أصل هذا الكتاب رسالة ماجيستير ناقشها المصنف في قاعة المعهد العالي للقضاء بالرياض، وقد أجيزت بتقدير ممتاز. وهذه الرسالة هي واحدة من ثمار تتبع المصنف لفقه ابن القيم في كل ما وصل إلينا من كتبه وهي واحدة وثلاثين، وقد أوضح أنه في هذه الرسالة وحدها استقرأ أربعة عشر كتابا من كتب ابن القيم، وذلك لما لفقه هذا العالم الجليل من ميزة عزّ أن يجدها الباحث في غيرها من الكتب الفقهية، ألا وهي إقرانه للأحكام الفقهية وما يترجح له فيها من تبيان للحكم والأسرار التشريعية، ولا يخفى أن ابن القيم كشيخه ابن تيمية يتميز بانتهاجه منهج المحققين من أهل العلم واعتماد الدليل أساسا للتشريع، إضافة إلى ما في مناقشاته للآراء الأخرى من إثراء للمجتهد عامة وللقاضي خاصة في منهج الاستدلال والمناقشة. وقد أوضح المصنف أن هذا هو أحد أهم بواعثه إلى تصنيف هذا الكتاب إضافة إلى دحض افتراءات المستشرقين وأذنابهم حول وحشية العقوبات الإسلامية. والكتاب يتضمن مقدمة وستة أبواب وخاتمة؛ ففي المقدمة تناول جملا عامة حول موضوع الكتاب وهي كالتوطئة له مثل الحدود ومعناها واصطلاحات الفقهاء في تناولها. وفي المقدمة خمسة مباحث في آثار الحدود شرعا وقدرا، وحكم إقامة الحد في دار الحرب، ومسألة تأخير الحد لأمر عارض، والقرائن المعتبرة في إقامة الحد، ومتى تسقط التوبة الحد. وبعد أن انتهي المصنف من هذه التوطئة شرع في ذكر حدود خمسة في خمسة أبواب، مآلها كلها إلى حفظ الضروريات الخمس؛ ففي الباب الأول تناول حد الزنا وفيه حفظ النسب والنسل، وفي الباب الثاني حد القذف وفيه حفظ العرض، وفي الباب الثالث حد الخمر وفيه حفظ العقل، وفي الباب الرابع حد السرقة وفيه حفظ المال، وفي الباب الخامس حد الردة وفيه حفظ الدين. وفي الباب السادس تناول التعزير فيما هو دون الحد. وهو في ذلك كله سلك مسلكين رئيسين: المسلك الأول: عرض كلام ابن القيم ومأخذه استقراء من كتبه المختلفة وقد أوضح أن منهج ابن القيم إضافة إلى تناوله للخلاف في المسألة وترجيحه بين كلام الفقهاء فإنما يسهب في ذكر الحكم والأسرار العظيمة في التشريع وكيف أن الشرع أحاط هذه المحارم بسياج منيع وشرائع كلها رحمة وحكمة وعدل، والمسلك الثاني هو عرض كلام الفقهاء وخلافهم، والموازنة بين آرائهم ورأي ابن القيم ثم يرجح ما يؤيده الدليل. وختم الكتاب بخاتمة تضمنت خلاصة مركزة لأهم نتائج البحث، وعرض فيها اختيارات ابن القيم مصنفة تبعا لموافقته أو مخالفته للمذاهب، وأوضح أن مخالفته للمذاهب الأربعة ليست نقضا للإجماع، لحكاية الخلاف في مثلها عن السلف. وكذا ذكر المواطن التي خالف فيها مذهب الإمام أحمد، مبينا تجرده للحق واتباعه للدليل وإن خالف مذهبه. ثم أردف ذلك بالمواطن التي تعقب فيها هو نفسه ابنَ القيم وهي يسيرة وبين مأخذه في كل تلك التعقبات. ويتميز الكتاب بقوة اللفظ ورصانته، والدقة المتناهية في اختيار الألفاظ – وانظر مثالا لذلك في تفريقه بين المقارنة والموازنة في مقدمة الكتاب - كما يتميز بحسن العرض والتقسيم ووضع عناوين جانبية توضح النقاط التفصيلية لكل مبحث، ويظهر فيه العناية الفائقة بفقه ابن القيم وبذل الجهد الجهيد في جمع وترتيب كلامه بحيث يخرج في صورة متناسقة متتابعة. وهو بحق لا غنى عنه لمن يتصدر للاجتهاد أو القضاء، ويمثل إضافة متميزة للمكتبة الإسلامية، كما هو الشأن في كل كتب المصنف.