الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
يقول تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [الروم: 30].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟" ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴾ الآية.
فدين الإسلام هو الفطرة التي فطر الله عباده عليها، ثم انحرفت هذه الفطرة بإضلال الشياطين؛ ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عبدا حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا…" الحديث.
ويقول تعالى: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون﴾ [الأعراف: 172-174]. فأخبر تعالى أنه أخذ الميثاق على بني آدم بالتوحيد، كما جاء في هذه الآية وهي آية الميثاق.
وفي تفسير ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما قوله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي فطرهم عليها يوم قال: ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة؛ فإن حقيقة الإسلام أن يستسلم لله لا لغيره، وهو معنى لا إله إلا الله.
وقد ضرب رسول الله مثل ذلك فقال: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟"؛ بيّن أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن وأن العيب حادث طارئ - إلى أن قال - ومَثَلُ الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكلُّ ذي عين لو تُرك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس. وكذلك كلُّ ذي حس سليم يحب الحلو إلا أن يَعرض في الطبيعة فسادٌ يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرا.
ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا؛ ولكن [المراد] سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام بحيث لو تُرك مِن غير مُغَير لما كان إلا مسلما، وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضى بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع هي فطرة الله التي فطر الناس عليها).
ومن أجل ذلك أرسل الله تعالى رسله الكرام لبيان هذه الحقيقة الناصعة، والدعوة إلى الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56].
وسنعرض في المباحث التالية للعقيدة الإسلامية، تعريفها وموضوعاتها وتدوينها ومصنفاتها، إلى غير ذلك مما يعد مدخلا للتعرف عليها ودراستها.
العقيدة في اللغة: من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقدا، ومنه عقدة اليمين والنكاح، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولـكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ [المائدة: 89]. والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده. وفي الاصطلاح: هي الأمور التي يصدق بها القلب، وتطمئن إليها النفس، حتى تكون يقينا ثابتا لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك. أي: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده، ويجب أن يكون مطابقا للواقع، لا يقبل شكا ولا ظنا؛ فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة.
والعقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، وأصول الدين، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم التام لله تعالى في الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والعقيدة الإسلامية إذا أطلقت فهي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإسلام الذي ارتضاه الله دينا لعباده، وهي عقيدة القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
وللعقيدة الإسلامية أسماء أخرى عند أهل السنة والجماعة ترادفها، وتدل عليها، منها: " التوحيد "، " السنة "، " أصول الدين "، " الفقه الأكبر "، " الشريعة "، "الإيمان"، كما سيأتي.
ولقد صنف السلف الصالح في هذا العلم وتلقى عنهم الأئمة حتى وصل إلينا غضا طريا كما كان في الصدر الأول. لذا لزم تبيان نشأة علم الاعتقاد وأدوار التدوين التي مر بها.
إن هذا الدين منهج إلهي أنزله الله للبشر لكي يحيوا على وفقه فيظفروا بالفلاح في الدارين. وهو يشمل أصولا وفروعا، الأصول أساس البناء لا يقوم إلا به، والفروع تبنى عليها وتعود إليها. وعلى هذا فقد قسم العلماء علوم الشريعة إلى قسمين:
القسم الأول: أصول الاعتقاد، التي تشكل القاعدة الأساس في بناء الدين، ومنها ينطلق المؤمن، ويضبط كل حركته بضوابطه، ويوجه كل سلوكه وأعماله، ويفسر للإنسان طبيعة وجوده ونشأته وغايته، ويعرفه بدوره في الحياة، ويحدد مصيره الذي ينتهي إليه في الآخرة، ويرسم له معالم صلته بالله تعالى، وصلته بالحياة والأحياء والكون من حوله.
وهذا الجانب يقوم على أصول هي أصول الإيمان وأركانه. ولأهمية هذه الأصول ومكانتها في الدين فقد أولاها الإسلام عنايته الكبرى.
والقسم الثاني: الأحكام العملية، أو النظام الذي ينبثق عن هذه الأصول العقدية ويقوم عليها، ويجعل لها صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك الإنساني في أي جانب من جوانب الحياة متفرعا عن أصل من أصول العقيدة والإيمان، ومرتبطا به:
- فلا قيمة ولا استقرار لشريعة أو نظام لا يستند على أساس متين.
- كما أنه لا جدوى من أساس ما لم نرفع فوقه بناء قويا محكما.
بل كانت العقيدة هي الروح الذي يسري في هذه الأحكام، فيهبها الحياة النابضة المتحركة.
وتسمى الأحكام المتعلقة بهذه الجوانب كلها: أحكاما فرعية أو عملية، والعلم المتعلق بهذا الجانب يسمى علم الفروع أو فروع الدين أو علم الفقه أو علم الشرائع والأحكام؛ لأنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند الإطلاق إلا إليها.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون من النبي صلى الله عليه وسلم أحكام هذا الدين وتعاليمه وآدابه، فيما يتعلق بالإيمان ومعرفة الله سبحانه وما ينبغي له من الطاعة، وفي كيفية العبادة وأداء الشعائر، وفي شتى أنواع المعاملات في مناحي الحياة الفردية والاجتماعية، وفي الأخلاق والآداب والسلوك، ثم في علاقة الأمة بغيرها من الأمم والديانات الأخرى، دون أن يكون هناك تفكير في تقسيم هذه الأحكام أو تصنيفها وتبويبها ليكون هذا عقيدة وذاك عبادة، والثالث اقتصادا أو سياسة إلى غير ذلك من هذه التقسيمات الحادثة التي اقتضتها ضرورة البحث والتأليف، ودون أن يكون هناك تفريق بينها في الالتزام والعمل بمقتضاها.
هكذا تلقوها وهكذا عاشوها روحا تسري في الحياة فتقيمها على منهج الله، فلم يكن الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم بحاجة إلى تدوين علم العقيدة أو أصول الدين، وإلى ترتيب مباحثه كتبا وأبوابا وفصولا، كما نجد اليوم مثلا.
