كتاب "الغياثي" المسمى "غياث الأمم في الْتياث الظُّلَم" كتاب علمي جامع، متخصص في أحكام الإمامة وما يليق بها أو يطرأ عليها، من أوائل ما كتب في هذا الباب، وندر وجود مزاحم له بحسن تقاسيمه وتفاريعه، وتقديراته واحتمالاته، فهو بحق من أنفس الكتب في موضعه. وقضية الإمامة قضية عظيمة من مهمات الدين، حتى أُفرد لها باب خاص في كتب الكلام والعقيدة، وبحثت في كتب الأصول عموما، وكتب السياسة الشرعية خصوصا مع ما يناسبها من أبواب الفقه. ومصنف الكتاب هو الإمام أبو المعالي الجويني.وقد حقق الكتاب العلامة عبد العظيم الديب رحمه الله، فلم يقف عند تحقيق نص هذا الكتاب العظيم وإخراجه سليما من عوار التصحيفات وسوء الفهم، بل قدم له بمقدمة علمية مستفيضة، جاء فيها بدراسات وافية حول موضوع الكتاب ومعاناته العلمية في سبيل إخراجه، وجلى فيها شخصية إمام الحرمين بما لا مزيد عليه. وجاءت مقدمة التحقيق في مائتي صفحة، اشتملت على تقديم للشيخ يوسف القرضاوي يتحدث فيه عن محقق الكتاب، وفيها مقدمة لعبد الله الأنصاري، ومقدمة الطبعة الثالثة للمحقق - ومن ضمنها انتقاد لبعض أولئك المحققين الذين عملهم إنما هو تحريف الكتب لا إخراجها كما كتبها المؤلف - وفيها مقدمة الطبعة الثانية والأولى كذلك، ثم حديث عن إمام الحرمين الجويني رحمه الله وكتابه الغياثي ثم منهج التحقيق ونسخ الكتاب .وقد جاء الكتاب في ثلاثة أركان: أولها القول في الإمامة وما يليق بها من الأبواب، وهو غالب الكتاب، حيث تناول فيها معنى الإمامة ووجوب نصب الامام، وكيفية تنصيب الامام، وصفات أهل الحل والعقد، وصفات الإمام، والأمور التي توجب انخلاع الإمام، وإمامة المفضول مع وجود الفاضل، ومنع تنصيب إمامين، ثم ما يتعلق من الأحكام بالإمام ووظائفه. والركن الثاني في خلو الزمان من إمام وكذلك من مفتٍ، حيث تكلم على انخرام الصفة المعتبرة في الأئمة، وما هو الفعل إذا استولى رجل بقوة على منصب الإمامة، ثم حالة ما إذا شغر الدهر عن والٍ بنفسه أو متولّ بغيره. والركن الثالث في خلو الزمان عن المجتهدين ونقلة المذاهب وأصول الشريعة، وقد وقسمه لأربعة مراتب جعل لكل مرتبة بابا، فتناول حال اشتمال الزمان على المفتين المجتهدين، ثم فيما إذا خلا الزمان عن المجتهدين وبقي نقلة مذاهب الأئمة، ثم حال خلو الزمان عن المفتين ونقلة المذاهب، ثم حال خلو الزمان عن أصول الشريعة والعياذ بالله. وهذا الباب لم يسبق إليه، وفي هذا الباب ذكر أصول الفقه في كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وأمور كليّة فقهية، يذكر فيها الواضح من الأمور والتي يجب المصير إليها في حال عدم وجود المفتين في الأرض مع بقاء شيء من أحكام الشريعة، فالماء طهور ما لم يتيقن المرء فيه النجاسة - لأن الذي يعلم مسألة القلتين والتنجس مع عدم التغيّر مفقود - والأصل في المياه الطهارة وهكذا .. فالغرض من الكتاب وعموده هو الركن الثاني والثالث كما نص على ذلك الجويني نفسه، ولكن نلحظ أن الركن الأول من الكتاب وهو الإمامة استغرق قريبا ما يزيد عن نصف الكتاب، وعن هذا يجيب الجويني فيقول : (لا يتأتي الوصول