كتاب "الإشراف" في حقيقته هو مختصر لكتاب "الأوسط" كلاهما لابن المنذر رحمه الله؛ فقد أوجز هنا ما فصَّله هناك من ذكر أسانيد الأحاديث وأسانيد آثار الصحابة، كما اختصر جانبا كبيرا من أدلة المذاهب وحجتهم ومناقشتها. وترجع أهمية الكتاب أولا إلى مكانة مصنفه؛ فابن المنذر هو شيخ فقهاء عصره، وصاحب التصانيف التي لم يصنَّف مثلها، مع اطلاعه على أعظم الآثار الفقهية في أيامه وقبل أيامه. ويعد كتابه "الإشراف" من أعظم الكتب التي أُلِّفت في علم الاختلاف، وأكثرها على المشتغلين بالفقه المقارن عائدة، ولكن على جلالة قدر الكتاب فإنه بعيد الشهرة في عالم المؤلفات والتصانيف، وذلك باعتراف الموافقين له والمخالفين من العلماء والفقهاء والمحدثين. أما عن أسلوب ابن المنذر في مناقشة الأدلة فإنه يستقرئ الأقوال في المسألة أولا ويذكر مذاهب الفقهاء، ثم يقول في أحدها: وبهذا أقول. وقد يذكر دليله في بعض المواضع، ولا يتقيد في الاختيار بمذهب أحد بعينه، ولا يتعصب لأحد على أحد، بل اتخذ الدليل ميزانا. أما محتوى الكتاب فقد انقسم على جزأين في هذه الطبعة؛ تضمن الجزء الأول كتب الشفعة، والشركة، والرهون، والمضاربة، والحوالة، والكفالة، والحجر، والتفليس، والمزارعة، والمساقاة، والاستبراء، والإجارات، والوديعة، واللقيط، والإباق، والمكاتب، والمدبر، وأحكام أمهات الأولاد، والهبات والعطايا والهدايا، والنذور والأيمان، والمحاربين. أما الجزء الثاني فإنه يشتمل على كتب: الحدود، والقصاص والجراح، والديات، والمعاقل، والقسامة، والمرتد، والعتق، والأطعمة، والأشربة، وقتال أهل البغي، والسحر والساحرة، والقسمة، والوكالة، والغصب. ولا غرابة في أن تكون مصادر الكتاب متنوعة؛ فابن المنذر يعتمد في نقل الفقه الحنفي على كتب أصحاب أبي حنيفة الأولين خاصة محمد بن الحسن، كما اعتمد على موطأ مالك وكتاب المدونة، والمسائل التي اتفق عليها الإمام أحمد وإسحق، ومسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني. كما أنه أحاط بكتب الشافعية ولا سيما الأم والرسالة للشافعي، ثم مختصر المزني فإنه لا نظير لها. ويمتاز الكتاب كالأصل بأن مؤلفه لم يشايع مذهبا من مذاهب الفقهاء، ولم ينتصر لفريق دون آخر من أهل العلم؛ بل إنه يدور مع ظهور الدليل ودلالة السنة الصحيحة، ويقول بها مع من كانت. ويرجع ذلك إلى كون ابن المنذر من أصحاب الحديث ممن لا يأخذون بالرأي إلا قليلا. وليس أدل على ذلك من قول صاحب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم": "وأما أصحاب الحديث فالحنبلية، والراهوية، والأوزاعية، والمنذرية". وقد ذكر تاج الدين السبكي أن عدة الاجتهاد كانت مجتمعة لديه، وأنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق. ولكن مع كل هذا فهو معدود من أصحاب الشافعي، وهو مذكور في جميع كتبهم في الطبقات.