مدخل إلى دراسة

دليل الفقه وأصوله

مدخل دراسة الفقه وأصوله

مقدمة

الحمد لله الذي بيده التوفيق، وهو المؤمل والمرجو على الدوام والتحقيق، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء وهو بذلك جدير حقيق، أنزل علينا خير كتبه وأرسل لنا خاتم رسله فأنار السبيل وأوضح الطريق، فللهداية فريق وللغواية فريق، فالحمد لك اللهم على كتابك الكريم وسنة نبيك الأمين  التي بلغت بعناية العدول غاية التدقيق في النقل والتوثيق.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فمنع وأعطى، وخلق فسوى، وقدر فهدى، ويسر لليسرى، فله الحمد في الأولى والأخرى.

ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عَلَم الرسل والأنبياء، وقدوة الصالحين والأولياء، ومنارة العلم والعلماء، وحامل لواء الشفاعة الكبرى يوم اللقاء، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته وأصحابه ما بقيت أرض وسماء. وبعد،

فليس بخافٍ فضل الفقه في الدين، على كل عاقل فطين، كيف وقد قال سيد الأنبياء والمرسلين : «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه]، وهذا الخير يشمل أعظم ما يشمل الفوز بالجنة، والنجاة من النار، ولا يكون هذا إلا بمعرفة الحلال والحرام، علما وعملا، نظرية وسلوكا، قاعدة وتطبيقا.

وإن معرفة أحكام الدين من أشرف المناصب وأعلاها، والتفقه في دين الله من أنفع المكاسب وأزكاها، ولقد فطن إلى هذه الحقيقة السابقون من الفقهاء؛ فعكفوا على دراسة شرع الله الحكيم، وتقرير أحكامه الشرعية التي تهم كل مسلم في معاشه ومعاده، وعرفوا أن الفقه الإسلامي هو ثروة هذه الأمة، ومعينها الذي لا ينضب.

وقد بذل الفقهاء في ذلك الجَهدَ والطاقة، وحاولوا الوصول إلى الحق والصواب قدر جَهدهم؛ فتركوا لنا تراثا هائلا، وبنوا طوابق شامخةً في صرح الفقه الإسلامي العظيم، ولا زالت البشرية كلها - على اختلاف مشاربها - تنظر إلى تراثنا الفقهي الإسلامي بإجلال وإكبار.

ولا يخفى على الناظر لحال المسلمين الآن ما بينهم من الاختلاف، وما استتبعه من تعصب وتحزب، وفراق وشقاق، كما لا يخفى أن من أبرز أسباب هذا الاختلاف هو عدم الفقه بالثابت والمتغير، وما يُنكر عليه وما لا يُغير، وما يَسع فيه الخلاف وما لا يَسع، وغير ذلك. ولهذا، فإن المخرج والنجاة هو العلم بالشرع، والعلم بالواقع، مع الاعتصام بالله، واقتفاء أثر رسول الله .

ولا يخفى أن علم الحلال والحرام - الذي به قوام الحياة، ومادة العبودية لله تعالى، وسر الابتلاء في هذه الدنيا - هو غاية الفقه وموضوعه، وبغية الفقيه ومقصوده، وبه صلاح الدنيا والآخرة، واستقامة أحوال الناس على اختلاف طبقاتهم، ولا يتم لهم ذلك إلا بالعالم الرباني والفقيه التقي.

هذا، ويعد تقريب التراث الإسلامي من أجَلِّ الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، ومن أهم الخدمات التي يسديها المرء إلى مجتمعه، وذلك لما في هذا التراث من الدرر المكنونة التي لا يزال كثير منها حتى الآن محجوبـًا عن الأعين لم تتناوله الأيدي بالبحث أو القراءة أو الاطلاع.

ولطالما اشتكى شباب الأمة وشيوخها من عدم وجود مشروع حقيقي وجهد فعلي لتيسير استفادة عموم الناس من منبع الشريعة الصافي، وإحياء جذوة الإيمان وهوية الأمة في قلوب عوامها، فقد كثُر في الأمة الدعاةُ الشاحنون لعواطف الأمة المخاطبون لها بمشاكلها، مع ضعف في تأصيل المنهاج وقلة حيلة في التفصيل، فجاء هذا المشروع كنواة تحتاج إلى اعتناء وبداية تحتاج إلى إنهاء، لتقريب التراث لعموم الأمة؛ طلبةِ علمها وعوامِها، دعاتِها وأفرادِها، على أن يكون كدَر العمل على مصنفيه والنافع فيه غنيمة لقارئيه.

والله نسأل أن يكون ذلك ذخيرة لأصحابه يوم لقائه فإنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تمهيد

اقتضت حكمة الله تعالى جعل آدم في الأرض خليفة، وبموجب هذه الحكمة خلق الله آدم وذريته لعبادته، وأرسل إلينا رسله ليبينوا لنا سبيل العبادة الواضحة، وحجة الله البالغة. فهو الخالق تعالى، وهو المعبود سبحانه، ومن يملك الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والضر والنفع، هو الذي يملك الأمر والنهي، والحكم، والتحليل والتحريم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ [الأعراف:54].

ولهذا كان دين الإسلام مبنيا على أصلين: ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما شرع لا بالأهواء والبدع. فالأول جواب: ماذا كنتم تعبدون؟ والثاني جواب ﴿ماذا أجبتم المرسلين﴾ [القصص: 65].

ولهذا قال العلماء إن الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة تتضمن معرفة أصول التوحيد والإيمان، والشريعة تتضمن معرفة الأحكام لاسيما الحلال والحرام. ويجمع العلم بدين الله والفهم والبصيرة فيه كلمة عظيمة هي "الفقه"؛ إذ ندب الله تعالى المؤمنين إلى أن ينفر منهم "طائفة" ليتفقهوا في الدين، ويفقهوا فيه غيرهم، قال تعالى: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ [التوبة: 122]، وأخبر النبي ﷺ أن: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه].

إن المؤمن الذي اختار طريق الإسلام على طرق الكفر والنفاق؛ ليس له مع أمر الله ونهيه أمر ولا نهي، ولا مع حكم الله وقوله حكم ولا قول؛ إنما هو الإذعان والتسليم المطلق المجرد عن كل سبب أو دافع إلا طاعة الله ورسوله، والرضا بهما وبحكمهما. فليس يعنيه أن يعرف حكمة هذا الأمر أو ذاك، أو مفسدة هذا المنهي عنه، أو مصلحة ضده؛ بل كل ما يعنيه أن يعرف: ما حكم الله في المسألة؟ وما هي أمارة هذا الحكم ودليله؟ ثم ينقاد بعد ذلك انقياد الواثق المطمئن البصير.وإذا كانت هذه الحقيقة الواضحة هي أس الإسلام ولبه؛ فإنه يترتب عليها أن يدرك المؤمن المستسلم أن لله تعالى في كل مسألة حكما؛ علمه من علمه، وجهله من جهله.

