يعد كتاب "البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والعليل في مسائل المستخرجة" من أمهات مصادر الفقه المالكي. وهو -كما هو ظاهر من اسمه- شرح وتوجيه وتعليل لمسائل كتاب "المستخرجة" لمحمد بن أحمد العتبي (ت٢٥٥ه) من تلامذة الإمام مالك. وتأتي أهمية الكتاب أن ابن رشد أودعه جميع معارفه الفقهية التي اكتسبها من جميع دراساته وما كتبه عليها أئمة المذهب من شروح واختصارات وتفريعات وزيادات وتعليقات. وقد استوعب جميع مسائل "المستخرجة" و"المدونة" اللّتين كان فقهاء الغرب الإسلامي في القرون الأولى يتسارعون في حفظهما وتدارس ما كُتب حولهما. وقد استغرق تأليفه اثنتي عشرة سنة. وعن سبب تأليف ابن رشد للكتاب يقول في مقدمته أن جماعة من فقهاء جيّان أصحاب ابن رشد جاؤوه في صدر (٥٠٦هـ)، وبعض الطلبة من أهل شلب يقرأ عليه في كتاب الاستلحاق من العتبية، فمر بمسألة أشكلت على القارئ والحاضرين، فشرحها لهم بما أزال غموضها، ورغبوا إليه أن يتتبع عَويص هذا الكتاب بالشرح والبيان، فردَّ عليهم ابن رشد بأن العتبية كلها بحاجة إلى توجيه وتوضيح، فاشتد إلحاحهم، فلم يجد ابن رشد بُدًّا من الشروع في تحرير كتاب البيان والتحصيل، حتى إذا حلّ عام (٥١١هـ) وقد أكمل نيفا وخمسين جزءا، أي نحو نصف الكتاب، امتُحن بالقضاء، وشغلته أمور المسلمين عن التأليف، فلم يعد يتفرغ إليه إلا يوما واحدا في الأسبوع ينقطع فيه عن الناس، ومضت أربعة أعوام هكذا في القضاء لم ينجز خلالها الشيخ إلا أربعة كتب أو خمسة، قال: "فأيست من تمامه في بقية عمري إلا أن يريحني الله تعالى من ولاية القضاء، وكنت من ذلك تحت إشفاق شديد وكرب عظيم، وذكرتُ ذلك لأمير المسلمين" فعافاه. وتدارك ابن رشد ما فاته أيام القضاء بعد إعفائه منه أواسط (٥١٥هـ)، فأقبل بكليته على كتابة ما بقي من البيان والتحصيل حتى أتمه مستهل ربيع الآخر من عام (٥١٧هـ). وجلس ابن رشد في أول محرم من عام (٥١٨هـ) لإسماع كتابه البيان والتحصيل بعد أن استخرج منه أصلا سمح للناس أن يكتبوا منه، فكان يقرأ فيه تلميذه ابن مسرّة، والشيخ ممسك بالمسودة التي نقل منها ذلك الأصل وقُوبل بين يديه. وأما عن أسلوبه في الكتاب فقد ذكره واضحا في مقدمته قائلا: "أذكر المسألة على نصها، ثم أشرح من ألفاظها ما يفتقر إلى شرحه، وأُبَيّن من معانيها بالبسط لها ما يحتاج إلى بيانه وبسطه، وأحصل من أقاويل العلماء فيها ما يحتاج إلى تحصيله، إذ قد تتشعب كثير من المسائل وتفترق شعبها في مواضع، وتختلف الأجوبة في بعضها لافتراق معانيها، وفي بعضها باختلاف القول فيها، فأبين موضع الوفاق منها من موضع الخلاف، وأحصل الخلاف في الموضع الذي فيه منها الخلاف، وأذكر المعاني الموجبة لاختلاف الأجوبة فيما ليس باختلاف، وأُوَجّه منها ما يحتاج إلى توجيهٍ بالنظر الصحيح والرد إلى الأصول والقياس عليها، فإن تكررت المسألة في موضع آخر دون زيادة عليها ذكرتها في موضعها على نصها، وأحَلتُ على التكلم عليها في الموضع الأول؛ وإن تكررت في موضع آخر بمعنى زائد يحتاج إلى بيانه والتكلم عليه كتبتها أيضا على نصها وتكلمت على المعنى الزائد فيها، وأحلت في بقية القول فيها على الموضع الذي تكلمت على المعنى الزائد فيه من الرسم والسماع الذي وقع الكلام فيه عليها، ليكون كل من أشكل عليه معنى من المعاني في أي مسألة كانت من مسائل الكتاب طلبها في موضعها من الكتاب، فإما أن يجد التكلم عليها فيه مُسْتَوفى، وإما أن يجد الإحالة على موضعه حيث تقدم".