هذا الكتاب هو حلقة في سلسلة مؤلفات تحت عنوان "مشكلات الحضارة"، بدأها بباريس المفكر الجزائري مالك بن نبي أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، ثم تتابعت حلقاتها في مصر فالجزائر. والكتاب الذي بين أيدينا جاء استجابة لتساؤلات الطلاب الذين كانوا يرتادون مجلس الأستاذ مالك بن نبي في القاهرة مستوضحين مفهوم الثقافة فيما كتب في "شروط النهضة" و"فكرة الإفريقية الآسيوية"، فشعر بالحاجة إلى جمع أفكاره عن الثقافة وعرضها من جديد في صورة تحليلية تحفز الفكر العربي الإسلامي وتحركه باتجاه اكتشاف الحقائق والمصطلحات بوسائله الخاصة، ووفق المعطيات النابعة من تجربته. ويقع الكتاب في خمسة فصول: الأول تحليل نفسي للثقافة، حيث يبدأ المؤلف بدراسة "تحليلية" نفسية للثقافة، والعناصر الأساسية الممثلة للثقافة وبين المعنى الواسع للثقافة والعلاقة بين "الأشياء" و"الأفكار" وتداعيات المراحل المختلفة والتي قد تصبح معها بعض الثقافات غير صالحة للاستنساخ. والفصل الثاني تركيب نفسي للثقافة، حيث يتكلم عن شروط الثقافة وتركيبها المتمثل بـ: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة، وقد تكلم عن مشكلة كبيرة تواجه المجتمع الإسلامي في تركيب ثقافته ومن ثم حضارته، وهي انتشار "المتعالمين" الذين تعلموا لا لغاية العلم والتطوير، بل لغاية الوصل للمآرب والاستمتاع بحظوة مجتمعية براقة كاذبة. وفي الفصل الثالث "تعايش الثقافات" تناول دور "اليونسكو" في مبادرات تعايش الثقافات وأخذ المبادرة الآفروآسيوية كمثال -1955م-، وتناول "الثقافة في اتجاه العالمية" وبين دور العولمة في ذلك، وأهمية إيجاد "هامش" ثقافي يسمح بتعايش أكبر للمجتمعات المختلفة، مع حفظه لطبيعة الاختلافات بين الخلفيات الثقافية لهذه المجتمعات، وفرق بين الحضارات الثقافية المبنية على التسامح والقوة الفكرية، وبين الحضارات الإمبراطورية القائمة على القوة العسكرية، وناقش الدور المناط بأفريقيا - باعتباره أحد أبنائها - في تحقيق هذا "التعايش العالمي" للثقافات. والفصل الخامس كان مختصرا قصيرا عما أسماه المؤلف "ما ضد الثقافة" وقد أضيف إلى آخر الكتاب بعد طبعته الثانية، وهو يناقش الصور الشائعة في المجتمعات الدولية جراء المدنية والحضارات والفروق بين الشعوب وما أثمرت عنه في تشويه صور جميلة كثيرة، وهذا الفصل هو في الأصل مقال كان قد كتبه في إحدى المجلات الناطقة بالفرنسية، وقام بترجمته عمر كامل مسقاوي، تلميذ المؤلف والوصي على نشر كتبه، وأضافه إلى هذا الكتاب لما رأى من أنه يتمم فكرة المؤلف عن مشكلة الثقافة، و تنفيذا لوصيته في تبليغ أفكاره إلى قارئي العربية.ينطلق تعريف مالك بن نبي للثقافة من نقد المنظور الرأسمالي القائم على الفردانية، ومن المنظور الشيوعي القائم على الجماعية، ثم يبرز خطأ تركيز بناء مفهوم الثقافة على الفرد أو الجماعة فقط، ويبين مفهومها في الإسلام، القائم على تركيب أربعة عناصر أساسية هي: الأخلاق، الجمال والذوق، المنطق العلمي، الصناعة والتكنولوجيا، ومكمن العلاقة القائمة بين هذه العناصر الأربعة في زمن فاعل يصنعه الإنسان نحو التحضر هي الثقافة. فالثقافة هي علاقة عضوية في سلوك الفرد، وأسلوب الحياة الاجتماعية، وهي نظرية في السلوك الاجتماعي، وليست نظرية في المعرفة. وعرفها مالك على أنها:(… مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه…).