وقد يكون هذا الحكم هو الإيجاب، أو الندب والاستحباب، أو الجواز والإباحة، أو الكراهة، أو التحريم، فهذه هي الأحكام الخمسة التي لا تخرج مسألة من المسائل عنها بحال من الأحوال.

ولذلك يسعى المؤمن إلى معرفة حكم الله في المسائل والقضايا: فإن كان عالما سعى إلى معرفة ما يحتاجه الناس من الأحكام؛ ليرشدهم إلى ما يجوز وما لا يجوز، ويبين لهم الحلال من الحرام في حكم الله وشرعه، مقرونا بدليله الصحيح من القرآن أو السنة أو القياس السليم أو الإجماع أو غير ذلك.

وإن كان عاميا، أو غير متخصص في علوم الشريعة؛ سعى إلى معرفة ما يحتاجه هو في حياته العملية من أحكام في العبادات، أو المعاملات، أو غيرها: إما بالبحث في الكتب الميسرة - إن كان ممن يستطيع ذلك -، وإما بسؤال العلماء الذين ذكرهم الله بقوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ [النحل: 43].

وقد جعل الله تعالى علامات وأمارات يتعرف بها إلى حكمه في كل مسألة، هي ما تسمى بـ"الأدلة الشرعية"، سواء المتفق عليها كالقرآن والسنة والإجماع، أو المختلف فيها كباقي الأدلة. غير أن تنزيل الحوادث المفردة المحددة على مواقعها من النصوص الواسعة العامة أمر ليس بالميسور لكل أحد.

إن كل مسلم يشهد أن رسول الله ﷺ قد بلغ هذا الأمر حق البلاغ، في القرآن العظيم، والسنة المشرفة، والسنة قطرة من بحر القرآن الزاخر كما في قوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر: 7]. فدليل التأسي والمتابعة والاقتداء بلغنا كاملا غير منقوص، وافيا غير مبخوس؛ قال تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ [المائدة: 3]. وبوفاة رسول الله ﷺ انتهى "تاريخ التشريع الإسلامي"، حاويا أحكام الاعتقاد والفضائل والآداب، والأحكام الفروعية، تفصيلا أو تأصيلا ببيان الأصول والقواعد العامة، التي تتناول ما لا يتناهى من واقعات الأحكام الفروعية، مهما تباعدت الأوطان، واختلفت الأزمان والأجيال، وهذا ينسجم تماما مع عموم الرسالة، كما قال الله سبحانه: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [سبأ: 28]. وفي ظل هذه "الأصول العامة" دخل دور "تاريخ الفقه الإسلامي" على يد علماء أمة محمد ﷺ من لدن الصحابة رضي الله عنهم مرورا بالتابعين لهم، فمن بعدهم إلى الآخر بما أمرت به هذه الشريعة من واجب "التحمل" و"البلاغ" على علماء هذه الأمة المرحومة، وفيما منحته لهم من "فقه الاستدلال وحق الاستنباط"، ومن هنا بقي المجال لعلماء الأمة في وظائفهم العلمية الثلاث: التحمل، والتبليغ، والاستنباط؛ كما أسلفنا أعلاه في آية التوبة: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ [التوبة: 122].

وقد أراد الله بهذه الأمة خيرًا حين قيَّض لها أئمة هداة صالحين، جعلوا الفقه في الدين نصب أعينهم. وقد كان أصحاب رسول الله هم أول المجتهدين، وطليعة العلماء العاملين، كلهم يصدرون عن القرآن والسنة والقياس الصحيح، أو يجتمعون - فيما لا نص فيه - فيجمعون. ثم جاء من بعدهم التابعون، فأتباعهم، وما زال في المسلمين من يبين لهم شرع الله، ويدعوهم إليه؛ إذ لا يخلو عصر من قائم لله بحجة.

لقد نقل الصحابة رضى الله عنهم أحاديث النبي ﷺ والعمل بمدلول ألفاظها وما تقتضيه، فكانوا أئمة هداة، ونقلت أقوالهم وفتاويهم وحفظت عن طريق أتباعهم وتلاميذهم، فحفظوا أقوالهم وأفتوا، لأنهم خير من فهم عن رب العزة وعن نبيه ﷺ وصارت فتاويهم وأقوالهم نبراسًا لمن بعدهم فوصل علمهم أئمة فقهاء جهابذة ناصرين للسنة وقامعين للبدعة، اشتهر منهم الأئمة الأربعة؛ أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فحفظ هؤلاء علمهم، واستناروا بأفهامهم وأقوالهم، مع حيازتهم التامة لأدوات الاستنباط وعلوم الاستدلال فجاء علمهم محكمًا متينًا.

وقد عني الأئمة بفهم نصوص الشريعة واستنباط الأحكام منها، حتى صار الفقه عَلما على العلم بهذه الأحكام خاصة، وإن كان متناولا في نصوص الوحيين عموم الفهم عن الله ورسوله. ذلك أن العلم بأصل الديانة لم يكن محل خلاف أو اجتهاد بين الصحابة والتابعين، لذا نقلت العقيدة الصحيحة صافية نقية عن الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم. أما الأحكام العملية فكانت ميدان نظر واجتهاد، يرفع الله بالإصابة فيها من يشاء، لهذا ظهر الفقه وعرف الفقهاء واشتهرت المدارس الفقهية بهذا الاصطلاح.

ولكن الجبلة البشرية التي فطر الله الناس عليها من الاختلاف في الأفهام، وقوى العقل والإدراك، مع التفاوت بين الناس في معرفة الأدلة واستيعابها، سواء من حيث الثبوت، أو من حيث الدلالة، ومع التفاوت بينهم في تصور المسائل، وفهم أبعادها، إضافة إلى تفاوت مقدار الإخلاص والصدق في معرفة الحكم بعيدا عن كل تعصب مذهبي، أو تقليد غير بصير؛ كل ذلك جعل العلماء والباحثين والمؤلفين يختلفون في طرائقهم التي يسلكونها في معرفة الأحكام، ثم يختلفون في ذات الأحكام التي توصلوا إليها.

لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون الشريعة الإسلامية آخر الشرائع لخلقه، كما شاء سبحانه وتعالى أن تكون هذه الشريعة أكمل الشرائع وأتمها فجاءت على هيئة تضمن لها البقاء والحيوية والاستمرار، كما أنها جاءت على هيئة كفلت صلاحيتها للإنسان أينما كان وفي أي مكان أو زمان، فيجد هذه الشريعة سامية به وافية بمتطلباته ووقائعه.

