يُعَدُّ كتاب "المقدمات الـمُمَهِّدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات" لأبي الوليد محمد بن أحمد ابن رشد القرطبي من أهم الشروح الفقهية التي اعتنت على وجه الخصوص بشرح ما انغلق أو أُشْكِل من فواتح كتب المدونة. وتبرز أهمية الكتاب فيما لقيه من الشهرة والحظوة، فقد تكاثرت النقول منه لدى من جاء بعده، يأتي على رأسهم حفيدُه أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (٥٩٥هـ) في بداية المجتهد، وأبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (ت٦٨٤هـ)، في الذخيرة، وأبو عبد الله محمد بن يوسف المواق (ت٨٩٧هت) في التاج والإكليل، وأبو عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب (ت٩٥٤هـ)، في مواهب الجليل. وقد ألّفه المصنف استجابةً لرغبة بعض أصحابه الذين طلبوا منه أن يجمع لهم ما كان يُلقيه عليهم أثناء مجالس تدريس المدونة التي كان يعقدها. ويتميز الكتاب بأسلوب سَلِس جزل خال من التعقيد والحشو. مما يبرز للعيان مدى تبحر صاحبه في اللغة العربية، وامتلاكه لأدواتها بدون مدافع، كما يشهد له بذلك حسن انتقائه للعبارات الموصلة للمعنى المقصود، بدون تلغيز أو تكليف. ومما زاد هذا الكتاب تميزا دقة تنظيم فصوله وبراعة تقسيمها. إضافة إلى طريقة الإقناع عند أبي الوليد في عرض مادة كتابه التي بناها على قوة الدليل والحجة الدامغة من الكتاب والسنة أولا، ثم أقوال فطاحل علماء المذهب وآراء المذاهب الأخرى ثانيا، مع مناقشة بعضها ومقارعة أصحابها بالدليل الساطع الذي لا غبار عليه، بل نجده أيضا يعترض على أعلام مذهبه ويخالفهم مع تعليل على ذلك بما يُشفي الغليل. يتألف محتوى الكتاب من تمهيد تحدث فيه المصنف عن سبب تأليفه للكتاب. تعقبه مقدمات في أصول الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات. بعدها شرع في شرح ما أشكل من كتب المدونة بدءا من أولها إلى مُنْتَهاها. أما مصادر أبي الوليد في كتابه فهي في الغالب من دواوين المذهب، وإن كان لا يصرح بأكثرها، إضافة إلى أقوال من سبقه من الفقهاء، كما جرت عادته في بعض المسائل تدليلها بأقوال المذاهب الأخرى مثل: أبي حنيفة والشافعي والإمام أحمد رحمهم الله جميعا. طبع الكتاب أول مرة ناقصا؛ إذ طبع منه القسم الأول الذي ينتهي بكتاب كراء الدور، في طبعتين، الأولى: بمطبعة السعادة بمصر سنة ١٣٢٥هـ، ثم أعادت طبعه دار صادر في بيروت بدون تاريخ. والطبعة الثانية بالبلد والسنة نفسهما بالمطبعة الخيرية على هامش المدونة، ثم أعيدت هذه الطبعة بدار الفكر (١٤٠٦هـ /١٩٨٦م)، غير أن هذه الأخيرة مبتورة الأول، وطبع كتاب الجامع من الكتاب بتحقيق المختار بن الطاهر التليلي بدار الفرقان الأردنية سنة (١٤٠٥هـ / ١٩٨٥م)، ثم طبع الكتاب أخيرا بكامله بتحقيق محمد حجي وسعيد أعراب رحمهما الله، وصدر عن دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى (١٤٠٨هـ / ١٩٨٨م). وهي أجود هذه الطبعات وأحسنها على الإطلاق وهي المعتمدة هنا.