المقدمة تعد معلما بارزا في علم السياسة والاجتماع والحضارة الإسلامية، وهو كتاب ألفه ابن خلدون كمقدمة لمؤلفه الضخم "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".وقد جاءت المقدمة في ستة أبواب: الباب الأول في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض؛ والثاني في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية؛ والثالث في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السّلطانية؛ والرابع في العمران الحضري والبلدان والأمصار؛ والخامس في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه؛ والسادس في العلوم واكتسابها وتعلّمها. وقد اعتبرت المقدمة لاحقا مؤلفا منفصلا ذا طابع موسوعي إذ يتناول فيه جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب. وقد تناول فيه أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان. كما تناول بالدراسة تطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها مركزا في تفسير ذلك على مفهوم العصبية. وبهذا الكتاب سبق ابن خلدون غيره من المفكرين إلى العديد من الآراء والأفكار حتى اعتبر مؤسسا لعلم الاجتماع، سابقا بذلك الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت.ويمكن تلخيص المقدمة في مجموعة نظريات وأسس وضعها ابن خلدون لتجعل منه المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، على عكس ما يدعيه علماء الغرب أن المؤسس الحقيقي هو الفرنسي أوغست كونت. ومن خلال قراءة المقدمة يمكن وضع ثلاثة مفاهيم أساسية تؤكد ذلك وهي أن ابن خلدون في مقدمته بَيَّن أن المجتمعات البشرية تسير وتمضي وفق قوانين محددة وهذه القوانين تسمح بقدر من التنبؤ بالمستقبل إذا ما دُرست وفُقهت جيدا، وأن هذا العلم (علم العمران كما أسماه) لا يتأثر بالحوادث الفردية وإنما يتأثر بالمجتمعات ككل، وأخيرا أكد ابن خلدون أن هذه القوانين يمكن تطبيقها على مجتمعات تعيش في أزمنة مختلفة بشرط أن تكون البُنى واحدة في جميعها، فمثلا المجتمع الزراعي هو نفس المجتمع الزراعي بعد 100 سنة أو في العصر نفسه. وبهذا يكون ابن خلدون هو من وضع الأسس الحقيقية لعلم الاجتماع. اعتبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها. اقد قامت دراسات عديدة بدراسة المقدمة والتعليق عليها، ولعل من أفضلها "قيام الدول وسقوطها" لمحمد العبدة، حيث بين ما قام به ابن خلدون من دراسة ظاهرة الاقتصاد بشكل عام، وأثر الاقتصاد الزراعي والصناعي على المجتمعات، وأثر المهن والكسب في ثروة الأمة والعلاقات الاجتماعية، كما أطال النفس في أسباب قيام الدول وسقوطها، وأنواع الدول وأعمارها، كما تكلم عن تاريخ العلم والتعلم في العصور الإسلامية، إلى غير ذلك من الظواهر الاجتماعية.وقد كان الباعث على كتابتها أن ابن خلدون بدأ مشروعه التاريخي، واطلع على مؤلفات المؤرخين من أمثال البلاذري والمسعودي والطبري والواقدي، فتنبه إلى وجود أغلاط كبيرة وقع فيها هؤلاء، وذلك بسبب عدم التحقيق في الخبر، هل يصح وقوعه أم لا، وهل يتعارض مع العلم أو مع طبيعة العمران البشري أو طبيعة العصر، فبدأ في وضع أصول وقواعد هذا العلم الشريف "علم العمران".