إن أشرف العلوم على الإطلاق العلم بالله، لأن شرف العلم مبني على شرف المعلوم، والله تعالى أشرف معلوم، فالعلم به، إذًا، أشرف العلوم. وهو أفضل ما أدركته العقول، وانطوت عليه القلوب. وتحصيل هذا العلم الشريف من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ولهذا أمر الله به قبل القول والعمل، فقال: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات﴾ [محمد: 19]. وعلم العقيدة هو أصل العلوم الشرعية وأخطرها، كيف لا وهو العلم الذي يعقد عليه القلب، ويتميَّز فيه الخلق بين مؤمن وكافر! ومن استقامت عقيدته فاستقامة باقي علومه وأعماله أقرب، ومن قصرت به عقيدته ظهر ذلك على باقي علمه ووضع منه ولو كثر. ويمكن إجمال أهمية العقيدة فيما يلي:
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في مقدمة شرحه للعقيدة الطحاوية : (وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمه الله ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين "الفقه الأكبر". وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا أن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته، وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه).
إن العقيدة الإسلامية عقيدة ربانية، يشملها قوله تعالى: ﴿وأن هـذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ [الأنعام: 153]. ولذلك فهي تتميز بخصائص تفارق بها ما سواها من العقائد والفلسفات:
إن العقيدة الإسلامية ربانية المصدر، ولذلك فهي توصف بأنها توقيفية، فيجب على الأمة أن تقف عند الحدود التي حدها الشارع وبينها، فلا مجال فيها لزيادة أو نقصان أو تعديل أو تبديل، فتلتزم ألفاظ العقيدة الواردة في الكتاب والسنة، مجانبة الألفاظ المحدثة التي أحدثها المبتدعة.
وهذه الخاصية لها أثرها الفريد في عصمة الأمة من الخطأ والزلل والانحراف، ومن الاضطراب في فهم العقيدة؛ وذلك لأنها ترجع إلى مصدر موثوق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه.
كما أنها ضمانة لتوحيد كلمة الأمة على منهج واحد وتصور واحد، عندما تلتقي على هذا الوحي الإلهي بما فيه من موازين لا تضطرب، ولا تتأرجح، ولا تتأثر بالهوى والدوافع الذاتية، كما هو الحال في المعتقدات الوثنية أو العقائد السماوية المحرفة.
تقوم العقيدة الإسلامية على الإيمان بأصول لا تخضع للحس المباشر أو غير المباشر، وإنما تقع في مجال عالم الغيب، وهو العالم الذي غاب عن حواسنا ولا تقتضيه بداهة العقول.
فالإيمان بالله سبحانه هو إيمان بالغيب؛ لأن ذات الله تعالى غيب بالقياس إلى البشر، والإيمان بالآخرة وما يتصل بها هو كذلك إيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة إيمان بالغيب، وكذلك الإيمان بالقدر، كل هذا غيب يؤمن به المؤمن الذي يريد الهداية. والإيمان بالغيب نزعة فطرية فطر الله تعالى الإنسان عليها.
غير أن كل ما تدعو إليه العقيدة الإسلامية وتقوم عليه من هذه الأمور الغيبية غير متناقضة مع العقل، وكما قيل قد تأتي العقيدة الإسلامية بالمحار ولكن لا تأتي بالمحال: (والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يُعلم بالعقل امتناعه).
وهذه الخاصية للعقيدة الإسلامية تميزها عن المذاهب الفكرية المادية التي تتنكر للغيب ولا تؤمن إلا بما تقع عليه الحواس، ويخضع للتجربة الحسية.
ومن هنا كانت الأحكام الدينية ضابطا لسلوك الإنسان المؤمن، وطريقا لتنمية الوازع الداخلي "الوجدان"، وهذا ما تفتقده المذاهب والقوانين البشرية التي لا تستطيع أن تضبط سوى الأمور الظاهرية. ولعل في هذا إشارة إلى الحكمة من ربط الأحكام التشريعية بتقوى الله تعالى، والخوف من عقابه.
فلقد أحاطت العقيدة وهيمنت على الأعمال والأقوال والسلوك وكل أمور الحياة. ولا يتم إيمان العبد إلا عندما يخضع كل أمور حياته لهذا الدين: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين﴾ [الأنعام: 162].
ولذلك فإن العقيدة الإسلامية - كأثر لهذا الشمول العام في الإسلام - عقيدة شاملة فيما تقوم عليه من أركان الإيمان وقواعده وما يتفرع عن ذلك، وشاملة في نظرتها للوجود كله، تعرفنا على الله والكون والحياة والإنسان معرفة صحيحة شاملة.
وهذا الشمول، فوق أنه مريح للفطرة البشرية لأنه يواجهها بمثل طبيعتها الموحدة ولا يكلفها عنتا ولا يفرقها مِزَقا، فهو في الوقت ذاته يعصمها من الاتجاه لغير الله: ﴿ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا﴾ [الزمر: 29]، ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم﴾ [الزخرف: 84].
التكامل في العقيدة الإسلامية تتجمع فيها كل الأجزاء وتترابط ترابطا دقيقا يأخذ بعضها بحُجَز بعض لتشكل كلا موحدا متناسقا لا يقبل التجزئة والانفصام. فأركان الإيمان كلها مترابطة ارتباطا وثيقا، يكمل كل منها الآخر ويرتبط به، بحيث لو حصل إخلال بواحد منها أو إنكار له، كان تأثيره على سائرها واضحا، بل إن هذه الأركان تتجمع وتتضامّ حول الركن الرئيس وهو الإيمان بالله تعالى. ومن هنا تأتي أركان الإيمان كلها في سياق واحد يحقق صفة الإيمان لصاحبها، وتأتي النصوص القرآنية كذلك لتؤكد على الارتباط بين الإيمان بالله والإيمان بالملائكة، وتقرن الإيمان بالله مع الإيمان باليوم الآخر، وتجعل الإيمان بالرسل أمرا لا يتجزأ، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعا، بل قد كفر بالله تعالى؛ لأنهم جميعا جاءوا من عند الله -سبحانه وتعالى- برسالة واحدة، وقد قرر الله تعالى ذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
وكذلك تكامل القول والعمل، أو العمل والإيمان، بحيث يصبحان شيئين يكمل بعضهما بعضا، ويقوي بعضهما بعضا، إذ رسوخ الفكرة الإسلامية يدفع للعمل بمقتضاها، والمواظبة على العمل بمقتضى الفكرة الإسلامية يدعمها ويزيدها رسوخا.
