يعد المنتقى من أهم شروح موطأ الإمام مالك. وهو شرح متوسط ليس مثل التمهيد ولا الاستذكار؛ بل وَسَط، فليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل. وقد اختصره مؤلفه -كما ذكر في المقدمة- من كتابه المبسوط الموسع المسمى بـ"الاستيفاء" وهو كتاب ضخم، ذكر فيه الأحاديث والآثار والأسانيد واختلاف الفقهاء وأدلة الأقوال واستيعاب المسائل وغير ذلك. والدافع من وراء تلخيصه هو تعذر درس كتابه الموسع على أكثر الناس "لا سيما من لم يتقدم له في هذا العلم نظر، ولم يتبين فيه بعدُ أثر؛ فإنَّ نظره فيه يُبَلِّد خاطره ويُحَيِّره، ولكثرة مسائله ومعانيه يمنع تحفظه وفهمه، وإنما هو لمن رسخ في العلم وتحقق بالفهم". وتأتي أهمية المنتقى أولا من قيمة أصله وهو الموطأ الذي يعد الكتاب الأشهر والمرجع الأول للإمام مالك في مذهبه. ثم إن أبا الوليد الباجي إمام فقيه من كبار أئمة المالكية. وقد اقتصر في المنتقى على الكلام على معاني ما يتضمنه الحديث من الكلام على الفقه، مربوطة بما يتعلق بها في أصل كتاب الموطأ؛ يقول المصنف: "ورغبت أن أقتصر فيه على الكلام في معاني ما يتضمنه ذلك الكتاب من الأحاديث والفقه، وأصل ذلك من المسائل بما يتعلق بها في أصل كتاب الموطأ، ليكون شرحا له، وتنبيها على ما يُستخرج من المسائل منه. ويشير إلى الاستدلال على تلك المسائل والمعاني التي يجمعها وينصها ما يخِفُّ ويقرب، ليكون ذلك حظ من ابتدأ بالنظر في هذه الطريقة من كتاب الاستيفاء إن أراد الاقتصار عليه وعونا له إن طمحت همته إليه"، يعني إن أراد الاقتصار على المنتقى يكفيه، لكن إن طمح إلى كتاب الاستيفاء يكون المنتقى توطئة وتمهيدا ودرجة يمكن أن يصعد بواسطتها إلى الاستيفاء. ويستمر الباجي في شرح أسلوبه إذ يقول: "أعرضت فيه عن ذكر الأسانيد، واستيعاب المسائل والدلالة، وما احتجَّ به المخالف، وسلكتُ فيه السبيل الذي سلكت في كتاب الاستيفاء، من إيراد الحديث والمسألة من الأصل، ثم أتبعت ذلك ما يليق به من الفرع وأثبته شيوخنا المتقدمون -رضي الله عنهم- من المسائل، وَسُدَّ من الوجوه والدلائل، وبالله التوفيق". ومن ثم انصب اهتمامه على الناحيتيـن الفقهية والحديثيـة؛ فهو يبحث للمسائـل الفقهيـة عن جذور من نصوص الكتاب والسنة، كما يتبـع بآراء المشايخ، مع الإشـارة إلى مسائل الاستدلال والاستنبـاط، وكلما أمكـن ذلك على غرار منهجـه في شرح الاستيفـاء. ولأبـي الوليد تخريجات واستنباطـات واجتهادات يخالف بها علماء عصره، بل ومن سبقهـم، فغزارة علمه وسعـة اطلاعـه تبوؤه هـذه الدرجة وتخول له إبداء آرائـه عندما يقتضي النص اجتهادا أو تأويلا وتخريجا. وليس للموضوعات الفقهية في الكتاب ترتيب معين على أبواب الفقه المعروفة، ولكنها مسائل يتبع فيها المؤلف نفس ترتيب محتوى أصله "الاستيفاء" وكذا ترتيب "الموطأ". وخشيـة على نفسه من تآلب الواقعيـن عن ظاهر النص المتمسكيـن بالقدم، وتواضعا منه واعترافـا بإمكانيـة مجانبتـه للصواب يضع الباجي القارئ أمام مسؤوليتـه مبينا له أنه سيجـد في طيات الكتاب مخالفـة لما تعارف عليه الناس فدعا الباجي إلى اعتباره مجرد رأي واجتهـاد قابل للخطـأ والصواب. وهو لا يلزم برأيـه أحدا كما يدعو على عـدم الإنكار عليه ما دام الإنسان يلاحـظ من نفسه تغيـرا في آرائـه من اليوم والآخر، فلا غرابـة في اختلاف الناس في آرائهـم ومذاهبهم، وما قـد يكون رآه الباجي أثنـاء كتابته للمنتقى قد لا يكون رأيه بعد ذلك. يقول: "وقـد قدمت في الكتاب المذكور ما لا أخلي هـذا الكتاب من حرف من ذكـره، وذلك أن فتوى المفتي في المسائـل وكلامـه عليها وشرحه لها هو بحسب مـا يوفقه الله تعالى إليه ويعينه عليه، وقـد يرى الصواب في قول من الأقوال في وقت ويراه خطأ في وقت آخـر، ولذلك يختلف قول العالم الواحـد في المسألـة الواحدة فلا يعتقـد الناظر في كتابي أنما أوردته من الشرح والتأويل والقيـاس والتنظير طريقه القطـع عندي حتى أعيب من خالفها، وأذم من رأى غيره وإنمـا هو مبلغ اجتهادي وما أدى إليه نظري، وأمـا فائدة إثباتي له فتبين منهـج النظر والاستدلال والإرشـاد على طريق الاختيار والاعتبار، فمن كـان مـن أهل هـذا الشأن، فله أن ينظـر في ذلك ويعمل بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده من وفـاق ما قلتـه أو خلافـه، ومن لم يكن نـال هذه الدرجـة فليجعل ما ضمنتـه كتابي هـذا سلمـا إليهـا وعونا عليها والله ولي التوفيق والهـادي إلى سبيل الرشـاد وهو حسبنـا ونعم الوكيل".