وقد ناقش الكتاب "الأزمة الثقافية" وقسمها إلى أزمة ثقافية على مستوى الأفراد وأزمة ثقافية على مستوى المجتمع، كما أثار في هذه الجانب نقطة تلامس حالنا في البلاد العربية كلها اليوم، من دور الحكومات والسلطات البيروقراطية الطاغية في "انتهاز" حال أفراد المجتمع ومحاولة قمع أي محاولة للتفكير المنهجي، وإخفاء الواقع والنكبات التي تحل فيه من أزمات ثقافية وسياسية واقتصادية.. والتي تنضوي جميعا تحت راية "الثقافة" في تعريفها ومفهوما الشمولي، ومحاولة هذه الحكومات تصريف وتشتيت أنظار الشعوب إلى أمور أخرى تلهيهم عن واقع الفساد والأزمة الثقافية التي تعيشها بلدانهم.إن "الثقافة"، تلك الكلمة التي تجري على الألسنة ويتشدق بها الكثيرون، يدرك القارئ من خلال هذا الكتاب أن مجرد معرفتها معرفة حقيقية ومحاولة تعريفها وتوضيح حدودها هو مشكلة كبيرة بحق، وقد بذل فيها المؤلف جهدا رائعا وحاول تعريفها أولا من جهة اللغة ثم انتقل إلى تعريف عالمين أمريكيين وآخرين ماركسيين ليوضح التباين في تناول الثقافة وتعريفها وحدودها وأنها خاضعة لمعطيات متغيرة من مجتمع إلى آخر، وعليه فالتعامل معها بصورة جامدة أو محاولة استنساخها من مجتمع إلى مجتمع آخر هي عملية مجحفة وغير مجدية فعليا لما سيحدث من تضارب بين المعطيات في هذا المجتمع والمفاهيم الثقافية الناتجة عن معطيات أخرى في المجتمع الآخر.وإذا كان يحسب للكاتب أنه أحد رواد هذا المضمار إذ استلهم التراث الاجتماعي الإسلامي – متمثلا في ابن خلدون – ومزجه بالتراث الإنساني والجا معترك "مشكلات الحضارة" ومتلمسا العلل والأدوية لها، إلا أن بعضا من أفكار الكاتب لا تسلم من التنظير البعيد عن المنهج الإسلامي، وكذلك الإعلاء من شأن الأشخاص والأفكار المتهمين إذا ما وزناهم بميزان الإسلام. ونحن ندرك بوضوح أن "السلام العالمي" أو "تعايش الثقافات" أو "غاندي" أو "اليونسكو" وما على شاكلة هذه الأفكار أو الأشخاص أو الهيئات فهي باطلة في ميزان الإسلام وإن بدت للكثيرين ذات رونق أو بهاء ربما لما لها من تفوق نسبي على ركام من الجهالات والشرور. ثم إن في المناداة بالسلام العالمي إغفالا لقضايا جوهرية تقف حجر عثرة في سبيله، ففي الجانب العربي والإسلامي تقف قضية فلسطين عائقا، بل في كل مكان هناك صراع على العقيدة مصداقا للسنة الإلهية: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}. إن مالك بن نبي كان يعد في عصره وبعيده مهندس النهضة الإسلامية المنتظرة، وقد تناول في كتابه "شروط النهضة" ركنا مهما من أركان هذه النهضة المنتظرة بالتحليل، ساعيا لمعرفة الكيفية التي يمكن للمجتمع العربي والإسلامي أن يتعرف على ثقافته وكيف يتسنى له أن يطورها في حدود مفاهيمه التي تشتمل على معطيات نابعة من عربيته وإسلاميته، وقد خرج المؤلف بعض الشيء عن هذا الاتجاه العربي الإسلامي إلى الإقليمية فتناول الإفريقية والآسيوية، ولا شك أن محاولة خلق ثقافة موحدة أو منبع موحد للثقافة الأفريقية أو الآسيوية على شاكلة الثقافة الأوروبية مما قد يستحيل لأن الثقافة الأوروبية قد وحدتها - كما ذكر المؤلف - توحد الديانة فقد كانت المسيحية المنطلق الأول لتلك الحضارة حتى وإن تنكر لها الغرب فيما بعد، بينما في أفريقية أو آسيا ينعدم هذا العنصر الموحد إلا ما يتعلق بالموقع الجغرافي وهو أمر لا يرقى لتكوين ثقافة موحدة، غير أن هدف المؤلف - كما ذكر في خاتمة كتابه - أن يوضح أنه مع ضعف الرابط الجغرافي إلا أنه من الممكن أن يسعى لإقامة ثقافة كما سعى الإتحاد الإفريقي أو الأفروآسيوي فمن باب أولى أن تكون الثقافة الإسلامية مع عظمتها ومتانتها قادرة على إحداث تلك الوحدة الثقافية بل والدفع بوطنها إلى التحضر والتقدم.