بهذه الخاصية يتميز الإسلام عن سائر الأديان والمذاهب أجمعها التي تضخِّم جانبا وتُعنَى به على حساب الجوانب الأخرى، إما أن يكون ذلك ابتداء، وإما أن يكون ردة فعل أو معالجة لخطأ سابق.
وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمثلة على وسطية الإسلام هذه بين الأديان:
- في الموقف من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- بين جفاء اليهود وغلوّ النصارى.
- وفي شرائع دين الله تعالى بين اليهود الذين حرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء أو يحكم ما يشاء، وبين النصارى الذين جوزوا ذلك لعلمائهم، وكذلك في وسطية الإسلام بينهما فيما يتعلق بالحلال والحرام، وفيما يتصل بأسماء الله وصفاته.
والمذاهب المادية تُعْنَى بجانب المادة وتهمل الروح، أو تُعْنَى بالفرد وتهمل مصلحة الجماعة، وتقوم مذاهب أخرى لتُعلي من شأن الروح على حساب القيم الأخرى، أو لتغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد الذي تعتبره كما مهملا، لا قيمة له بمفرده.
والتوازن في مصادر المعرفة بين الوحي والعقل، وبين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين القيم المادية والقيم المعنوية.
وهذه الخاصية لها أثرها الكبير في عصمة هذه الأمة عن الغلو والإفراط وعن النقص والتفريط، وعن التأرجح بين المذاهب والأفكار القاصرة، والأخطاء الناتجة عن الوقوع في الانحراف بكل قيمة عن مكانتها اللائقة بها.
من مقومات بقاء الشريعة الإسلامية وخلودها وأنها صالحة لكل زمان ومكان، ما تقوم عليه من أصول ثابتة لا تتأثر بتغير الزمان والمكان.
وفائدتها أنها تحفظ الأساس والإطار العام للشريعة الإسلامية على مر العصور وكر الدهور وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فلا يأتي عليها الضياع ولا التحليل أو التميع وذلك أن هذه الأمور ثابتة تزول الجبال ولا تزول، نزل بها القرآن وتواترت بها السنة وأجمعت عليها الأمة.
فهي منطقة محرمة لا يدخلها الاجتهاد ولا التطوير ولا التجديد، وليس من حق مجمع من المجامع، ولا مؤتمر من المؤتمرات، ولا من حق خليفة من الخلفاء، أو رئيس من الرؤساء أن يلغي أو يعطل شيئا منها، لأنها كليات الدين وقواعده الأساسية وأسسه، أو كما قال الشاطبي: (كلية أبدية وضعت عليها الدنيا، وقامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء. وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا. فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض وما عليها).
ومن أنكر شيئا منها غير جاهل ولا مكره ولا متأول فإنه يكفر بإجماع.
إنما يكون التجديد والتطوير بطريقة وآلية وبرامج ووسائل عرضها وتقديمها للناس لا أن تغير هي نفسها أو أي شيء منها أو يتم تبديلها أو مسخها، أو تحريف شيء أو جزء منها بدعوى التجديد والتطوير فكل ذلك مرفوض شرعا لأنه يكون هدما للدين وطمسا لحدوده.
فهي تمثل الثبات على الأهداف والغايات والثبات على الأصول والكليات والثبات على الأخلاقيات والدينيات، ويكون التطوير والتجديد والمرونة في الوسائل والآلات وفي الفروع والجزيئات وفي الماديات والدنيويات.
بهذا نصل الى أن الشريعة الإسلامية تجمع بين الثبات والمرونة وهذه من مزايا الشريعة الإسلامية ودليل عظيم على رسوخها وثباتها وصلاحها لكل زمان ومكان. فالتشريع الإسلامي بمرونته يستطيع أن يتكيف ويواجه التطور، ويلائم كل وضع جديد، وهو بثبات أصوله وكلياته وأهدافه وغاياته وأخلاقياته يستعصي عن الذوبان والميوعة والخضوع لكل تغيير خطأ أو صوابا.
إن مهمة التشريع أن يصوب الخطأ، وأن يقوم العوج لا أن يخضع له، ويبرر قيامه، ويصحح وجوده باسم ”التطور“.
إن هذا التشريع لم يضعه المجتمع حتى يخضع له، وينحني لظروفه وأوضاعه، ولكنه وُضع للمجتمع ليرقى به، ويُخضع ظروفه وأوضاعه لهدايته وتوجيهه.
وليس معنى هذا أن الناس مشلولون أمام هذا التشريع. كلا فإن للاجتهاد البشري مجالا كبيرا في هذا التشريع من مثل الاجتهاد في فهم نصوصه والاستنباط منها وتفاوت درجات هذه النصوص في ثبوتها ودلالتها من حيث القطعية والظنية. وكذا الاجتهاد في استنباط الأحكام لما لا نص فيه عن طريق القياس الصحيح أو اعتبار المصلحة المرسلة، والاستحسان، أو غير ذلك من الأدلة التي تختلف في تقديرها آراء الفقهاء باختلاف مشاربهم ومدارسهم.
