كتاب "المبدع في شرح المقنع" كما أسماه صاحبه الإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن مفلح، الذي انتهت إليه رياسة الحنابلة، يعد من أنفس شروح كتاب "المقنع" لابن قدامة، وهو متوسع قليلا ويذكر الدليل والتعليل مع ذكر الروايات عن الإمام أحمد، وله عناية بتحليل ألفاظ المقنع، ويورد فيه آراء أصحاب المذهب الحنبلي.وقد أوضح ابن مفلح طريقته ومنهجه في الشرح حيث قال في مقدمة الكتاب: (وكنت قرأت فيه كتاب المقنع .. وهو من أجلها تصنيفا، وأجملها ترصيفا، وأغزرها علما، وأعظمها تحريرا، وأحسنها ترتيبا وتقريرا. فتصديت لأن أشرحه شرحا يبين حقائقه، ويوضح دقائقه، ويذلل من اللفظ صعابه، ويكشف عن وجه المعاني نقابه، أنبه فيه على ترجيح ما أطلق، وتصحيح ما أغلق. واجتهدت في الاختصار خوف الملل والإضجار، ورسمته ب: المبدع في شرح المقنع، والله أسأل أن ينفع به، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه غفور رحيم).وقد شرحه في أربعة مجلدات، وقعت في أعشرة أجزاء في الطبعة التي بين أيدينا، وجرى على نفس الترتيب الذي كتب عليه (المقنع)، فقد جاء مشتملا على الفروع الفقهية مقسمة إلى كتب وأبواب وفصول، مبتدئا بأبواب العبادات المشتملة على أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم أتبعها بكتاب الجهاد، ثم تكلم عن المعاملات مفتتحا بالبيوع وما يليها من أبواب المعاملات المختلفة كالحجر والشركة، ثم تناول أحكام الوصايا والفرائض والعتق، ثم تناول أحكام الأسرة مبتدئا بالنكاح ثم بصور الفراق المختلفة وما يتبعها من العِدد والحضانة والنفقة، ثم تناول أحكام الجنايات والديات والحدود، ثم أحكام الأطعمة والصيد والأيمان والقضاء والشهادات، ومختتما بالإقرار، ولترتيب ابن قدامة للأبواب الفقهية أهمية خاصة، وهو ما يوضحه بكر أبو زيد بقوله: (ولما جاء "ابن حنبل الثاني" الموفق ابن قدامة ت سنة (620 هـ)، وألف المتون الثلاثة: "العمدة" و"المقنع"، و"الكافي" صار الماتنون تبعا له في الترتيب من طبقته المتوسطين، ثم طبقة المتأخرين إلى الآخر واستقر أمر الناس على ذلك)، ويلاحظ إلى أن ابن قدامة ذكر أحكام الجهاد بعد أحكام العبادات مخالفا لترتيبه في العمدة والذي جاءت فيه أحكام الجهاد بعد الجنايات والحدود، ويشير البعض إلى أن السبب في ذلك هو نظرة علماء المذهب إلى الملاءمة الموضوعية بين الجهاد وموضوع العبادة؛ حيث إنه من باب الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام الذي هو من أعظم القرب إلى الله تعالى. ويلاحظ أن ابن قدامه خالف في ترتيب المقنع ترتيب مختصر الخرقي الذي شرحه موسوعته الفقهية "المغني"، ويقول التركي: (وكان شرح موفق الدين لـ "مختصر الخرقي" تجربة علمية مفيدة، جعلته يدقق ألفاظه، ويحرر أحكامه، وهدته آخر الأمر إلى تأليف مختصر في الفقه، رتبه ترتيبا جديدا، وحرره تحريرا فائقا، وسماه "المقنع" بلغ فيه الغاية، وانصرف إليه العلماء بعده بالشرح والتعليق، بل واعتمدوه "المتن" الذي يُحفظ في فقه الحنابلة).وكتاب "المقنع" يمثل الحلقة الثانية من سلسلة كتب ألفها الإمام الموفق ابن قدامة المقدسي يهدف منها إلى الأخذ بيد طالب الفقه من مستوى المبتدئين إلى مسالك المجتهدين؛ حيث وضع أربعة مؤلفات يلبي كل واحد منها حاجة مستوى معين من الطلاب والمتفقهين، وهي على الترتيب المنهجي: العمدة، المقنع، الكافي، المغني. والإمام الموفق ابن قدامة يعد أحد أبرز محققي المذهب وأكثر من خدم مذهب الإمام أحمد - في طبقته - تصنيفا وتحقيقا، حتى عدَّه البعض "ابن حنبل الثاني"، ويقول فيه ابن تيمية: (ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق). ويُعد كتاب المقنع، من أهم المتون في الفقه الحنبلي، بل هو عمدة الحنابلة من زمنه إلى يومنا هذا، وهو أشهر المتون بعد: "مختصر الخرقي"؛ لهذا أفاضوا في شرحه، وتحشيته، وبيان غريبه، وتخريج أحاديثه، وتصحيحه وتنقيحه وتوضيحه، وكان المشايخ يقرؤونه لمن ارتقى عن درجة المبتدئين بعد إقراء "العمدة" له، وهو من الكتب التي اعتمد مؤلفها على ذكر روايتين فأكثر في الفروع، وقد أبان الموفق ابن قدامة غايته ومنهجه وسبب تأليفه بقوله: (فهذا كتاب في الفقه على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، اجتهدت في جمعه وترتيبه، وإيجازه وتقريبه، وسطا بين القصير والطويل، وجامعا لأكثر الأحكام عرية عن الدليل والتعليل، ليكثر علمه ويقل حجمه، ويسهل حفظه وفهمه، ويكون مقنعا لحافظيه نافعا للناظر فيه)، ومن ثم يأتي هذا الكتاب لمن ارتقى عن درجة المبتدئين ولم يصل إلى درجة المتوسطين، فلذلك جعله عريا عن الدليل والتعليل غير أنه يذكر الروايات عن الإمام ليجعل لقارئه مجالا إلى كد ذهنه ليتمرن على التصحيح. وقد مدح ابن بدران هذا المتن في كلامه عن روضة الناظر لابن قدامة بقوله: (إنه أنفع كتاب لمن يريد تعاطي الأصول من أصحابنا، فمقام هذا الكتاب بين كتب الأصول مقام المقنع بين كتب الفروع).