والفقه الإسلامي الذي هو روح الشريعة وأساسها قد ظل رغم مرور أربعة عشر قرنًا من الزمن على نشأته محافظًا على كيانه قويًّا في بنيانه صلبًا في تماسكه رغم كل الظروف والتقلبات التي تعرضت لها الأمة الإسلامية طيلة هذه الحقبة من الزمن. كما أن الفقه قد اتصف بسمات بارزة كانت وراء بقائه وثباته ومسايرته لروح الحضارة والتقدم العلمي.

وسنعرض في هذا المدخل تصورًا عامًّا عن الفقه الإسلامي ما هو؟ وما خصائصه؟ ومصادره؟ وما أهم المراحل التاريخية التي مر بها خلال تطوره؟ وفي ضمن ذلك نعرض لأصول الفقه ونموه كآلة لفهم الفقه واستنباطه.

تعريف الفقه الإسلامي وأصوله

الفقه هو الفهم مطلقا، فهو ما يدل على إدراك الشيء، والعلم به، والفهم له، والعلم بغرض المخاطب من خطابه، أي فهم غرض المتكلم من كلامه. وقد وردت آيات عديدة فيه، منها قوله تعالى: ﴿فما لهـؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا﴾ [النساء: 78]، وقوله تعالى: ﴿ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه﴾ [الأنعام: 25]، وقوله تعالى: ﴿قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول﴾ [هود: 91].

وقد اصطلح الفقهاء والأصوليون على أن الفقه يراد به: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.

وهذا التعريف للفقه في غاية الدقة، إذ إنه يظهر وجهة نظر علماء المسلمين الخاصة لعلم الحقوق.

ولذلك فإن المستشرق "ناليولو" يرى أنه لا يوجد في لغات الغرب مصطلح يقابل كلمة "فقه" مقابلة تامة تضاهيها في الشمول والدقة.

فالعلم بخلاف الجهل أو الظن، وهذا العلم ذو موضوع خاص وقواعد خاصة، وعلى هذا الأساس درسه الفقهاء في كتبهم وأبحاثهم وفتاويهم، فهو ليس فنًّا يغلب فيه الذوق على العقل والمشاعر على الحقيقة.

والأحكام الشرعية هي المتلقاة من الشرع، دون المأخوذة من العقل، كالعلم بأن العالم حادث، وأن الواحد نصف الاثنين، أو المأخوذة من الوضع والاصطلاح اللغوي. فالحكم الشرعي هو القاعدة التي نص عليها الشارع في مسألة من المسائل، وهذه القاعدة إما أن يكون فيها تكليف معين كالواجب والمحرم فتسمى الحكم الشرعي التكليفي، وإما أن لا يكون فيها أي تكليف كالحكم بالصحة أو البطلان على فعل معين، فيقال لها الحكم الشرعي الوضعي.

والعملية تعني أن الأحكام الفقهية تتعلق بالمسائل العملية التي تتعلق بأفعال الناس البدنية في عباداتهم ومعاملاتهم اليومية، ويقابل الأحكام العملية الأحكام العقدية وأحكام صلاح القلب، فهذه تتعلق بأفعال القلوب لا بأعمال الأبدان، ولذلك لا تسمى فقها في هذا الاصلاح.

وهو علم مكتسب من أدلة الأحكام التفصيلية، ومرادهم بالأدلة التفصيلية آحاد الأدلة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾ [المائدة: 3]، وقوله ﷺ: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم». ويقابل الأدلة التفصيلية الأدلة الإجمالية، وهي محل نظر علماء أصول الفقه حيث يبحثون في أصول الأدلة، الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغير ذلك.

ويدلنا هذا القيد على أن الأحكام لا تعد من علم الفقه إلا إذا كانت مستندة إلى مصادر الشرع المعلومة أي أدلة الشرع. والفقيه هو الذي يسند كل حكم من أحكام الشرع إلى دليله، فالقانون الإسلامي أو الفقه الإسلامي ليس وضعيًّا من صنع الدولة بل هو تشريع ديني يستند إلى مصادر دينية.

وإذا كان الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية على الوجه المذكور، فإن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، ومعرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل. وعرف أيضا بأنه القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة.

ولقد صنف السلف الصالح في هذا العلم وتلقى عنهم الأئمة وتطور التدوين فيه حتى وصل إلينا تراثا غنيا زاخرا. لذا لزم تبيان نشأة علم الفقه وأدوار التدوين التي مر بها.

أحكام الشريعة الإسلامية

إن هذا الدين منهج إلهي أنزله الله للبشر لكي يحيوا على وفقه فيظفروا بالفلاح في الدارين. وهو يشمل أصولا وفروعا، الأصول أساس البناء لا يقوم إلا به، والفروع تبنى عليها وتعود إليها. 

فإذا نظرنا للشريعة بمعناها العام – وليس ما يقابل العقيدة – وجدنا أن الأحكام التي جاء بها الرسول أو علوم الشريعة قد قسمها العلماء إلى قسمين:

القسم الأول: أصول الاعتقاد، التي تشكل القاعدة الأساس في بناء الدين، ومنها ينطلق المؤمن، ويضبط كل حركته بضوابطه، ويوجه كل سلوكه وأعماله، ويفسر للإنسان طبيعة وجوده ونشأته وغايته، ويعرفه بدوره في الحياة، ويحدد مصيره الذي ينتهي إليه في الآخرة، ويرسم له معالم صلته بالله تعالى، وصلته بالحياة والأحياء والكون من حوله.

وهذا الجانب يقوم على أصول هي أصول الإيمان وأركانه. ولأهمية هذه الأصول ومكانتها في الدين فقد أولاها الإسلام عنايته الكبرى. وقد تكفل بدراسة هذا النوع من أحكام الشريعة علم العقيدة.

والقسم الثاني: الأحكام العملية، أو النظام الذي ينبثق عن هذه الأصول العقدية ويقوم عليها، ويجعل لها صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك الإنساني في أي جانب من جوانب الحياة متفرعا عن أصل من أصول العقيدة والإيمان، ومرتبطا به:

- فلا قيمة ولا استقرار لشريعة أو نظام لا يستند على أساس متين.

- كما أنه لا جدوى من أساس ما لم نرفع فوقه بناء قويا محكما.

بل كانت العقيدة هي الروح الذي يسري في هذه الأحكام، فيهبها الحياة النابضة المتحركة.

وتسمى الأحكام المتعلقة بهذه الجوانب كلها: أحكاما فرعية أو عملية، والعلم المتعلق بهذا الجانب يسمى علم الفروع أو فروع الدين أو علم الفقه أو علم الشرائع والأحكام؛ لأنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند الإطلاق إلا إليها.