جدّت بعد عصر الصحابة أمور اقتضت تدوين مسائل العقيدة في علم مستقل. ونشير فيما يلي إلى أهم هذه الأمور:
أولا: أهمية علم العقيدة، ولعله أهم الأسباب وأظهرها. فقد لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، بعد أن بلغ رسالة ربه تبارك وتعالى، وترك في هذه الأمة ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبدا: كتاب الله وسنة نبي، وكان كتاب الله تعالى محفوظا في صدور الصحابة، ومكتوبا في الصحف - على ما كان متيسرا من وسائل الكتابة - ليكون ذلك وسيلة لتحقيق وعد الله تعالى بحفظ الذكر، ثم جمع في مصحف واحد في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان الجمع الثاني ونسخ المصاحف وتوزيعها في الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه، وقد توفر لهذا الكتاب ما لم يتوفر لكتاب آخر سماوي أو غير سماوي.
أما الحديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلم تدون تدوينا شاملا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دون القرآن الكريم، وإنما كانت محفوظة في الصدور، نقلها الصحابة إلى من بعدهم من التابعين مشافهة وتلقينا، وإن كان عصر النبي لم يخل من كتابة بعض الحديث.
وتكاد تجمع الروايات على أن أول من فكر بالجمع والتدوين للسنة من التابعين: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إذ أرسل إلى أبي بكر بن حزم - عامله وقاضيه على المدينة -: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء". فكتب شيئا من السنة. وقام محمد بن شهاب الزهري بتدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوب على أبواب العلم، وربما كان مختلطا بأقوال الصحابة والتابعين، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد.
ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزهري، في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد - على ما فعله الإمام مالك في "الموطأ" ثم من بعده البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، وأصحاب السنن في "جوامعهم وسننهم" - فبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب، مثل: باب الإيمان، باب العلم، باب الطهارة، باب الطلاق، باب التوحيد، باب السنة، وهكذا. فكان هذا التبويب للأحاديث النواة الأولى في استقلال كل باب، فيما بعد، بالبحث والنظر والعناية بالبيان وبيان الأحكام، فعن أبواب الإيمان، والوحي، والسنة، والتوحيد.. نشأ علم العقيدة واستقل عن العلوم الأخرى المستنبطة من الكتاب والسنة.
ثانيا: الافتراق والبدع: فقد كان المسلمون عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، وإنما كانوا يختلفون في فروع في مسائل كثيرة، وكان اختلافهم هذا لا يورث تضليلا ولا تفسيقا لأنه في أمور لا تمس العقيدة، وإنما هي مسائل فرعية، ثم هي مما لم يرد بها نص صريح عن الله تعالى أو عن رسوله، أو جاءت في بعضها نصوص مختلفة، بعضها يعارض بعضا في ظاهر الأمر.
ثم اختلف الناس في أشياء اتخذها قوم من بعدهم تكأة؛ إما للطعن في بعض الصحابة، وإما جعلوها أساسا لنحلتهم، أو استدلوا بها في مسألة من مسائلهم التي اتخذوها شعارا لهم، ثم تعمق الخلاف وأدى إلى نشوء جماعات متفرقة.
وبعد هذا الاختلاف قامت كل فرقة تجادل عن رأيها وتؤيده بالأدلة، وتدفع رأي الآخرين وترد عليه، فوضعت في ذلك كتب ومؤلفات، فكان ذلك من عوامل نشأة الكتابة والتدوين في هذا الجانب.
يضاف إلى ذلك ما نجم وظهر من البدع والانحرافات عن العقيدة الصافية التي كان عليها الصحابة بعد سنوات من خلافة علي رضي الله عنه، إذ حدث في زمنهم القول بالقدر وأن الأمر أنف، وكان أول من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني، وكان يجالس الحسن البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وسلك بعض أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له: يونس سنسويه، ويعرف بالأسوري، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج، وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين.
وحدث أيضا في زمن الصحابة مذهب الخوارج، وصرحوا بالتكفير بالذنب، والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقتل منهم جماعة، ودخل في دعوة الخوارج كثير.
وحدث أيضا في زمن الصحابة مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب، والغلو فيه، فلما بلغه ذلك أنكره وحرق بالنار جماعة ممن غلا فيه.
وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء السبئي، وأحدث القول بوصية رسول الله لعلي بالإمامة من بعده، وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله أيضا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعيلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق. وعنه أيضا أخذوا القول بأن الجزء الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة. وعلى هذا الرأي كان اعتقاد الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر. وابن سبأ هذا هو الذي أثار الفتنة على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل، وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدا للخوارج، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة -مذهب جهم بن صفوان بالمشرق، فعظمت الفتنة به، فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثرت في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير، وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأنكر أهل الإسلام بدعته.
وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال منذ زمن الحسن البصري على يد واصل بن عطاء، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر، وجهروا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا أن القرآن مخلوق محدث، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى، وأتباعهم تكثر، ومذهبهم ينتشر في الأرض.
ثم حدث مذهب التجسيم المضاد لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن كرام بن عراق بن حزانة، أبو عبد الله السجستاني، زعيم الطائفة الكرامية، بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه.
هذا، وأمر الشيعة يفشو بين الناس، حتى حدث مذهب القرامطة المنسوبين إلى حمدان الأشعث -المعروف بقرمط- وكان ابتداء أمره في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة، فاشتهر مذهبه بالعراق. وقام أتباعه ببلاد الشام والعراق والبحرين بالدعوة إلى مذهبه الذي يقوم على القول بالباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم.
هذا، وقد كان المأمون، عبد الله بن هارون الرشيد، سابع خلفاء بني العباس، لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم من عرب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة. فانتشرت مذاهب الفلسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم.
ولما قامت دولة بني بويه في بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وأظهروا مذهب التشيع قويت بهم الشيعة ... وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنة.
ولما ظهرت هذه البدع، وقف علماء السلف وأهل السنة يردون عليها ويحذرون منها، ويوضحون أصول العقيدة، ويدعون للتمسك بها.