إلي درك تصوير الخلو عن الإمام لمن لم يحط بصفات الائمة، ولا يتقرر الخوض في تفاصيل الأحكام عند شغور الأيام ما لم تتفق الإحاطة بما يناط بالإمام، فلم أذكر المقدمة وأنا مستغن عنها، على أني أتيت فيها بسر الإيالة الكلية، وسردت أمورا تتضاءل عنها القوي البشرية، وتركتها منتهي الأمنية، يذعن لها القلوب الأبية، ويقرن لبدائعها النفوس العصية، ويبتدرها أيدي النساخ في الأصقاع القصية ). ويتميز أسلوب الجويني بالفصاحة والبلاغة العالية، وقد أوضح الجويني منهجه في التصنيف سواء في الغياثي أو في غيره من الكتب، حيث قال :(إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتجتويها، وهي سرد فصل منقول من كلام المتقدمين، وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال والتشييع بعلوم الأوائل، والإغارة علي مصنفات الأفاضل، وحق علي كل من تتقاضاه قريحته تأليفا وجمعا وتصنيفا أن يجعل مضمون كتابه أمرا لا يلغي في مجموع، وغرضا لا يصادف في تصنيف ثم إن لم يجد بُدا من ذكر ما ذكر أتي به في معرض التذرع والتطلع إلي ما هو المقصود والمعمود فهذه واحدة. والخصلة الثانية: اجتناب الإطناب وتنكب الإسهاب في غير مقصود الكتاب). وهذا المنهج جعل الكتاب خاليا من الحواشي والاستطرادات غير المتعلقة بموضوع الكتاب، وإعادة سرد أقاويل ومصنفات من سبقوه بجمع وترتيب، بل أراد الجويني أن يكون مؤلفه فريد بديع علي غير مثال سابق، به نوع من الاجتهادات التي يسبق إليها. ويلحظ القارئ انتقاد الجويني للقاضي أبي الحسن الماوردي صاحب كتاب "الأحكام السلطانية" وكان معاصرا له. ويرجع ذلك سببين :الأول: أن منهج الماوردي كان مقتصر علي النقل والسرد وعدم الابتكار والاجتهاد، خلافا للجويني؛ والثاني: أن الجويني كان معاصرا لدولة السلاجقة السنية التي كانت تعادي دول الشيعة والباطنية والبويهيين، وكان مدرسا لثلاثين سنة في المدرسة النظامية بنيسابور وهي إحدى مدارس الوزير نظام الملك وزير السطان ألب أرسلان السلجوقي، لذلك رأى الجويني أن الماوردي عندما عرض الولايات وما يناط بالائمة وتحديد مسئولياتهم وحقوقهم سرد الآراء المتابينة سردا دون الترجيح بينها أو بيان الصحيح منها، وفي ذلك نوع تزلف للبويهيين.إن كتاب الغياثي يعد بحق درة التاج بين كتب التراث في السياسة الشرعية، وما جاء بعده عالة عليه، وإذا استقرأت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن جماعة وابن العربي في هذا المجال سيتبين لك ذلك، بل ذهب البعض إلى أنه سبق ابن خلدون في فكرة "العصبية" عندما تطلب الشوكة والمنعة في الإمام المطالب بالرياسة أو الإمامة، وما تعبيره عن استقلال الإمام والكفاية والنجدة إلا هي بذاتها التي استخدمها ابن خلدون بلفظ "العصبية". كما يتميز الكتاب بالتفريق بين مواطن الاتفاق ومحال الاجتهاد في مباحث السياسة الشرعية.ومما يؤخذ على الجويني رواية أغلب الأحاديث بالمعني وعدم دقته في نقلها، وتأويله الصفات على مذهب الأشاعرة.وهذا الكتاب حري بأن يدرس في الأقسام السياسية في جامعات العالم؛ حتى يجعلوه منارة تضيء لهم الدروب في هذا المسلك المهم.