يعد هذا الكتاب ردًّا على على شبهات النصارى وتضليلهم. وتأتي أهميته من كونه من أغزر ما كتب في هذا الباب مما جعله عمدة في علم مقارنة الأديان. قال عنه ابن عبد الهادي في "العقود الدرية": "وهذا الكتاب من أَجَلِّ الكتب وأكثرها فوائد، ويشتمل على تثبيت النبوات وتقريرها بالبراهين النيرة الواضحة، وعلى تفسير آي كثير من القرآن، وعلى غير ذلك من المهمات". وقد ذكر ابن تيمية أن سبب تأليفه للكتاب هو الرد على رسالة تنسب إلى أحد علماء النصارى، وهو (بولس) الراهب، أسقف (صيدا) الأنطاكي، والذي سمى رسالته: (الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم)، وقد ضمن هذا الأسقف رسالته الاحتجاج لدين النصارى بما يحتج به علماء دينهم من الحجج السمعية والعقلية، والاستدلال على عقيدة التثليث، وتناسخ الأرواح، والاتحاد والحلول، وغير ذلك من معتقدات النصارى، وصارت هذه الرسالة عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم ويتناقلونها بينهم، وما زالت إلى الآن معتمد النصارى ومستندهم في حواراتهم ومناظراتهم. فتصدى شيخ الإسلام ابن تيمية للرد عليها قائلا: "وكان من أسباب نصر الدين وظهوره، أن كتابا ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى، بما يحتج به علماء دينهم وفضلاء ملتهم، قديما، وحديثا من الحجج السمعية، والعقلية، فاقتضى ذلك أن نذكر من الجواب ما يحصل به فصل الخطاب، وبيان الخطإ من الصواب؛ لينتفع بذلك أولو الألباب، ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان والكتاب". ويتميز أسلوب الكتاب بالتوسع في المقارنة بين الإسلام والأديان الأخرى، فلم تقف الموازنة عند الإسلام والنصرانية فحسب. مع اشتمال الكتاب على أكثر ما يورده النصارى من شبهات وردود، وما يستشكلونه من نصوص قرآنية يدعون تناقضها، مع الإحاطة بمذاهب القوم وآرائهم ومسالكهم في الاستدلال والاحتجاج. إضافة إلى دراسة الكتاب المقدس عندهم دراسة نقدية قائمة على أسس علمية منهجية. واستيفاء الكتاب ما كتب قبله في الملل والنحل، بل أربى عليه؛ حيث كشف عما كتبه الشهرستاني والأشعري وابن حزم وغيرهم، في الرد على النصارى، وزاد على ذلك، مع التحرير العلمي في نقل الأقوال والمذاهب، وكذا سرد التواريخ والأحداث. أما ما يتعلق بمنهج المؤلف في الكتاب، فقد قال في مقدمة كتابه: "وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلا فصلا، وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلا وعقدا وحلا". فالمؤلف يورد شبهات النصارى مقسما كلام علمائهم إلى فقرات بحسب موضوعاتها. ثم يفرد كل فقرة بعنوان فصل مستقل، ويستوعب في رد الشبه الأدلة من القرآن والسنة إضافة إلى الاستشهاد بالبراهين العقلية والقواعد المنطقية. وقلب الأدلة التي يأتي بها أهل الضلال ليستدلوا بها على باطلهم؛ فإنه كان يبطل مذهبهم بنفس ما احتجوا به. ثم إنه في نقاشه للنصارى اتسم بالعلم والعدل لا بالظن والهوى، ولم يحمله بغضه لهم على رد كل ما جاؤوا به؛ فإنه كان إذا ورد شيء من الحق من جهتهم يقره ويبين أن هذا مما لا ينازعون فيه، وإذا رد عليهم باطلهم رده بحجج وأدلة دامغة. ويحتوي الكتاب على أدلة وحجج على تحريف الإنجيل. وقد رتب المؤلف الكتاب في الجملة على فصول رسالة بولس، لكنه فصل القول فيها، واستطرد في ذكر مسائل وقواعد يفوتها الحصر. فبدأ المؤلف بالمقدمة، وذكر فيها أمورا في تقرير أن الدين عند الله الإسلام، وأنه دين الأنبياء كلهم، وهو الدين الذي ارتضاه الله ولا يقبل من أحد دينا سواه. ثم عرض الشبهة الأولى من شبهاتهم، وهي: ادعاؤهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا إلى أهل الجاهلية من العرب، وأبطل ما يتمسكون به مما يدعونه أدلة، وذكر في مقابل ذلك النصوص النقلية والعقلية القاطعة بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث للناس كافة، وللثقلين؛ الإنس والجن. ثم عقد فصولا للرد على بعض عقائد النصارى، كالصلب، والفداء، والاتحاد والحلول. ومن القضايا التي تناولها المؤلف بعد ذلك ثبوت صدق محمد صلى الله عليه وسلم عند أهل الكتاب، وأن التبديل والتحريف في ألفاظ التوراة والإنجيل من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، إضافة إلى انقطاع سندهما: يجعلان قياس النصارى كتبهم على القرآن قياسا باطلا. ثم توسع في بعض ما أورده في المقدمة مختصرا من إلزام اليهود والنصارى بدين الإسلام، وذكر أنه دين الأنبياء جميعا. ثم أسهب في بيان اضطراب النصارى الشديد في قضايا الاعتقاد الأساسية عندهم، كالتثليث، ومعنى الروح، وطبيعة المسيح، ونحو ذلك. وقد نقل في خلال ذلك رسالة لأحد علمائهم ممن أسلم، وهو الحسن بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه، ويذكر الأدلة والحجج على بطلان دين النصارى، وصحة دين الإسلام. ثم عقد فصلا في رد ما احتجوا به من التوراة والإنجيل وغيرهما مما يدعون أنه من كلام الأنبياء، ولم يقم دليل على نبوة من احتجوا بكلامه، كميخا وعاموص وغيرهما. ثم عقد فصلا طويلا في بشارات الأنبياء، وبيَّن طرق معرفتها، وشهادات الكتب المتقدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وضرب لذلك أمثلة من الزبور وأسفار التوراة وبشارات المسيح عليه السلام. ثم ختم المؤلف الكتاب بسرد دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وآيات صدقه، وبعض معجزاته عليه الصلاة والسلام. وقد أشار محققو الكتاب إلى أنه سبق طباعة الكتاب قبل ذلك عدة طبعات، وأنه قد اعتراها العديد من أوجه النقص ليس في فوات نسخ الكتاب فحسب، بل في العناية به، وفي قراءة كثير من نصوصه، وفي التعليق عليه وخدمته بالفهارس الكاشفة. ومما تمتاز به هذه الطبعة: اعتمادها على عشر نسخ خطية بعضها قريب العهد من المؤلف. ووجود فصل جديد ملحق بالكتاب في بعض هذه النسخ بدون في كل المنشورات السابقة، ويقدر بأربعين صفحة. واستيعاب النسخ الخطية للكتاب، وإخراج نصه بالاعتماد عليها. و العناية بالكتاب من حيث الضبط وتصحيح النص، واستدراك ما فات الطبعات السابقة. و التعليق على النص بما يكمل غرضه. مع العزو إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية الأخرى التي اشتركت في مباحثها مع هذا الكتاب.