ثالثا: احتكاك المسلمين بأهل الديانات الأخرى، وهذا من العوامل الخارجية، إذ وقع لك عن طريق اللقاء المباشر والجدل مع أصحابها، أو عن طريق الترجمة التي بدأت في عهد الدولة الأموية، ثم اتسعت في عهد الدولة العباسية، وكان للخليفة المأمون أثر كبير في هذا، حيث فعل ما لم يفعله السابقون، وهو أنه ترجم الكتب الخاصة بالإلهيات والأخلاق وأمثال ذلك مما سموه بـ "ما وراء الطبيعة".
وهذا الاحتكاك المباشر بين المسلمين وغيرهم حدث عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وتهيأت الأسباب لهذا الاحتكاك بين المسلمين واليهود من جهة، وبين المسلمين والنصارى من جهة ثانية، وكذلك بين المسلمين والمجوس، ثم بينهم وبين الفلسفة اليونانية وغيرها.
كما تقدم فإن أول من فكر بالجمع والتدوين للسنة من التابعين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إذ أرسل إلى أبي بكر بن حزم - عامله وقاضيه على المدينة -: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء". فكتب شيئا من السنة. وقام محمد بن شهاب الزهري بتدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوب على أبواب العلم، وربما كان مختلطا بأقوال الصحابة والتابعين. ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزهري، في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد - على ما فعله الإمام مالك في "الموطأ" ثم من بعده البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، وأصحاب السنن في "جوامعهم وسننهم" - فبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب، مثل: باب الإيمان، باب العلم، باب الطهارة، باب الطلاق، باب التوحيد، باب السنة، وهكذا. فكان هذا التبويب للأحاديث النواة الأولى في استقلال كل باب، فيما بعد، بالبحث والنظر والعناية بالبيان وبيان الأحكام، فعن أبواب الإيمان، والوحي، والسنة، والتوحيد.. نشأ علم العقيدة واستقل عن العلوم الأخرى المستنبطة من الكتاب والسنة.
● ثم بدأت الكتابة فيه في صورة ردود على الفرق الضالة:
- فكتب أبو حنيفة 150 هـ (الفقه الأكبر)، حيث رد فيه على المعتزلة والقدرية والجهمية والشيعة.
- وكتب أحمد بن حنبل 241 هـ (الرد على الزنادقة والجهمية).
- وكتب البخاري 256 هـ (الرد على الجهمية).
- وكتب عثمان بن سعيد الدارمي 280 هـ (الرد على بشر المريسي).
- وفي الرد على الوعيدية (وهم الخوارج والمعتزلة) وعلى المرجئة كتب أبو عبيد القاسم بن سلام 224 هـ كتابه (الإيمان).
- وكذلك صنع أبو بكر بن أبي شيبة 235 هـ.
- وكذا كتاب الحيدة والاعتدال في الرد على من قال بخلق القرآن للكناني 240 هـ.
وكُتب الردود هذه تتناول بعض مسائل الاعتقاد.
ويضاف إلى ذلك كتب (الإيمان) و(السنة) بدواوين الحديث كالكتب الستة وغيرها.
ثم دُوِّنت الكتب التي تجمع معظم مسائل الاعتقاد المعروفة اليوم، ولكنها لم تسم باسم كتب الاعتقاد إلا في أوائل القرن الخامس الهجري.
● أما قبل ذلك فعرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وذلك في مقابل مقالات المبتدعة، فمنها:
- كتاب (السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم 287 هـ.
- و(السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل 290 هـ.
- و(السنة) لمحمد بن نصر المروزي 294 هـ.
- و(السنة) لأبي بكر الخلاّل 311 هـ.
● كما سُميت كتب الاعتقاد أيضا باسم كتب الشريعة:
- ككتاب (الشريعة) لأبي بكر الآجري 360 هـ.
- وكتاب (الإبانة عن شريعة الفرق الناجية) لابن بطة 387 هـ.
● وسمي الاعتقاد أيضا بأصول الدين كما سمّاه أبو الحسن الأشعري 324 هـ في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة).
● ثم ظهر مصطلح الاعتقاد في أوائل القرن الخامس الهجري، فكتب أبو القاسم اللالكائي (418 هـ) كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).
وفي كل الكتب السابقة يسوق المؤلفون ما يرْوونه بأسانيدهم الخاصة، وذلك باستثناء (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري، حيث ذكر اعتقاده في صورة متن بدون أسانيد.
● وانتهت الطبقات التي كان رجالها يكتبون العقائد بطريقة الآثار المسندة، وتلا ذلك كتابة العقائد مجردة من الأسانيد:
- في صورة متون: كالعقيدة الواسطية لابن تيمية، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة.
- أو في صورة شروح: ككتابات ابن تيمية وابن القيم في الاعتقاد.
- أو في صورة قصائد منظومة: كالقصيدة النونية لابن القيم وقصيدة ”الدُّرة المُضيّة“ للسفاريني والتي شرحها بنفسه في ”لوامع الأنوار البهية“، وقصيدة ”سُلّم الوصول“ لحافظ حكمي والتي شرحها بنفسه في ”معارج القبول“( ).
● ثم اختصت بعض المصنفات بعد ذلك بتناول مقالات الفرق الضالة:
- فمن المؤلفين من يسرد ذلك سردا دون الرد على المخالفين كما في (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري (324 ه)، و(الفَرق بن الفِرق) لعبد القاهر البغدادي (429 ه)، و(المِلل والنحل) للشهرستاني (548 ه).
- ومنهم من يفند مقالات الفرق المخالفة لأهل السنة ويرد عليها كما فعل ابن حزم (456 ه) في (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل).
