يعد هذا الكتاب استقصاء وتسجيلا تاريخيا لجميع الفرق والاتجاهات الفكرية التي شهدتها الساحة الإسلامية منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحتى بدايات القرن الثالث الهجري. وتتضح أهمية الكتاب في كونه من أوائل الكتب التي وصلت بين أيدينا في عرض آراء وأقوال المذاهب المختلفة مما يجعلنا نصنفه كتأسيس منهجي لعلم الفرق والمقالات. ثم إنه قد حفظ لنا الكثير من أقوال الفرق المتقدمة التي اندثرت ولم يعد لآرائها وجود بين الفرق الإسلامية. لا سيما وأن الأشعري قد انتقل بين مرحلة الاعتزال في المرحلة الأولى من حياته إلى مرحلة السنة في آخر حياته. ويهدف الكتاب إلى معالجة القصور الذي ظهر في المؤلفات السابقة عليه، مع الدقة في حكاية أقوال الفرق، والموضوعية في التعامل مع الخصوم. وقد حكى الإمام الأشعري في مستهل تقديمه للكتاب عن السبب الذي دفعه لخط هذا التصنيف، إذ يقول: "فإنه لابد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات، ورأيتُ الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ويصنفون من النِّحَل والديانات من بين مُقَصِّر فيما يحكيه وغَالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين متعمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه، ومن بين تارك للتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به، وليس هذا سبيل الربانيين، ولا سبيل الفطناء المميزين، فحداني ما رأيتُ من ذلك على شرح ما التمستُ شرحه من أمور المقالات، واختصار ذلك، وترك الإطالة والإكثار". وقد كان يتألف في الأصل من ثلاثة كتب: كتاب المقالات، وكتاب في دقيق الكلام، وكتاب في الأسماء والصفات. ضمها الأشعري بنفسه في كتاب واحد وقد استوعب جميع اختلافهم ومقالاتهم. وقد تميز الأشعري في كتابه بمنهجية الجمع بين طريقتين في عرض آراء الفرق؛ فالجزء الأول معظمه كان وفق الطريقة الأولى، وهي جعل أصحاب المذاهب أصولا. أما الجزء الثاني فهو وفق الطريقة الثانية، وهي جعل المسائل أصولا، ثم إيرادها في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة. ففي القسم الأول تناول جليل الكلام (في مقابل دقيق الكلام وهما مصطلحان في علم الكلام عند المعتزلة) ومذاهب الفرق فيه، وهي أصناف: الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة وأصحاب الحديث وأهل السنة. وكل صنف منها يندرج تحته فرق كثيرة، وقد استهل الكتاب بتقسيم المسلمين إلى عشرة أصناف هي: الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية وأصحاب عبد الله بن كلاب القطان. وأورد آراءها المختلفة في جليل الكلام. والقسم الثاني يتناول ثلثاه الأولان، مسائل في دقيق الكلام وآراء مختلف الفرق فيها، وخصوصا المعتزلة، والثلث الأخير فيه عود على بعض ما تناوله في القسم الأول من جليل الكلام. وقد اعتمد الأشعري على الكثير من المصنفات في عصره ككتب محمد بن الهذيل بن مكحول، والجاحظ، وأبي عيسى الوراق، والزرقان، وجعفر بن حرب، وسليمان بن جرير، وغيرهم. ويدل ذلك على تنوع مصادر المقالات التي اعتمد عليها الأشعري في كتابه بين مختلف المذاهب الإسلامية؛ فهناك مصادر سنية وشيعية وخارجية واعتزالية، بل وإلحادية أيضا. وقد أثنى كثير من العلماء قديما وحديثا على الكتاب، ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية عندما تحدث عن كتب المقالات فقال: "ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري". وبناء على كون الكتاب أقدم مرجع وصل إلينا كاملا في الفرق فقد اعتمد عليه كثير من العلماء ممن جاء بعده كعبد القاهر البغدادي في كتابه "الفَرْق بين الفِرَق"، والشهرستاني في كتابه "الملل والنحل"، وابن تيمية في كتابه "درء التعارض بين العقل والنقل". ومما يؤخذ على الكتاب أن المؤلف كثيرا ما يكرر الأقوال لا سيما حين يتكلم عن الطوائف المختلفة، ثم إنه يذكر بالتفصيل أقوال شيخه السابق في الاعتزال الجبائي مما يدل على قوة تأثيره عليه في المرحلة الأولى من حياته. هذا في مقابل ذكره لأقوال السلف الذين يسميهم أهل الحديث وأهل السنة بإجمال، لأنه لم يكن خبيرا بتفاصيل أقوالهم.