يعد كتاب المدونة الكبرى ثاني أمهات المصادر في الفقه المالكي بعد كتاب الموطأ، فكل ما جاء بعدها من مصنفات المذهب عيال عليها. وعليها كان الاعتماد في الأحكام والفتوى والقضاء. ولما كانت المدونة بالمنزلة التي ذُكرت فإنها حظيت بما لم يحظ به -بعد الموطأ- أصل من أصول المذهب، بل إن غالب تلك الأصول قامت على أصل المدونة. ويكفي للدلالة على هذا قول القاضي عياض في مداركه: "وهي أصل المذهب المرجح روايتها على غيرها عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوهم، وبها مناظرتهم ومذاكرتهم". فالنقل عنها متواتر ومنتشر، والشرح لها وتهذيبها والتعليق والتقييد عليها والتنبيه على مسائلها موجود متوافر. وبلغت عناية العلماء بالمدونة إلى درجة حفظها، فقد حفظها أبو حفص عمر البجائي المغربي المالكي، والإمام هارون بن عتاب الشذوني الغافقي الأندلسي، حفظها حفظا بارعا، وحفظها أحمد المرجولي عن ظهر قلب، مع استحضاره شروحها. والمدونة في أصلها سماعات ابن القاسم (ت١٩١ه) من شيخه الإمام مالك (ت١٧٩ه)، أجاب بها عن أسئلة سحنون (ت٢٤٠ه) لما رحل إليه من القيروان لتصحيح رواية أسد بن الفرات (ت٢١٣ه) التي رواها بدوره عن ابن القاسم، فقام هذا الأخير بالتصحيح، ثم قام سحنون بتهذيبها وتبويبها وتدوينها وأضاف إليها اجتهادات كبار فقهاء المذهب، وذيّل أبوابها بالأحاديث والآثار إلا كتبا بقيت على أصل اختلاطها، فلذلك تدعى أيضا المختلطة. تتألف المدونة من أسئلة وأجوبة ورد أنها بلغت ٦٢٠٠ مسألة من مسائل الفقه التي وردت للإمام مالك، وقيل ٣٦٠٠٠ مسألة كما قال القاضي عياض، وقيل ٣٦٢٠٠ كما ورد عن ابن فرحون. وزاد الأستاذ العلامة محمد الفاضل بن عاشور على هذا العدد فأوصلها إلى ٤٠٠٠٠ مسألة. وهي مرتبة على أبواب الفقه، وضمنها رواية الإمام مالك عن الصحابة والتابعين، لذلك تعتبر أصح كتب الفروع في الفقه المالكي رواية. وكتب أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الجد (ت٥٢٠ه) لها المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته المدونة من أحكام .وينقسم المحتوى الفقهي في هذه الطبعة على النحو التالي: المجلد الأول: الوضوء - الاعتكاف، المجلد الثاني: الزكاة - الحج، المجلد الثالث: الجهاد - النذور، المجلد الرابع: النكاح، المجلد الخامس: إرخاء الستور - العدة وطلاق السنة، المجلد السادس: الأيمان بالطلاق وطلاق المريض - الاستبراء، المجلد السابع: العتق الأول - المكاتب، المجلد الثامن: التدبير - الصرف، المجلد التاسع: السلم - البيوع الفاسدة، المجلد العاشر: بيع الخيار - التدليس، المجلد الحادي عشر: الصلح - كراء الدور والأرضين، المجلد الثاني عشر: المساقاة - القضاء، المجلد الثالث عشر: الشهادات - الحوالة، المجلد الرابع عشر: الرهن - القسمة، المجلد الخامس عشر: الوصايا، المجلد السادس عشر: الحدود في الزنا والقذف والأشربة - الديات. وغالبا ما يبتدئ كل باب بلفظ "قلت" الذي يدل على سؤال سحنون، ويكون بداية الجواب بلفظ "قال" الذي يدل على جواب ابن القاسم، ويتكرر هذا في المسألة الواحدة بحسب ما تقتضيه فروعها، وبُيِّنت روايات بقية الفقهاء وأقوالهم بذكر أسمائهم كما هو الشأن بالنسبة لابن وهب وأشهب.