ولقد اتبع أهل السنة منهجا ثابتا في تدوين مسائل الاعتقاد، ألا وهو إثبات هذه المسائل بأدلتها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وأصبح اتباع هذا المنهج من خصائص أهل السنة. وذلك في مقابل منهج الفرق المبتدعة في اتباع قواعد الجدل والمنطق لإثبات مسائل الاعتقاد بدعوى أنه يمكن إثبات صحة العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية. ولقد اشتهرت المعتزلة بالأخذ بهذا الأسلوب ثم فاقهم فيه الأشاعرة وعلى رأسهم كبيرهم القاضي أبو بكر الباقلاني 403 هـ، الذي وضع المقدمات العقلية التي يتوقف عليها الاستدلال والنظر وجعلها قواعد تابعة للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف إثبات هذه العقائد عليها، ثم زاد إمام الحرمين أبو المعالي الجويني 478 هـ هذه القواعد العقلية تأصيلا في كتابه (الشامل) والذي لخصه في كتابه (الإرشاد). ويكفي في إبطال هذا كله أن هذه المقدمات العقلية لو كانت واجبة لكان رسول الله قد بينها. وسُمي إثبات مسائل الاعتقاد بالأدلة العقلية بعلم الكلام( )، وما زالت العقائد تدرس في كثير من المعاهد الإسلامية باسم علم الكلام.
كما نقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن الشافعي يوم ناظره حفص الفرد، قوله: (لأن يلقى اللهَ عز وجل العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام)، ونقل كذلك عن ابن خويز منداد المالكي قوله: (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري لا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا ويُهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها).
ولقد آل الأمر بكتابة العقيدة تحت اسم علم الكلام إلى كثير من الانحراف في المنهج وتعقيد في الأسلوب والتباس في المفاهيم، مما جعلها تبتعد عن المنهج القرآني في مخاطبة النفوس والعقول لإنشاء العقيدة التي تؤثر في سلوك الإنسان وحياته.
ومما سبق يظهر تعدد إطلاقات علماء السلف على هذا الفن مع اتحادها على مسمى واحد، الأمر الذي يدل على كيفية فهمهم لهذا العلم الشريف، فكان لا بد من توضيح ذلك ومآخذهم لكل اسم على حدة.
يسمى هذا العلم الشريف لدى السلف بأسماء متعددة، منها:
1. العقيدة، أو الاعتقاد: ومن شواهد هذه التسمية في مصنفات السلف:
- اعتقاد أهل السنة، لأبي بكر الإسماعيلي (277-371).
- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، للبيهقي (384-458).
- لمعة الاعتقاد، لموفق الدين ابن قدامة (541-620).
وليس مقصودهم أن هذا العلم عبارة عن المسائل التي محلها القلب ولا صلة لها بالعمل، أو "المسائل العلمية"؛ ولكن هذا من باب الترتيب العلمي. فمفهوم الإيمان مثلا عند أهل السنة والجماعة يجمع التلازم بين العلم والعمل، ولذلك يقولون: الإيمان قول وعمل.
فتسمية هذا العلم بهذا الاسم من باب أنه أمور عقدها القلب وجزم بها وعزم عليها، لبيانها وظهورها في الكتاب والسنة، كما في قول الله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولـكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ [المائدة: 89]، فما كان من اليمين عقده القلب وجزم به، فإنه يكون لازما.
2. السنة: وهي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتقادات، والأقوال، والأعمال. ثم اختصت عند السلف المتقدمين بالاعتقادات السالمة من البدع والشبهات. وهذه إحدى إطلاقات لفظة السنة، وهي المسائل اللازمة من الديانة بمعنى: أن من تمسك بها صار سنيا، ومن تركها فإنه يخرج عن هذه التسمية والإضافة.
ونجد أن المتقدمين من أوائل الفقهاء والمحدثين؛ كالإمام مالك والشافعي وأحمد وابن مهدي والبخاري وأمثال هؤلاء، كثيرا ما يسمون ما يقررونه في هذا الباب من المسائل: السنة اللازمة، فيقول الإمام أحمد مثلا: السنة اللازمة عندنا هي أن الإيمان قول وعمل، وأن أفعال العباد مخلوقة.. وفي ذلك إشارة إلى أن هذه المسائل هي الحق الذي عليه أهل السنة، خلافا لما يذكره المبتدعة من مسائل أصول الدين. ومن شواهد هذه التسمية في مصنفاتهم:
- كتاب السنة، لأبي بكر الأثرم (ت 273).
- كتاب السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل (213-290).
- كتاب السنة، لأبي أحمد الاصبهاني العسال (269-349).
3. الإيمان: ومن شواهد هذه التسمية:
- كتاب الإيمان، للإمام أحمد بن حنبل (164-241).
- كتاب الإيمان، لأبي بكر بن أبي شيبة (195-235).
- كتاب الإيمان، لمحمد بن إسحاق بن منده (310-395).
والمصنفون هنا يقصدون بالإيمان الاسم الشرعي العام الذي ذكره النبي في مثل قوله: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.." الحديث.
وهذا كما سمى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه كتاب الإيمان، ثم أورد الأحاديث التي فيها تقرير مسائل أصول الديانة؛ العبودية والألوهية لله، صفات الله ورؤيته وعلوه، وشفاعة النبي وحكم أهل الكبائر من المسلمين وكذا مسائل القدر.
على أن هناك من المصنفين من اقتصر تحت هذا العنوان على دراسة مسألة واحدة من مسائل أصول الدين، وهي مسألة: مسمَّى الإيمان. كما سمَّى البخاري في صحيحه كتاب الإيمان وأورد فيه أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص وأفراد الإيمان.
4. الأصول: وهي الاعتقادات العلمية التي تبنى عليها العبادات العملية. فهذه المسائل هي الأصول في دين الإسلام، أي الكليات الأوائل التي انضبط دليلها ونصها من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها الأئمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. على أن تسميتها بأصول الدين، لم يقتصر عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، بل وغيرهم من الطوائف كذلك، فإن سائر الفرق متفقون على أن هذه المسائل تسمى مسائل أصول الديانة. ومن شواهد التصنيف بهذه التسمية:
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم اللالكائي (ت 418).
- كتاب الأصول، لأبي عمرو الطلمنكي (340-429).
