كتاب "الإبهاج في شرح المنهاج" للتقي السبكي وابنه التاج رحمهما الله، وهما من أئمة الفقه والأصول، وقد أجمعت المصادر كلها على صحة نسبة كتاب "الإبهاج في شرح المنهاج" لهما، فالكتاب ابتدأ شرحه الإمام تقي الدين السبكي، إلا أنه لم يشرح منه إلا جزءا يسيرا؛ حيث انتهى إلى مسألة "مقدمة الواجب"، ثم أكمله الإمام تاج الدين؛ حيث بدأ من قول المصنف: "الرابعة: وجوب الشيء مطلقا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به وكان مقدورا"، وقد ذكر محققي الكتاب بعض النقول التي تدل على أنه بدأ الشرح في حياة والده. وقد أشار تاج الدين إلى باعثه على شرح المنهاج، فقال: (وقد نظرنا فلم نر مختصرا أعذب لفظا وأسهل حفظا وأجدر بالاعتناء وأجمع لمجامع الثناء من كتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول للشيخ الإمام العالم العلامة قاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي). وقد سار الشرح على نفس ترتيب وتقسيم المتن، والذي تم تقسيمه إلى مقدمة وسبعة كتب، أما المقدمة، ففي الأحكام ومتعلقاتها، وفيها بابان، الأول في الحكم ويشمل ثلاثة فصول تناولت تعريف الحكم، وتقسيماته، وأحكامه، والثاني فيما لابد للحكم منه، ويشمل ثلاثة فصول تناولت الحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم به، أما الكتب السبعة فقد تناولت معرفة دلائل الفقه الإجمالية ومعرفة كيفية الاستفادة منها ومعرفة حال المستفيد؛ فأما دلائل الفقه فعقد لها خمسة كتب منها أربعة للأربعة المتفق عليها بين الأئمة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والخامس للمختلف فيها، وتناول فيها الأدلة المقبولة والمردودة، وأما كيفية الاستفادة وهي الاستنباط فعقد لها الكتاب السادس في التعادل والترجيح، وأما حال المستفيد فعقد له الكتاب السابع في الاجتهاد. وقد أشار محققي الكتاب إلى منهج تقي الدين السبكي؛ حيث إن المتأمل لشرحه رحمه الله يلاحظ أنه يُملي من حفظه، ويكتب من فكره؛ لأنه لا يعتني بالنقل عن غيره كثيرا، بل يتميز مؤلَّفه بأسلوب مستقل، واعتناء كبير بتحقيق المسائل والتنبيه على دقائق الشرح، والاستدراك على شُراح المنهاج، وتبيين ما أخطأ فيه بعضهم. إلا أن أسلوبه رحمه الله يتميز بالصعوبة والغموض في بعض الأحيان، وذلك إذا أغرق في بحث المعقولات، كما أن السبكي رحمه الله قد يطيل حينما لا يكون قد سُبق على تحقيق المسألة، وذلك كمسألة الكلام عن أقسام التصورات الأربعة الذي فصل فيه .. ثم قال: "وقد أطلنا في هذا لأنا لم نجد من حققه هكذا". أما منهج تاج الدين، فقد أشار في بعض مواطن الكتاب لملامح هذا المنهج؛ حيث يقول: (وأنا من عادتي في هذا الشرح الاطناب فيما بدون في غيره ولا يتلقى إلا منه بحث مخترع او نقل غريب أو غير ذلك والاختصار في المشهور في الكتب؛ إذ لا فائدة في التطويل فيما سبقنا من هم سادتنا وكبراؤنا الى جمعه وهل ذلك إلا مجرد جمع من كتب متفرقة لا يصدق اسم المصنف على فاعله)، ويقول أيضا: (وقد راعينا فيه جانب التوسط لأن الكتاب مختصر فالأليق بشارحه أن يحذو حذوه ولا يتعدى ممشاه فوق خطوه، وقد كنا نروح ونغدو على المسألة وربما لم نخرج عن حد الشرح قدر أنملة، وفي النفس حزازات من مباحث نترك ذكرها خشية التطويل ونسلك في الإضراب عنها سبيل غيرنا، وإن كنا لا نرتضي تلك السبيل، على أنا لم نأل جهدا فيما وضعناه، ولم نرض إلا أن نحله محل النجم، وفي الظن أنا ما أنصفناه، فإنا لم نغادر صغيرة ولا كبيرة مما يطالب الشارح بها إلا وقد جمعناها فيه مع زيادات من نقول وفوائد يهيم الفهم إذا سمعها طربا ..). وقد استفاض محققي الكتاب في بيان منهج تاج الدين في الشرح، مع تعضيد ذلك بالأمثلة، ولعلنا نكتفي ببعض الملامح هنا، فمن ذلك تعامله رحمه الله مع المصادر فقد كان دقيقا في النقل ومتحريا فيه، كما كان يكثر من الاقتباس من مصادر أصولية بالنص أحيانا وبالمعنى، وكان رحمه الله لا يذكر مسألة من مسائل أصول الفقه، إلا ويوثقها من مصادرها الأصلية، إلا أنه أحيانا ينقل بالواسطة، ولا ينقل مباشرة من المصدر، إما لعدم توفره، أو لدقة نقل الواسطة عن الأصل. ويظهر ذلك جليا على وجه الخصوص في نقله آراء الحنفية في الأصول، وكان الأولى أن ينقل من مصادر أصول الحنفية، وكان ينقل بعض الآراء مشافهة، تلقاها من بعض شيوخه، وعلى رأس هؤلاء والده رحمه الله، وشيخه الذهبي. أما من جهة منهجه في النقد، فقليل هم العلماء الذين يتميزون بشخصية في النقل فلا ينقلون كل ما جاء بأيديهم من آراء، بل يتخيرون بينها، وإن نقلوا أمرا لا يرضونه بينوا وجهة نظرهم فيما نقلوه، وكذلك كان شيخنا تاج الدين السبكي كان إماما في النقد، بل مدرسة من مدارس النقد الأصولي، فلا يكاد يمر على رأي لا يرتضيه إلا علق عليه وبين وجه الخلل فيه، وفي كل ذلك كله، لا ينسى أدب المناظرة، والتخلق مع العلماء. وقد اهتم التاج اهتماما بالغ النظير بالمسائل الأصولية، لا من حيث الشرح والتوضيح فحسب، بل حقق المسائل وأماط اللثام عن الكثير من الفوائد، ولا يمر موضوع من الموضوعات إلا ويقدم له بمقدمة أو تمهيد يبين فيه خلاصة الموضوع وتقسيماته، مع بيان موضع الخلاف وتحرير محل النزاع فيه، ولم يقف عند الشرح وإيراد كلام العلماء فحسب، بل كان يختار بينها أحيانا، أو يختار رأيا خاصا به، هذا بالإضافة لعنايته بالفوائد الأصولية، وتفصيل بعض المسائل تفصيلا لا تجده عند غيره، وذكره لأمور لم يُسبق إليها. والنسخة التي بين أيدينا هي نسخة محققة قدمت لنيل درجة الدكتوراه، وقد بذل فيها جهدا طيبا مباركا.