كتاب حديث ونظر فقهي. وهو يعد أصح كتب الفقه وأشهرها وأقدمها وأجمعها. وقد اتفق السواد الأعظم من الأمة على العمل به والاجتهاد في روايته ودرايته. يهدف الإمام مالك إلى جمع أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه. ويرجع سبب تأليفه إلى سؤال أبي جعفر المنصور الإمام مالك رحمه الله أن يجمع كتابا للناس يتجنب فيه شدائد عبدالله بن عمر، ورُخَص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، ويضع ما اجتمعت عليه الأمة والصحابة، ويقصد أوسط الأمور؛ حتى يكون مرجعا للناس في أمور دينهم. قال الإمام مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته الموطأ. وترجع أهمية الموطأ إلى كونه أول مؤلّف صُنِّف في الحديث، وكل من جمع صحيحا فقد سلك على نهجه وأخذ طريقه، والفضل للمتقدم. وهو في الرتبة بعد صحيح مسلم على ما هو الأصح. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ما أعلم شيئا على ظهر الأرض بعد كتاب الله تعالى أصحّ من موطأ مالك. وقال أيضا: ما بعد كتاب الله أنفع من الموطأ. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: هذا أول كتاب أُلف في شرائع الإسلام, وهو آخره لأنه لم يؤلف مثله. وقد انتهج الموطأ في أسلوبه الانتقاءَ والاختيار، واشتد في نقد الرجال، وكان تام الملكة في فقه الحديث، وجمع بين الحديث والفقه، وآثار الصحابة وأقوال التابعين وفتاويهم؛ فذكر فيه الإمام غالب أحاديث الباب، ثم يُردفها بموافقة عمل أهل المدينة أو مخالفته، وينقل رأي فقهاء الصحابة وأئمة التابعين، وملخص ما يراه في المسألة. وقد احتوى الموطأ على ثلاثة آلاف مسألة، وأحاديثه سبع مئة حديث مروية بأسانيد متصلة مرفوعة، أغلبها مقبول، وقيل: كلها مقبولة، وأحاديث مروية مرسلة، فيما يقول فيها مَن يروي عن الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله قال كذا، أو فعل كذا، ولا يصرح باسم الصحابي، وأكثر مرسلات الموطأ قد ثبت اتصالُها خارج الموطأ، وأحاديث رُويت منقطعة، وثبت أكثرها أيضا متصلة خارج الموطأ، وأحاديث موقوفة عن الصحابة، منها المرفوع الحكمي، وهو ما لا يقال من قبل الرأي، فهو حتما مرفوع، وبلاغات مالك، وأقوال الصحابة وهو الموقوف وفقهاء التابعين، وما استنبطه مالك من الفقه المستند إلى العمل، أو القياس، أو قواعد الشريعة. وللإمام مالك مصطلحات في الموطأ؛ منها: قوله "السنة عندنا كذا وكذا" يقصد قوله هو، واختيارات الفقهاء السبعة، أو بعضهم، ولا تكون محل إجماع غالبا، وقوله: "الأمر المجتمع عليه عندنا" سماع غير واحد من أهل العلم، والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم، ورأيهم مثل رأي الصحابة، فالأمر هو ما عمل به الناس، وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم، وقوله: "عن الثقة عنده" إذا تذكر الحديث، وتذكر أنه قاله، وأنه على شرطه، لكنه نسي مَن رواه عنه، وليس يريد تكنية راوٍ معين معروف عنده، وقوله: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا" يعبر به عن قول الفقهاء السبعة وعموم فقهاء المدينة، وقوله: "هذا أحسن ما سمعت" يعني إذا اختلفوا أخذ بأقوى أقوالهم وأرجحها؛ إما بكثرة القائلين، أو لموافقة قياس قوي، وقول يحيى: سألت مالكا، أو سمعتُ مالكا، أو سئل مالك: يحتمل وجهين: سئل مالك: أن مالكا لما كتب موطأه، قال: سألت عن كذا، ثم عند روايته كتب كل تلميذ سُئل مالك، أن مالكا لم يَكتبه بيده، وعند إملائه قال: وسئل عن كذا، فكتب المستملي: وسُئل مالك؛ إذ لا يصح إلا ذلك. سمعت مالكا: سمعه من مالك من لفظه، وهو من جملة الموطأ، أما عند قراءة الموطأ من تلميذ آخر على مالك أو قراءته هو عليه، يقول: حدثني مالك أو قال مالك. وقد كثر رواة الموطأ، أشهرها وأحسنها رواية يحيى بن يحيى بن كثير الليثي الأندلسي، وهي المقصودة عند الإطلاق. ويرجع سبب الاختلاف بين الروايات إلى عدة عناصر؛ منها: سرعة التلميذ في الكتابة والسماع الصحيح، واهتمام التلميذ بالفقه أو الحديث فقط، أو بهما معًا، ومنهم من كان يدوِّن شرح مالك عند القراءة، وهكذا باختلاف حال التلاميذ.