- الفصول في أصول الدين، لأبي عثمان الصابوني (373-449).
5. التوحيد: وهي تسمية للعلم بأشرف مسائله ومقاصده، فإن ما يسمى بمسائل العقائد والكليات والضروريات من الديانة، إنما المراد منها تحقيق توحيد الله سبحانه وتعالى. ثم إن كلمة التوحيد هي فاتحة دين المسلمين، بل فاتحة دين المرسلين، فإن الله قد بعث جميع المرسلين بالدعوة إلى "لا إله إلا الله". ومن شواهد التصنيف:
- كتاب التوحيد، لمحمد بن يحيى بن منده (ت 301).
- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب، لأبي بكر ابن خزيمة (223-311).
- كتاب التوحيد، لمحمد بن إسحاق بن منده (310-395).
6. الفقه الأكبر: فمن المعلوم أن أهل العلم من الفقهاء درجوا على تسمية مسائل الشريعة فقها، كما يقال: كتب الفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية، وما إلى ذلك. إلا أن بعض العلماء - كما نقل عن أبي حنيفة وغيره - سموا ما يتعلق بأصول الدين "الفقه الأكبر"؛ ذلك أنه إذا كان القول في تفصيل مسائل الشريعة فقها، فإن القول في مسائل أصول الديانة يُعدُّ الفقه الأكبر؛ لعظم هذه المسائل وأهميتها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"؛ فهذا الفقه في الدين يتضمن الفقه في مسائل أصول الديانة، والفقه في مسائل التشريع.
ويطلق بعض الناس مسميات باطلة على هذا العلم الشريف، مثل:
1. الفلسفة: وهي كلمة يونانية، مركبة من مقطعين: (فيلو) أي محبة، و (صوفيا) أي حكمة. فالفلسفة عبارة عن محاولات بشرية للوصول إلى الحقيقة، عن طريق التأمل العقلي، دون الاهتداء بالوحي المنزل على الأنبياء.
2. علم الكلام: هو محاولة إثبات العقائد الدينية، بالطرق العقلية، القائمة على المنطق الأرسطي ـ نسبة إلى الفيلسوف اليوناني "أرسطو" ـ وليس بالأدلة الشرعية. وقد ذم السلف علم الكلام، حتى قال الإمام أحمد: (لا يفلح صاحب كلام أبدا)، وقال الشافعي: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام). فهو علم دخيل على الأمة الإسلامية، أدى إلى وقوع كثير من الخلل والانحراف لدى المشتغلين به، فأفنوا أعمارهم، وضيعوا أوقاتهم، ولم يظفروا إلا بالندم.
3. الأيديولوجية الإسلامية: وهي بمعنى الفكرة الإسلامية. وهي كلمة أجنبية لا يليق أن تضاف إلى الإسلام، أو يستعاض بها عن الألفاظ الشرعية.
وكما كانت هذه المصطلحات (العقيدة والسنة والفقه الأكبر وأصول الدين والتوحيد والإيمان) تشير إلى مجموعة الحقائق الدينية الأصلية الصحيحة المتميزة، فكذلك أطلقت مصطلحات تشير إلى الجانب التطبيقي من حقيقة هذا المنهج الرباني (السلف وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث)، مما يؤكد أن العقيدة حقائق صحيحة وسبيل قويم، كما تشير هذه الأسماء إلى مصادرها الأصلية.
وبعد هذا العرض التفصيلي لنشأة علم العقيدة وتدوينه وكيف كان الأمر على عهد الصحابة الكرام فالتعريف الأقرب للعقيدة هو: الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، مع التسليم التام لله تعالى في الأمر والحكم والطاعة والاتباع لرسوله .
وهذا هو التعريف الذي يشمل كل المسميات السالفة، وإن اختص كل واحد منها بمعنى دون الآخر أو كان بينهم شيء من العموم والخصوص.
أما ما ذكره بعض العلماء عن أن العقيدة هي: ما يعقد عليه الإنسان قلبه، عقدا جازما ومحكما لا يتطرق إليه شك. فهذا يتناول حقيقة العقيدة وماهيتها، لا مضمونها ومسماها الذي تدل عليه في المصطلح الخاص الذي عناه أهل الفن.
تستمد العقيدة الإسلامية من ثلاثة مصادر:
فقد شغلت آيات الاعتقاد حيزا كبيرا من القرآن العظيم، لا سيما المكي منه. بل لا تكاد آية من آياته، حتى آيات الأحكام، تخلو من رابط عقدي، يذكر المؤمن بأصل اعتقاده الذي يعينه على الامتثال، كقوله في آية نشوز النساء: ﴿فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا﴾ [النساء: 34].
وقد تنوعت طريقة القرآن في تقرير العقيدة، فمن ذلك:
1. التقرير المباشر: كقوله: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ [البقرة: 21].
2. إبطال العقائد الفاسدة: كقوله: ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ [التوبة: 30].
3. القصص القرآني: كقصص الأنبياء مع أقوامهم، ومجادلتهم. وهذا كثير.
4. ضرب الأمثال المقربة: كقوله: ﴿ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون﴾ [الروم: 28].
استثارة العقل للتفكر والتدبر، كقوله تعالى: ﴿قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون﴾ [يونس: 101]، وقوله: ﴿قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد﴾ [سـبأ: 46].
فالسنة تفسر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، وتزيد عليه. قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ [النحل: 44]، وقال: ﴿يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم﴾ [النساء: 170]. والسنة النبوية زاخرة بالأحاديث المتعلقة بالعقائد،حتى أفردها جمع من السلف المتقدمين بالتصنيف.
فالسلف هم الذين فهموا الكتاب والسنة وحملوا إلينا الفهم كما نقلوا إلينا النص سواء بسواء. ولهذا نجد أهل البدع يحتجون بالآيات والأحاديث لكنهم زاغوا لما نبذوا إجماع سلف الأمة وراء ظهورهم.
قال تعالى: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ [النساء: 115].