ويشمل علم الفروع ما يتعلق ببيان أعمال الناس وتنظيم علاقاتهم بخالقهم، كأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج، وتنظيم علاقات بعضهم ببعض، كأحكام البيوع والإجارة والزواج والطلاق وغيرها، وكذلك الأحكام المنظمة لعلاقات الأفراد والدول في حال السلم والحرب وغير ذلك. وقد انفرد بهذا النوع من أحكام الشريعة علم خاص يسمى علم الفقه. وبهذا يتبين لنا أن العلاقة بين الشريعة والفقه هي علاقة عموم وخصوص حيث إن الشريعة أعم وأشمل من الفقه.

ويشمل علم الفروع كذلك ما يتعلق بتهذيب النفوس وإصلاحها، كالأحكام المبينة للفضائل التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، كالصدق والأمانة والوفاء بالعهد والشجاعة والإيثار والتواضع والإحسان والعفو والصفح، والأحكام المبينة للرذائل التي يتحتم على المرء أن يتخلى عنها، كالكذب والخيانة وخلف الوعد والجبن والبخل والأنانية والتكبر والإساءة إلى الغير، وما إلى ذلك مما تكفل ببيانه علم الأخلاق.

ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون من النبي ﷺ أحكام هذا الدين وتعاليمه وآدابه، فيما يتعلق بالإيمان ومعرفة الله سبحانه وما ينبغي له من الطاعة، وفي كيفية العبادة وأداء الشعائر، وفي شتى أنواع المعاملات في مناحي الحياة الفردية والاجتماعية، وفي الأخلاق والآداب والسلوك، ثم في علاقة الأمة بغيرها من الأمم والديانات الأخرى، دون أن يكون هناك تفكير في تقسيم هذه الأحكام أو تصنيفها وتبويبها ليكون هذا عقيدة وذاك عبادة، والثالث اقتصادا أو سياسة إلى غير ذلك من هذه التقسيمات الحادثة التي اقتضتها ضرورة البحث والتأليف، ودون أن يكون هناك تفريق بينها في الالتزام والعمل بمقتضاها.

هكذا تلقوها وهكذا عاشوها روحا تسري في الحياة فتقيمها على منهج الله، فلم يكن الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم بحاجة إلى تدوين علم الفقه، وإلى ترتيب مباحثه كتبا وأبوابا وفصولا، كما حدث بعد ذلك.

مكانة علم الفقه وشموله كل جوانب حياة المسلمين

الفقه الإسلامي نظام شامل ينظم علاقة الإنسان بخالقه، والعلاقات بين الأفراد والجماعات والدول الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب. وقد قدمنا أنه العلم بالأحكام الشرعية العملية، وهي التي تتعلق بأفعال المكلفين من العبادات والمعاملات، وتدور هذه الأحكام بين الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم.

ولهذا قسمه أكثر الفقهاء إلى قسمين رئيسين: عبادات ومعاملات. وهذا التقسيم مبناه اختلاف المقصود الأصلي منهما، فما كان الغرض الأول منه التقرب إلى الله وشكره وابتغاء الثواب في الآخرة فهو من قسم العبادات، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة والنذر. وما كان المقصود منه تحقيق مصلحة دنيوية أو تنظيم علاقة فردين أو جماعتين وما شاكل ذلك فهو من القسم الثاني (المعاملات)، وذلك كالبيع والإجارة والزواج والطلاق وغيرها.

وهنالك فرق آخر بين النوعين متفرع عن الفرق السابق، وهو أن الأصل في العبادات أن العقل لا يستطيع إدراك السر الحقيقي لتشريعها تفصيلًا، ويعبر العلماء عن ذلك بأنها توقيفية أي لا يمكن إدراك الغاية القصوى فيها سوى أنها عبادة لله تعالى. وأما المعاملات فالأصل فيها أنها معقولة المعنى ويدرك العقل كثيرًا من أسرارها، ولذلك نرى العقلاء في زمن الفترات استعملوا عقولهم في تشريعها، ولما جاء الإسلام أقر مما كانوا يتعاملون به أمورًا غير قليلة.

إننا نجد الفقه الإسلامي شاملا لجميع فروع القانون الوضعي الحديث، العام منه والخاص.

فالقانون العام الخارجي - وهو المسمى بالقانون الدولي العام - بحثه الفقهاء في المسائل المتعلقة بالحروب وأساليبها وأهدافها ونتائجها، وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها، وهي مجموعة تحت عنوان السير والمغازي. وجميع كتب الفقه في المذاهب المختلفة عرضت هذا النوع عرضًا وافيًا، كما أن الفقهاء ألفوا فيه تآليف خاصة، ككتابي "السير الصغير" و"الكبير" لمحمد بن الحسن الشيباني وغيره.

والقانون العام الداخلي بأنواعه الأربعة: الدستوري والإداري والمالي والجنائي بحثه الفقهاء ما بين موسع ومضيق:

فالجنائي مجموع في أبواب خاصة من كتب الفقه تحت عنوان "الجنايات والحدود والتعزيرات".

والقانون المالي بحثه الفقهاء في مواضع متفرقة من كتب الفقه العامة عند الكلام عن الزكاة والعشر والخراج والجزية والركاز وغيرها، وكذا في كتب خاصة ككتاب "الخراج" لأبي يوسف قاضي القضاة في عهد الخليفة هارون الرشيد. وهذا النوع بوجه عام يبحث في تنظيم بيت المال (خزانة الدولة) ببيان موارده والأموال التي توضع فيه، والوجوه التي تصرف فيها هذه الأموال.

أما القانون الدستوري الذي يحدد شكل الحكم في الدولة وبيّن السلطات العامة فيها ويوزع الاختصاصات بينها، والقانون الإداري وهي مجموعة القواعد التي تحكم نشاط السلطة التنفيذية في أداء وظيفتها وقيامها على أمر المرافق العامة، فلم تعرض لها كتب الفقه بهذا العنوان وإنما عرضت لها بعنوان "السياسة الشرعية" أو "الأحكام السلطانية"، وفيها كتب خاصة مثل كتاب "الأحكام السلطانية للماوردي" وغيره.

والقانون الخاص بفروعه: القانون المدني المنظم للأحوال المدنية هو قسم من المعاملات في الفقه الإسلامي التي تنظم الأحوال كلها عينية كانت أو شخصية؛ والقانون التجاري بحث الفقهاء منه ما كانوا يحتاجون إليه في زمنهم في أبواب الشركات والمضاربة والتفليس، ثم جعلوا العرف حكمًا فيما يجدّ فيها لأن التجارة حينذاك لم تكن تشعبت وتعقدت صورها كما هي عليه الآن بل كانت سهلة يسيرة.

وأخيرًا نجد قانون المرافعات وهي مجموعة القواعد التي تبين ما يجب اتخاذه من أعمال وإجراءات لتطبيق أحكام القانون المدني والتجاري، وهذا القانون بحث الفقهاء أحكامه في أبواب الدعوى والقضاء والشهادة.

