هذا الكتاب مختصر لكتاب آخر للمؤلف هو "المبسوط". والكتاب ليس كاملا بل هو قطع متفرقة. وهو يعد موسوعة فقيهة حديثية خاصة فيما يتعلق بمذاهب العلماء ومواطن اتفاقهم واختلافهم. وتأتي أهمية الكتاب أولا من مكانة مصنفه؛ فابن المنذر من أعلام العلماء المطلعين على اختلاف الفقهاء وإجماعهم، وهذا أمر لا ينازع فيه أحد، فهذا الإمام النووي يقول عنه: "وقد عَلِمَ كلُّ منصف ممن له أدنى عناية: أن ابن المنذر إمام هذا الفن، أعني: نَقل مذاهب العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وأنّ معوَّل الطوائف في نقل المذاهب عليه". وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "عليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف". ثم إن الكتاب مرجع مهم لمن يريد الوقوف على مذاهب أهل العلم في مسائل الفقه، لا سيما العلماء الذين ذهبت مصنفاتهم؛ فنقل كلام الأوزاعي بتوسع شديد في معظم كتابه، والأوزاعي إمام صاحب مذهب معتبر، ونقل عن أبي ثور كلاما طويلا لم نجده إلا عنده، وعن الشافعي أيضا في القديم، فالكتاب يعتبر نسخة مساعدة لضبط نصوص الأئمة من مصنفاتهم بإسناده. بل إن كتاب "الأوسط" يعتبر مصدرا ثالثا بعد المصنِّفَيْن: (عبد الرزاق، وابن أبي شيبة) في ذكر الآثار عن الصحابة والتابعين. وقد احتوى الكتاب على ٣٣٤٥ نصا يتنوع بين أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة على الصحابة والتابعين. وقد انفرد الكتاب بعدة آثار لم يذكرها غيره، ومن ذلك ما ذكره في كتاب أحكام السرقة، باب ذكر الخيانة؛ ساق بإسناده أثرا عن جابر قال: "أضاف رجل رجلا فأنزله في مشربة له فوجد عنده متاعا له قد احتازه فأتى به أبا بكر..." وغير هذا. وقد قسم المؤلف كتابه إلى كتب فقهية ولكنه لم يبوب للمسائل داخل الكتاب الواحد؛ بل كان يذكر عناوين ويسوق تحتها المسائل التي يريد الحديث عنها. ويتمثل أسلوب المصنف في كتابه في البدء بذكر المسألة الفقهية، ثم يذكر بعدها الدليل من القرآن ثم من السنة. وكان من طريقته في الكتاب أنه إن كان في المسألة حديث صحيح قال: ثبت عن النبي كذا، أو صح عنه كذا. وإن كان فيها حديث ضعيف قال: رُوِّينا، أو يُروى عن النبي كذا. وقد امتاز الكتاب أنه تكلم على الأحاديث والآثار صحة وضعفا، بل وعلى الرجال جرحا وتعديلا؛ فنرى العلماء في كتب العلل يعتمدون على قوله. كما يتميز بأنه لا يميل إلى عالم دون عالم ولا يتعصب لمذهب دون مذهب وإنما يرجح ما يرى أنه موافق للدليل الصحيح فيقول به ويدور معه. وكان الكتاب قد طبع بدار طيبة بتحقيق الدكتور صغير أحمد بن محمد حنيف - الذي حصل على رسالة الماجستير بتحقيق كتاب الحدود منه، وحصل على الدكتوراه بتحقيق كتاب القصاص منه - طبع الكتاب بتحقيقه في ستة مجلدات من الجزء الأول إلى الخامس ثم المجلد الحادي عشر ونقص منه كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف والحج والضحايا والذبائح وعدة أبواب من كتاب الجهاد، وكان قد أعلن أن الكتاب سيصدر في عشرين مجلدا لكنه توقف عند القدر المطبوع المذكور آنفا. ثم قام مجموعة من المحققين بدار الفلاح بتحقيق الكتاب مستدركين ما وقع في طبعة دار طيبة من أخطاء وتصحيفات ومستكملين ما لم يطبع من الكتاب وبلغ قدر ما زادوه قرابة سبع مجلدات ونصف ابتداء من النصف الثاني من المجلد السادس إلى الربع الأول من المجلد الرابع عشر وباقيه مع المجلد الخامس عشر كان للفهارس العلمية ، ومع ذلك لا تزال هناك فجوة في الكتابين فجزء من الكتاب ناقص وهو الذي يتضمن كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف والحج والضحايا والذبائح وبعض أبواب الجهاد، وذلك في الطبعتين. ولكن قد أحسن القائمون على كتاب الأوسط طبعة دار الفلاح بالمسارعة في إخراج الأجزاء الموجودة من نسخ الكتاب الخطية، حتى يستفيد منه المسلمون، مع ما قاموا به من خدمة للكتاب بتحقيق نصوصه والتعليق عليه.