وإلى جانب هذه الأصول الثلاثة، فإن العقيدة الإسلامية لا تتعارض مع العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات، وإن كان العقل لا يستقل بإثبات جميع مفردات العقيدة، لكنه لا يحيلها، بخلاف العقائد الباطلة ؛ فإن العقل الصريح يأباها، ويرفضها، كدعوى أهل التثليث من النصارى أنهم موحدون، وقولهم: (وحدة في تثليث، وتثليث في وحدة)!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح). وقال عن العقل: (إن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين، إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها). ولهذا جاء الحث في القرآن على التدبر، والتعقل، والنظر، والثناء على أولي الألباب، وذم الغافلين.
كما أن العقيدة الإسلامية موافقة للفطرة الأصلية، المغروسة في الضمير من غير سبق تفكير أو تعليم، كما بينا آنفا.
قال الإمام السمعاني: (إن الله تعالى أسّس دينه وبناه على الاتباع، وجعل إدراكه وقبوله بالعقل). فليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان والقبول أو الرفض، بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها.
وهذه العقيدة الصحيحة، المبنية على النص والدليل، الموافقة للعقل والفطرة، هي عقيدة "أهل السنة والجماعة"، التي عليها الصحابة، والتابعون، وتابعوهم بإحسان، إلى يومنا هذا، إلى قيام الساعة. تكفل الله بحفظها، وقيض لها من يدعو إليها، ويذب عنها، ويجدد ما اندرس منها، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ [الحجر:9].
يعد علم العقيدة هو حجر الأساس نسبة إلى باقي علوم الشريعة وهو منها بمثابة الأصل من الفرع، ولقد صنف الكثير في أبواب العقيدة المختلفة على سبيل التعداد لأبواب العقيدة دون تحديد العلاقات بين الأبواب المختلفة والموضوعات الأساس في هذا العلم، إلا إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم جمع الأمر كله بأبلغ عبارة وأخصرها:
كما ورد في حديث جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره".
وحديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، وحديث الفرقة الناجية: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
وحديث عبادة: من قال أشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله... أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء. وحديث ابن عمر : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وحديث: إن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة.
فمن جملة هذه الأحاديث يمكننا إدراك موضوعات علم العقيدة على سبيل الإجمال في ثلاثة محاور رئيسة هي:
ثم إن هناك مسائل ليست هي من أصلها ولا داخلة تحت أي من هذه البنود، إلا أن العلماء ألحقوها بعلم الاعتقاد لكونها صارت شارة واضحة على بعض الفرق المخالفة لأهل السنة، حتى وإن كانت من الفروع كالمسح على الخفين وقبول خبر الواحد والمجاز وغير ذلك.
وتشمل موضوعاته:
ويمكن تلخيص ذلك في المخطط التالي:
وهو شرط قبول العمل، وهو الفرقان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة، حيث يعنى بمنهج التلقي والاستدلال عند أهل السنة خلافا لغيرهم من الفرق المبتدعة، ويتناول هذا المحور:
فهو المعني بلفظة الاعتصام، بما تحمله من معان عميقة في الاستمساك بقوة اعتصاما من الانحرافات بكافة أشكالها، والبعد عن سبل الشياطين التي قد يزينها للعبد بهرج زائف، لا يكشف حقيقته إلا من اهتدى بهدي النبي الأمين .
والحديث في هذا المحور ينتظم موضوعات عدة، وهي:
وهو المتمم للمحور الأول، باستبانة سبيل الضالين والمنحرفين عن هدي النبي، ويشمل أمورا:
المخالفة للمسلمين فيما يتعلق بالملل، والمخالفة لأهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالفرق الضالة قديما وحديثا، وحقيقية الانحراف عن المنهج الحق والدافع إليه وكيف يسعى أصحابها لهدم الإسلام من خلال هذه المذاهب الضالة.
ففي القديم؛ يمكن تقسيم المذاهب تبعا لملتهم كالتالي:
أما في الحديث؛ فنجد العديد من المذاهب التي قد تشترك في بعض الأصول أو الأهداف أو تختلف إلا إن القاسم المشترك هو إقامة الحياة على غير منهج الله بغية إحلالها محل منهج الإسلام القويم، ومن ذلك:
ويمكن تلخيص ذلك في المخطط التالي.
والمقصود من هذا السرد والترتيب، حصر موضوعات علم الاعتقاد خشية القصور في فهم هذا العلم مع ربط الموضوعات ببعضها، تسهيلا للإحاطة بها.
إن موضوعات علم الاعتقاد كثيرة متنوعة، وستأتي تفصيلا، لذا يحسن بنا أن نذكر أنواع المصنفات التي عالجت هذه الموضوعات:
فهناك الكتب الجامعة لكل أو أغلب أبواب الاعتقاد، سواء كانت مسندة أو غير مسندة وسواء كانت مطولة أو مختصرة.
وهناك الكتب المتخصصة في موضوع معين من موضوعات العقيدة كمسألة القدر أو الإيمان أو التوسل وغير ذلك.
وهناك كتب الردود، وهذه منها ما هو مسند كما الكتب الجامعة ومنها ما هو غير مسند، وهي تعنى بالرد على المخالفين بذكر الأدلة والبراهين على ضلال مذاهبهم وموضع الشبهة فيها.
وأخيرا كتب المذاهب والفرق.
ويمكن تلخيص ذلك مع ذكر بعض الأمثلة على كل نوع في المخطط التالي:
فإن دراسة محور العقيدة هو ثمرة لسلوك درب القرآن والاهتداء بنوره، وهو الدليل الأول، وهو أصل لما بعده من فقه أحكام الشريعة ودراسة تاريخ الأمة وواقعها المعاصر، كما هو في الأدلة التالية. فهنيئا لك أخي القارئ دليلا هاديا تستضيء به، وموردا عذبا زلالا تنهل منه فتصدر ريان من علوم الشريعة أصولا وفروعا.