وهكذا نجد الفقه الإسلامي يحكم كل التصرفات الفردية والجماعية والدولية، وما لم يتناوله الفقه تفصيلا فقد تناوله إجمالا ويمكن أن تبين تفاصيله على ضوء قواعده العامة وأصوله المرنة، قال تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ [الأنعام: 38].

ولولا عموم البلوى بالقانون الوضعي في بلاد المسلمين ما كان ينبغي أن تذكر في مقارنة مع شريعة أحكم الحاكمين، فإن الله تعالى لم يجعل قسيما للشريعة الإلهية غير الهوى: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم﴾ [المائدة: 49]، ﴿ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ [الجاثية: 18]. إن هذا الفقه يستمد أصوله وتنبع قواعده من كتاب الله العزيز الذي ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾ [فصلت: 42]، الأمر الذي جعل هذا الفقه يتسم بخصائص ومميزات لا نظير لها في تاريخ تشريع الأمم.

لماذا دليل الفقه الإسلامي وأصوله؟

الفقه الإسلامي رابطة جامعة للأمة الإسلامية، وهو حياتها تدوم ما دام، وتنعدم ما انعدم، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ حياة الأمة الإسلامية في أقطار المعمورة، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها لم يكن مثله لأي أمة قبلها، إذ هو فقه عام مبين لحقوق المجتمع الإسلامي بل البشري، وبه كمل نظام العالم، فهو جامع للمصالح الاجتماعية بل والأخلاقية، وهو بهذه المثابة لم يكن لأي أمة من الأمم السالفة، ولا نزل مثله على نبي من الأنبياء، فالفقه الإسلامي نظام عام للمجتمع البشري لا الإسلامي فقط، تام الأحكام لم يدع شاذة ولا فاذة، وهو القانون الأساسي لدول الإسلام والأمة الإسلامية جمعاء، وإن انتظام أمر دول الإسلام في الصدر الأول وبلوغها غاية لم تدرك بعدها في العدل والنظام لدليل واضح على ما كان عليه الفقه من الانتظام وصراحة النصوص وصيانة الحقوق ونزاهة القائمين بتنفيذ أوامره مما لا يوجد الآن، ودليل على ما كان لهاتيك الدول من التمسك بحبله المتين، وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجا، واتسعت دائرة الإسلام، فانتشرت الأمة الإسلامية مادة جناحيها من نهر الغانج في الهند شرقا، إلى أفريقيا، ثم إلى أواسط أوروبا في زمن قليل إلا باحترام الحقوق، والعلم بقواعد الفقه الإسلامي، والتسوية بين جميع أجناس البشر التي كانت تحضنها في العدل، وجمع شتات مكارم الأخلاق ومحاسن المعتقدات، وهذه التواريخ العربية وغيرها لم ينتقد واحد منها نظام العرب الذي كانوا عليه، بل مدحوه بما لم يمدحوا به غيره، واقتبسوا منه، واختارته الأمم على ما كان من الأنظمة، فانصرفت عنها إليه، وذلت عروش ملوكها من أجله. فالأمة الإسلامية لا حياة لها بدون الفقه، ولا رابطة ولا جامعة تجمعها سوى رابطة الفقه وعقائد الإسلام، ولا تتعصب لأي جنسية، فهي دائمة بدوام الفقه، مضمحلة باضمحلاله، فمهما وجد أهل الفقه واتبعوا كانت الأمة الإسلامية، ومهما انعدم الفقه والفقهاء لم يبق للأمة اسم الإسلام.

ولهذا كان الهدف من دليل الفقه الإسلامي وأصوله:

1.    ربط عموم الأمة بتاريخها الفقهي، وإحياء انتمائها لتراثها السلفي.

2.    إعداد الوسائل الميسرة على طلبة العلم ودعاة الأمة للارتواء من المعين الفقهي الأصيل، وإزالة العقبات التي تحول دون ذلك.

3.    إعداد المناهج والبرامج القادرة على إخراج الكوادر العلمية المتخصصة في مجال الفقه وعلومه، والخادمة أيضا لغير المتخصصين وفق احتياجاتهم.

خصائص الفقه الإسلامي

يتميز الفقه الإسلامي بخصائص ومميزات لا يتميز بها غيره، جعلته قابلا للثبات والنماء والعطاء طيلة أربعة عشر قرنا من الزمن، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ذلك أن الشريعة الإسلامية ذات صبغة عالمية ودائمة، فلما كانت هذه الشريعة آخر شريعة سماوية على سطح هذه الأرض، وكان هذا الدين خاتما للأديان السماوية السابقة، كان لا بد أن تكون هذه الشريعة مميزة بخصائص ومميزات تجعلها قابلة للثبات والاستمرار، مواكبة لحياة الإنسان مهما كان، وفي أي عصر كان، وفي أي مكان كان.

ويمكن أن نذكر أهم خصائص الفقه الإسلامي كالتالي:

أولا: ربانية المصدر

الأحكام في الفقه الإسلامي وحي إلهي من الله تعالى، فالذي شرعه وأوجده للإنسان هو الذي خلق الإنسان، وهو أعلم بما يصلحه في دنياه وآخرته، وهو أعلم بما في داخل النفس الإنسانية وما يتفق معها وما يتعارض مع ميولها وطبيعتها قال الله تعالى: ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ [الملك: 14].

أما القانون الوضعي فإنه من صنع البشر وتنظيم عقله الذي قدرته محدودة وعرضة للنقص والخلل، ولذلك فهو لا يعلم حقيقة النفس الإنسانية وما يتناسب مع فطرتها التي فطرها الله عليها، وبالتالي فإن التشريعات التي يسنها قد لا تكون ملائمة كل الملاءمة لطبيعة النفوس البشرية.

ثانيا: سمو الغاية

لكل قانون أو نظام غاية يرمي إليها وينشدها، ويؤسس قواعده في سبيل الوصول إليها، إلا أن هذه الغاية تختلف باختلاف الجماعات كما أنها تختلف باختلاف الغايات التي تهدف إليها السلطة التي تقوم على وضع القانون وحمايته.

فكثيرا ما يتم التغيير والتعديل؛ لأن الدول تستخدم القانون لتوجيه شعوبها لوجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض محددة لا تقوى السلطة على الوصول إليها إلا عن طريق القانون.

والخلاصة في ذلك: هي أن القوانين بمثابة حمار السلطة الذي يحملها ولا يعصيها ويتوجه بتوجيهها.

أما أحكام الفقه الإسلامي، فإنها لا تتكيف بالجماعة، بل إن الجماعة هي التي تتكيف بها، لأن الإنسان لا يصنعها، بل إنه يصنع نفسه بها. فهي لا تقتصر على تنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ولكنها تنظم علاقة المخلوق بخالقه بتشريع أنواع العبادات من صيام وصلاة وزكاة وحج وغيرها، ثم إنها حددت علاقة الأفراد بالكيفية التي تجمع بين ما لهم وما عليهم من واجبات، فينتفي الضرر منهم على غيرهم ومن غيرهم عليهم، ولهذا جاء في الحديث: «لا ضرر ولا ضرار».

