هذا الكتاب القيم من تأليف العلامة الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر بن الجارود النيسابوري، إمام كبير من أئمة السلف الصالح، كان فقيها محدثا ثقة كما وصفه ابن القطان في كتاب "بيان الوهم والإيهام"، وهو إمام مجتهد غاية في التمكن من العلم في الحديث والفقه فلا يتقيد بمذهب بعينه بل يختار ما وافق الدليل الصحيح. قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 491): (قال الشيخ محيي الدين النواوي: له من التحقيق في كتبه ما لا يقاربه فيه أحد، وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل. قلت: ما يتقيد بمذهب واحد إلا من هو قاصر في التمكن من العلم، كأكثر علماء زماننا، أو من هو متعصب، وهذا الإمام فهو من حملة الحجة، جار في مضمار ابن جرير، وابن سريج، وتلك الحلبة، رحمهم الله).وهذا الكتاب يتميز بأنه من كتب المتقدمين، جمع فيه ابن المنذر بين طريقة المحدثين في شروح الحديث وبين طريقة الفقهاء في كتب الفقه، فيذكر الأحاديث بأسانيده إلى النبي ﷺ ثم يذكر الفقه المستنبط منها، وقد يتكلم على بعض الأحاديث من حيث الصحة والضعف، وهذه الطريقة تقوي الطالب حديثيا وفقهيا فيكون عالما بالدليل رواية ودراية. والمؤلف اختصره من كتاب آخر له، وأغلب الظن أنه "الأوسط" للتشابه في ترتيب الأبواب وفي ترتيب المادة العلمية داخل الأبواب، واشتماله على ما في المختصر في الأغلب. وقد ضم المؤلف في مجلدين جميع الأبواب الفقهية ولم يقتصر فيها على مذهب محدد، فبدأ بكتاب الطهارة شرع فيه بباب الوضوء؛ ثم كتاب الصلاة؛ ثم كتاب الزكاة؛ ثم كتاب الحج؛ ثم كتاب البيوع؛ ثم كتاب الأيمان والنذور؛ ثم كتاب الفرائض؛ ثم كتاب النكاح؛ ثم كتاب الطلاق؛ ثم كتاب الخلع؛ ثم كتاب الإيلاء؛ ثم كتاب الظهار؛ ثم كتاب اللعان؛ ثم كتاب الإحداد؛ وسائر الكتب انتهاء بكتاب الإقرار. فالكتاب مستوعب لجميع أبواب الفقه من أول كتاب الطهارة إلى الإقرار على الرغم من اختصاره. ومنهج المؤلف في مصنفه أنه يبدأ كل باب بحديث مسند، وقد يذكر قبله بعض الآيات القرآنية، ثم يذكر الأحكام الفقهية المستخرجة من هذه الأدلة ومن غيرها مما يدخل تحت هذا الباب، ويشرح بنفسه قائلا (قال أبو بكر)، ويورد كذلك آراء فقهاء الصحابة. ويتميز كتاب (الإقناع) بسهولة عبارات المؤلف، إذ لم يتقعر في الكلام ويأت بغريب الألفاظ، وإنما تكلم بكلام واضح يسهل فهمه للقارئ وكأنه معاصر لنا، إضافة لكون كلامه مختصرا. كما يتميز بنقل الإجماع في كثير من المسائل، فمطالعته تفيد الطالب في معرفة الإجماع الوارد في كثير من المسائل دون الحاجة للرجوع للكتب الأخرى الخاصة بالإجماع. وقد اقتصد في ذكر أدلة الأحكام وأقوال العلماء أول الكتاب، بينما توسع في ذلك في وسط الكتاب وآخره، لكنه لا يستدل إلا للرأي الذي يرجحه، ونجد أن أغلب الأحاديث التي استدل بها غير مسندة، وبعضها فقط مسند. وفي الجملة فهو كتاب مختصر نافع يجدر أن يعتني به كل مشتغل بالعلم، فإنه يصلح أن يكون تعليما للمبتدي وتذكيرا للمنتهي، وهو مقدم على كثير من المتون الفقهية للمتأخرين التي خلت من الأدلة الشرعية وملئت بالأقوال الضعيفة والباطلة. وهذه طبعة محققة تحقيقا موسعا ومخرجة الأحاديث لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين. وقد ذكر المحقق في مقدمته أن هذا هو (الكتاب الوحيد من كتب هذا الإمام الذي وجد كاملا مشتملا على آرائه الفقهية!) ولا شك أنه قال ذلك قبل رؤيته لكتاب الإمام ابن المنذر (الإشراف على مذاهب العلماء) كاملا فإنه حينذاك لم يكن طبع منه إلا بعض الأجزاء، ثم بعد ذلك وفق الله الدكتور أبا حماد صغير أحمد الأنصاري فقام بتحقيق كتاب (الإشراف على مذاهب العلماء) وطبع كاملا بفضل الله تعالى، وهو من الموسوعات الفقهية القيمة التي غفل عنها كثير من الشيوخ وطلبة العلم.ولو قال قائل: إن هذا الكتاب هو الوحيد المسند من كتب هذا الإمام الذي وجد كاملا مشتملا على آرائه الفقهية لكان صوابا.