والتي تخلو من تخريج الأحاديث، على الرغم من أن الطبعات التي قبلها قد قامت ببعض ذلك، ولعل الرجوع إلى نسخة المغني بتحقيق عبد المحسن التركي وعبد الفتاح الحلو تسد ما جاء من خلل في نسخ مختصر الخرقي المنفصلة؛ حيث جاءت النسخة بتحقيق جيد لمتن الخرقي ولشرحه معا، والله أعلم.