وخلاصة القول في ذلك: أن أحكام الفقه الإسلامي تهدف إلى غاية عظيمة هي تحقيق المصالح للفرد والجماعة، ودرء المفاسد عن الفرد والجماعة على حد سواء.

ثالثا: العبودية والجزاء

الامتثال للأحكام في الفقه الإسلامي يعد طاعة لله تعالى وعبادة له يثاب عليها المطيع، كما تعد مخالفتها معصية لله يعاقب عليها المخالف، فمنها ما له عقوبة في الدنيا كالحدود والتعازير، ومنها ما توعد الله المخالف له بالعقاب في الآخرة.

وبهذا يمكن القول بأن الفرد المسلم دائما يكون رقيبا على نفسه لأن خوف الله وخشيته هو الرقيب عليه، وبهذا يتكون الفرد والمجتمع على هذا الأساس.

إن الفقه دائما ما يربط بين الجزاء الدنيوي والجزاء الأخروي، فليس معنى انفلات الشخص من الجزاء الدنيوي انفلاته من الجزاء الأخروي. وفي كل مسألة في الفقه نجد أن الفقهاء تكلموا على الحكم التكليفي لهذا الأمر أحلال هو أم حرام؟ أفرض هو أم مندوب؟ كما تكلموا على أحكامه الوضعية أصحيح هو أم غير صحيح؟ أنافذ هذا التصرف أم غير نافذ؟

أما القانون الوضعي، فإن الطاعة له مبعثها الخوف من السلطة الحاكمة، وليس مبعثها احتساب الأجر والمثوبة من الله كذلك العصيان وعدم الامتثال للمادة القانونية فإن المرتكب لها لا ينتابه شعور بالمخالفة ما لم يقع في يد السلطة، ومن هنا لا مانع يمنع من التحايل والخديعة والنصب بقصد اكتساب الدعوى عند الخصومة والتقاضي مع الآخرين، لأن الحلال ما أحله القاضي والحرام ما حرمه القاضي.

رابعا: الشمول والعموم

ذلك أن الفقه الإسلامي جاء لتنظيم أمور ثلاثة؛ وهي علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بغيره من الناس، فعلاقة الإنسان بربه ينظمها من خلال قسم العبادات وما تنظمه من أحكام الصلاة والصيام ونحوها.

وعلاقة الإنسان بنفسه ينظمها من خلال بيان ما يجوز للمرء تناوله من المطعومات والمشروبات وما يمتنع عليه من الملبوسات، ويدخل في ذلك كل ما شرعه الشارع حفاظا على نفس الإنسان وعقله وبدنه.

وعلاقة الإنسان بغيره ينظمها الفقه من خلال ما يسمى بالمعاملات والعقوبات، وما يتعلق بذلك من بيع وإجارة، ونكاح وطلاق، وقصاص وحدود وتعازير، وأقضية وشهادات.

وبتنظيم هذه العلاقات الثلاثة يكون الفقه قد نظم كل ما يتعلق بالإنسان في هذه الحياة، وهذا ما يعبر عنه بالضرورات الخمس التي شرعت أحكام الفقه الإسلامي لأجلها وهي الحفاظ على: النفس، والدين، والعقل، والعرض، والمال.

وقوانين البشر تهتم بتنظيم علاقة الإنسان بغيره فقط، أما علاقته بنفسه التي بين جنبيه، والتي هي أعظم أعدائه وأكثرهم التصاقا به وأثرا في حياته، وعلاقته بخالقه الذي أوجده وسخر له هذه الحياة بكل ما فيها من أجل سعادته وخدمته ليقوم هو بعبادة خالقه وشكره، كل ذلك لا اهتمام للنظم الوضعية به. وهذا الفصل بين القانون من جهة، وبين الدين والأخلاق من جهة أخرى، مرفوض من قبل الشريعة الإسلامية التي تعتبر القانون الإسلامي (الفقه) أصلا من أصول الدين الإسلامي كما أن الأخلاق هي الأخرى أصل من هذا الدين، ومن مظاهر الشمولية في الفقه الإسلامي إنه يهتم بهذا الإنسان في كل مراحل حياته: قبل ولادته وبعدها منذ كونه جنينا في بطن أمه ثم طفلا صغيرا ثم شابا قويا ثم كهلا ثم شيخا إلى أن يموت، بل وبعد موته كذلك، فهو يحفظ للإنسان حقوقه، ولو كان قاصرا عن المطالبة بها كالحمل والطفل والشيخ الهرم والميت كما يحفظها للبالغ الرشيد دون تمييز.

وهو يهتم بمستقبل الإنسان ليس في هذه الحياة فحسب، بل في الحياة الأخرى التي هي نهاية حتمية لكل إنسان وذلك من خلال أحكام العبادات التي يقوم بها كل مؤمن بهذا الدين.

خامسا: الثبات في القواعد والمرونة في التطبيق

الفقه الإسلامي يقوم على قواعد أساسية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مستمدة من مصادره الأولى: وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية.

والقرآن والسنة نصوصها محفوظة، ومدونة بدقة وعناية فائقة، ونصوصها في الغالب تتضمن الأحكام العامة للتشريع دون بيان التفاصيل المتعلقة بتطبيق تلك الأحكام، وذلك لترك سلطة تقديرية واسعة للمجتهد مراعاة لاختلاف الظروف والأحوال. فالنصوص الشرعية مثلا فيما يتعلق بنظام الحكم وضعت خطوطا عريضة لهذا النظام تتضمن الأمر بالعدل بين الرعية، وطاعة أولي الأمر، وتحقيق الشورى بين المسلمين والتعاون على البر والتقوى وغير ذلك. لكنها تركت تطبيق هذه الخطوط العريضة لواقع يتسم بشيء من المرونة والسعة حيث إن المهم هو تحقيق هذه الغايات بغض النظر عن الوسائل التي تمت بها والأشكال التي قامت فيها طالما أنها لا تخالف نصا شرعيا، أو مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية.

ولهذا فإن تطبيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية يخضع لدرجة كبيرة من المرونة والقابلية للتطور، كذلك فلا مانع من حدوث أحكام جديدة لم تكن معروفة من قبل نظرا لحدوث الوقائع المناطة بها، كما أنه لا يمنع تغير أحكام كانت ثابتة من قبل نظرا لتغير مقتضياتها، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بتغير الأحكام تبعا لتغير الزمان والمكان، ولأجل ذلك فقد ترك الإسلام باب الاجتهاد مفتوحا في الشريعة؛ ليقيس المجتهد ما لم يرد به نص على المنصوص ويلحق الأشباه بالنظائر.

