يمثل كتاب "المغني" الحلقة الرابعة أو المستوى الرابع من سلسلة كتب ألفها الإمام الموفق ابن قدامة المقدسي يهدف منها إلى الأخذ بيد طالب الفقه من مستوى المبتدئين إلى مسالك المجتهدين؛ حيث وضع أربعة مؤلفات يلبي كل واحد منها حاجة مستوى معين من الطلاب والمتفقهين، وهي على الترتيب المنهجي: العمدة، المقنع، الكافي، المغني، ويوضح ابن بدران مرتبة المغني بقوله: (وذلك أن موفق الدين راعى في مؤلفاته أربع طبقات فصنف العمدة للمبتدئين ثم ألف المقنع لمن ارتقى عن درجتهم ولم يصل إلى درجة المتوسطين ... ثم صنف للمتوسطين الكافي ... ثم ألف المغني لمن ارتقى درجة عن المتوسطين، وهناك يطلع قارئه على الروايات وعلى خلاف الأئمة وعلى كثير من أدلتهم وعلى ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد، فمن كان فقيه النفس حينئذ مرن نفسه على السمو إلى الاجتهاد المطلق إن كان أهلا لذلك وتوفرت فيه شروطه وإلا بقي على أخذه بالتقليد، فهذه هي مقاصد ذلك الإمام في مؤلفاته الأربع وذلك ظاهر من مسالكه لمن تدبرها). والإمام الموفق ابن قدامة يعد أحد أبرز محققي المذهب وأكثر من خدم مذهب الإمام أحمد - في طبقته - تصنيفاً وتحقيقاً، حتى عدَّه البعض "ابن حنبل الثاني"، وكان معاصرا لفتح بيت المقدس، ووصفه البهاء المقدسي بالشجاعة فقال: (كان يتقدم للعدو، وجُرح في كفه، وكان يرامي العدو)، وكان شديد الاحتمال للأذى، ولا يناظر أحدا إلا وهو يتبسم، وذكر سبط ابن الجوزي بأنه كان صحيح الاعتقاد مبغضا للمشبهة. وقد أبان الموفق ابن قدامة عن غايته ومنهجه وسبب تأليفه للمغني بقوله: (وقد أحببت أن أشرح مذهبه واختياره - أي ابن حنبل -، ليعلم ذلك من اقتفى آثاره، وأبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أُجمع عليه، وأذكر لكل إمام ما ذهب إليه، تبركا بهم، وتعريفا لمذاهبهم، وأشير إلى دليل بعض أقوالهم على سبيل الاختصار، والاقتصار من ذلك على المختار، وأعزو ما أمكنني عزوه من الأخبار، إلى كتب الأئمة من علماء الآثار، لتحصل الثقة بمدلولها، والتمييز بين صحيحها ومعلولها، فيعتمد على معروفها، ويعرض عن مجهولها. ثم رتبت ذلك على شرح مختصر أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي - رحمه الله -، لكونه كتابا مباركا نافعا، ومختصرا موجزا جامعا، ومؤلفه إمام كبير، صالح ذو دين، أخو ورع، جمع العلم والعمل، فنتبرك بكتابه، ونجعل الشرح مرتبا على مسائله وأبوابه، ونبدأ في كل مسألة بشرحها وتبيينها، وما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها، ثم نتبع ما يشابهها مما ليس بمذكور في الكتاب، فتحصل المسائل كتراجم الأبواب)، ويعد الخرقي أول الماتنين في المذهب، وهو قد جرى على طريقة أصحاب الإمام الشافعي فحذا في ترتيب مختصره حذو المزني في ترتيب مختصره؛ إذ جعل الجهاد بعد الحدود، وختم مختصره بالعتق، وقد جاء الكتاب مشتملا على الفروع الفقهية مقسمة إلى كتب وأبواب وفصول ومسائل، مبتدئا بأبواب العبادات المشتملة على أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم المعاملات المفتتحة بالبيوع ويليها أبواب المعاملات المختلفة كالرهن والشركة والوكالة والإجارات، وضم إليها الوصايا والفرائض، ثم تناول أحكام الأسرة مبتدئا بالنكاح ثم بصور الفراق المختلفة وما يتبعها من أحكام، ثم تناول أحكام الجراح والديات والحدود والجهاد، ثم الصيد والذبائح والأيمان والكفارات، ثم القضاء والقسمة والشهادات والدعاوى، ومختتما بالعتق. ويعد كتاب المغني موسوعة في الفقه المقارن؛ إذ لم يكتف الموفق بشرح مختصر الخرقي وتفريع أبوابه وتحرير مسائله والاستدلال عليها، بل ذكر - فيما يقارب الإحاطة - مذاهب الفقهاء واستدلالهم، وقارن بينها، واحتج لمذهب إمامه، ووفى كل اجتهاد حقه، ولم يحمله انتماؤه للحنابلة على الانتصار لهم في كل حال، وإنما تناول ذلك ببصر الفقيه وفطنة المجتهد. ويوضح بكر أبو زيد منزلة هذا الشرح بقوله: (وهذا الشرح العظيم مستمد من شرح القاضي أبي يعلى لمختصر الخرقي، وزاد ابن قدامة عليه، لاسيما كثرة الفروع في المذهب التي لم يذكرها الخرقي. ... وشرحه هذا: أغنى شروحه على الإطلاق، وأشهرها بالاتفاق، وأجمع كتاب أُلف في المذهب لمذاهب علماء الأمصار ومسائل الإجماع، وأدلة الخلاف، والوفاق، ومآخذ الأقوال والأحكام، والتتبع لثمرة الخلاف في تكييف الأحكام، فلا يستغني عنه المتفقه ولا المحدث، ولا الراغب في فقه السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ولا جرم صار أحد كتب الإسلام، وحرص على تحصيله علماء الأمصار في كافة الأعصار)، ومن أمثلة حرص العلماء على اقتنائه ما نقله ابن مفلح عن الشيخ عز الدين ابن عبد السلام أنه قال: لم تطب نفسي بالإفتاء حتى صارت عندي نسخة المغني. وقيل أيضا: المغني في الفقه يغني. وقد عناه العلماء أيضا بالاختصار والتحشية. وقد بُذل في التحقيق جهدا كبيرا في ضبط النص وتنسيقه وتصحيحه وتشكيله كاملا وتخريج أحاديثه، وتوثيق نصوصه بالرجوع إلى المصادر التي نقل عنها الموفق، كما اشتمل التحقيق على ترقيم مسائل مختصر الخرقي فبلغت 2027 مسألة، وتم تذييله بأكثر من عشرة فهارس فنية شاملة جاءت في مجلد مستقل بلغ ألف وثلاثمائة صفحة تقريبا؛ حيث اشتمل على فهارس الآيات والأحاديث والآثار والأعلام والأبواب الفقهية وغير ذلك، وختم بفهرس المراجع التي اعتمد عليها في التحقيق.