أضف إلى ذلك أن من مصادر الشريعة الإسلامية الهامة العرف والمصلحة وهذان المصدران كافيان لتلاؤم الأحكام مع البيئة الصادرة فيها.

إن هذا الثبات في المصادر والمرونة في التطبيق يعطي للفقه الإسلامي ميزة خاصة دون غيره من التشريعات المعاصرة؛ ذلك أن هذه التشريعات، وإن كانت تحاول مسايرة العصر بالتغيير المستمر والتجديد الدائم، فإنها تفتقر في الغالب إلى معايير وأسس وقواعد ثابتة حتى ليفضي بها التغيير إلى أن تتلاشى معالمها الأصلية ودعائمها الأساسية، بل إن كثيرا من التشريعات تتغير أصولها وقواعدها وكثيرا ما يعتريها التغيير والتبديل وبذلك تكون عرضة للتلاعب من قبل الواضع لتلك التشريعات.

سادسا: رفع الحرج ويسر التكليف

ليس في التكاليف الإسلامية شيء من الحرج والشدة، وليس في أحكام الفقه شيء مما يعسر على الناس وتضيق به صدورهم. والمتتبع لأحكام الفقه الإسلامي يجد مظاهر رفع الحرج جلية واضحة، وأن جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها قد روعي فيها التخفيف والتيسير على العباد.

فقد أوجب الله الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات لا يزيد وقت كل صلاة عن دقائق قليلة، وأوجب عليه أن يؤديها قاعدا إذا لم يستطع القيام.

وكذلك الصيام، فرضه شهرا في السنة، فالمشقة فيه لا تصل إلى درجة العسر والحرج، ومع ذلك فقد أباح الفطر في حالتي السفر والمرض.

وقد حرم الميتة لكنه أباحها عند الضرورة.

وشرع الكفارات لتمحو آثار الذنوب إلى غير ذلك مما يدل على مراعاة السهولة ورفع الحرج في التشريع؛ حتى لا يضعف الناس عن أداء ما أوجبه عليهم وتضعف عزائمهم إزاء ما شرعه لمصالحهم والواجبات في الفقه الإسلامي قليلة يمكن العلم بها في زمن وجيز، وليست كثيرة التفاصيل والتفاريع ليسهل علمها والعمل بها، يشهد بذلك قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين﴾ [المائدة: 101-102]، فإن الله تعالى ينهانا عن التعمق في المسألة والتشديد فيها لئلا يكون ذلك سببا في فرض أحكام لم تكن مفروضة فنعجز عن الامتثال لكثرة الفرائض فنهلك مع الهالكين، فهذه الآية تشير إلى أن الله تعالى قد راعى قلة التكاليف حتى يسهل علينا الامتثال، وحتى لا نقع في العنت والمشقة.

سابعا: الثراء والغنية

فالمتتبع لمؤلفات الفقه الإسلامي يجد فيها مادة علمية خصبة وثراء فكريا كبيرا يتضح ذلك من خلال آراء الفقهاء المتشعبة ومذاهب العلماء المتعددة والتي رغم كثرتها وتباينها وتنوعها لا تخرج عن الإطار العام للشريعة الإسلامية.

فأنت تجد مثلا في الفقه الإسلامي أربعة مذاهب سنية كبرى مشهورة، وتجد داخل كل مذهب عددا من الأقوال والروايات المنسوبة إلى إمام المذهب أو تلاميذه هذا فضلا عن المذاهب المندثرة لعلماء الصدر الأول.

من كل ما سبق يصل القارئ إلى فكرة أساسية هي أن الفقه الإسلامي لا ينحصر في مذهب إمام معين، ولا في قول طائفة محصورة من الناس، بل هي مجموعة من الآراء ترجع إلى الكتاب والسنة في نهاية المطاف.

وهذا الثراء في الفقه الإسلامي يجعله كذلك أكثر قابلية للتطور والنماء ومسايرة روح الحضارة كما يجعله أكثر بعدا عن الجمود والتحجر؛ لأن هذا التنوع إنما هو في الحقيقة راجع إلى الخلاف في فهم نصوص أدلة الفقه، فهو في الحقيقة تنوع لا تناقض وتضاد.

ومن مظاهر الثراء والغنية في الفقه الإسلامي ما يلاحظ في كتب الفروع الفقهية من استقصاء للجزئيات وتتبع الأحكام الدقيقة التي قد تكون نادرة الوقوع بل قد يفترضون أشياء لم تقع بعد لكي يكون حكمها جاهزا إذا ما وقعت.

أضف إلى ذلك ما قام به الفقهاء من تقعيد للفقه وتنظيم لقواعده الأساسية فيما يسمونه بعلم القواعد الفقهية الذي يبحث في كيفية بناء القواعد على الفروع الفقهية المستنبطة من الأدلة الشرعية وفق القواعد المتبعة في أصول الفقه الذي يبين هو بدوره كيفية استنباط الأحكام من أدلتها.

تاريخ الفقه الإسلامي

لم يفارق النبي ﷺ هذه الحياة إلا بعد تكامل بناء الشريعة أصولا وفروعا بالنص الصريح، كما قال تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ [المائدة: 3].

وقد تمثل ميراث النبوة لأصحاب النبي ﷺ جملة من الأصول والقواعد الكلية ومن الأحكام الجزئية والأقضية المبثوثة في القرآن والسنة.

وحين امتد سلطان الإسلام إلى ما وراء الجزيرة العربية لاقى الصحابة أمورا ووقائع وعادات لا عهد لهم بها، فاحتاجوا إلى تنظيمها وإقامة القواعد لها وإنزالها المنازل اللائقة بها من مقاصد الشريعة وأحكامها.

وفي البلدان المفتوحة على إثر دخول الأمم أفواجا في الإسلام قامت حاجة كبرى إلى تعليمهم ما يخفى عليهم وضبط الأحكام العملية الشرعية وتنسيقها؛ لتنظيم المعاملة ومعرفة الحقوق.

وهكذا تطور الفقه في الأزمنة المتوالية، وأخذت الأجيال المتعاقبة في تنميته حتى أصبح بناء ضخما هائلا منظما لكل أنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية تنظيما دقيقا.

إننا إذ نقلب صفحات تاريخ الفقه إنما نطالع ديوان حضارة وكتاب حياة لأمة عظيمة تنتظم أمما وشعوبا لم تضق سعة الشريعة عن احتمال الصالح من أحوالها وأعرافها، وهي مع هذا باقية بأصولها محفوظة من التبديل، لم يفض بها اعتبار أحوال الناس إلى أن يغدو الدين أديانا شتى والشريعة الواحدة شرائع منتحلة تقوم الواحدة منها على أنقاض ما تقدمها حتى لا يبقى منها إلا الأسماء ولا من الهياكل إلا الأشباح. بل إن هذا الاعتبار قائم على أصول مقررة ليست خاضعة للأذواق والأهواء كأصل المصلحة والعرف والاستحسان وعموم البلوى وسد الذرائع، وغيرها من الأصول والقواعد التي يلاحظ بها الفقهاء أحوال زمانهم، ويصونون في ذلك شريعة خاتم الأنبياء عن الغلو والجفاء، وعن التعطيل والتبديل.

والمتتبع لحركة الفقه الإسلامي يلاحظ أنه مر بمراحل مختلفة من حيث النشأة والنمو والتطور، وذلك خلال الأربعة عشر قرنا الماضية من تاريخ هذا الفقه، فقد تطورت الكتابة في الفقه في كل مذهب من عصر الأئمة إلى الشروح، ثم المختصرات والمتون، ثم الموسوعات الفقهية، ثم القواعد الفقهية، والأشباه والنظائر، والفقه المقارن، ثم النظريات الفقهية، ثم التعريفات والحدود، ثم إصدار التشريعات والقوانين.

ويقسم تاريخ الفقه إلى أدوار أو أطوار، وهذا التقسيم يفيدنا أمورا عدة:

  • تبسيط وتيسير وتوضيح المراحل التي مر بها الفقه الإسلامي للدارسين لها.
  • إثبات استقلال الفقه الإسلامي عن غيره من فقه الأمم الأخرى.
  • إثبات أن كل دور من أدوار الفقه كان مكملا لسابقه، ومراعيا لحاجات زمانه.
  • دفع تهمة الجمود التي ألصقت ببعض أطوار الفقه من المعاصرين.
  • بيان عظم هذا التراث الفقهي الضخم الذي خلفه لنا أسلافنا.
  • التنبيه على أولوية الالتزام بالمذاهب الفقهية.

ويمكن تقسيم الأدوار التي مر بها الفقه إلى ثلاثة أدوار:

أولا: طور العصر النبوي

ينقسم العصر النبوي إلى عهدين:

العهد المكي: وكانت التشريعات الفقهية قليلة نسبيا؛ لاهتمام القرآن بالأمور العقدية وترسيخ مفهوم الإسلام في النفوس، ولعدم وجود مجتمع إسلامي مفتقر للتشريعات الخاصة به.

العهد المدني: وفيه تجلت التشريعات للفرد والمجتمع في العبادات والمعاملات وغيرها على الهيئة المعروفة بين أيدينا.

ويتميز هذا العصر بما يلي:

1. أن المرجع للأحكام الفقهية فيه هو الوحي

فمصدر الأحكام الوحي، وإن حصل اجتهاد من الرسول ﷺ أو من بعض أصحابه رضي الله عنهم فيه إلا أن هذا الاجتهاد كان مؤيدا بالوحي، فلو أنه ﷺ لم يصب مراد الله تعالى لقوِّم إلى ما هو الصواب، فالمعتمد ما أقره الوحي من التشريع إلا ما كان من اجتهاد ممن بعثهم رسول الله ﷺ لخارج المدينة النبوية كمعاذ عند بعثه إلى اليمن فإنه كان يجتهد في كل ما لم يجد في الكتاب والسنة دون رجوع إلى الرسول ﷺ.

وجمهور أهل العلم أنه ﷺ مأمور بالاجتهاد مطلقا في الأحكام الشرعية والحروب والأمور الدينية من غير تقييد بشيء منها أو من غير تقييد بانتظار الوحي. 

ومن الأدلة على اجتهاده ﷺ آيات القرآن التي عاتب الله فيها نبيه الكريم فيما قضى به مما اجتهد فيه، ولا يكون العتاب فيما صدر عن وحي فيكون عن اجتهاد لامتناع الإذن منه تشهيا؛ قال تعالى ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ [التوبة: 43]، فعوتب على الإذن لما ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك، وقال تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ [الأنفال: 67].

إن الاجتهاد منصب شريف حتى قيل: إنه أفضل درجات العلم للعباد، فلا يحرمه أفضل الخلق وتناله أمته، وأكثرية الثواب لأكثرية المشقة. أما قوله جل جلاله: ﴿وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى﴾ [النجم: 3-4]، فإنه مخصص بسببه وهو نفي دعوى الكفار افتراءه القرآن، وحينئذ فالمراد بقوله ﴿إن هو﴾ القرآن؛ فينتفي العموم، وأيضا: فإن القول عن الاجتهاد ليس عن الهوى بل عن الأمر بالاجتهاد وحيا، فيكون الاجتهاد وما يستند إليه وحيا.

أما اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في عصره ﷺ ووقوع ذلك منهم وأحواله ففيه تفصيل يراجع في مظانه.

2. التدرج في التشريع، وفيه نوعان:

فالأحكام الشرعية لم تنزل دفعة واحدة، وإنما نزلت في أوقات متفاوتة في مدة نبوته ﷺ، وهذا التدرج في التشريع يعود لرفع الحرج عن المسلمين لقرب عهدهم بالكفر، واستقطابا لقلوبهم إلى الإسلام في بدء أمره، يوم كان غضا طريا، أما بعد هذا العهد فقد أصبح الإسلام عزيزا قويا، وامتلأت قلوب المسلمين ثقة به، وصار له دولة ورجال يذودون عن حماه، فلم يعد حاجة لهذا التدرج.

وهناك التدرج في أحكام بعض التشريعات، كالخمر، فإنها لم تحرم رأسا، وإنما مهد لها ببيان أضرارها أولا، ثم النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر ثانيا، ثم جاء التحريم القاطع أخيرا ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ [المائدة: 90].

3. النسخ: وهو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه. قال تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ [البقرة: 106]، وثبت عن النبي أنه كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن نسخ الله تعالى الصلاة إلى تلك الجهة وأمره بالتوجه إلى الكعبة بقوله تعالى : ﴿قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾ [البقرة: 144]، وقال تعالى: ﴿سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ [البقرة: 142].

4.  إقرار الشارع لتقليد المجتهدين

إن تقليد العوام للعلماء المجتهدين بدأ من عصر الرسول ﷺ بإرشاد من الشارع الحكيم، قال تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ [النحل: 43]. وقام الرسول ﷺ ببعث أصحابه إلى خارج المدينة وأرشدهم إلى الاجتهاد، واجتهادهم لا يكون إلا فيما لا نص فيه مما وقع لهم من حوادث ومسائل سئلوا عنها ليقلدهم الناس فيها.

إضافة إلى إقرار الرسول ﷺ لاجتهادات صحابته في المدينة وتقليد غيرهم لهم؛ قال سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: كان الذين يفتون على عهد رسول الله ﷺ ثلاثة من المهاجرين وثلاثة من الأنصار؛ عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وقال ابن الهمام رضي الله عنه: (لا تبلغ عدة المجتهدين الفقهاء منهم أكثر من عشرين، كالخلفاء والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم وقليل، والباقون يرجعون إليهم ويستفتون منهم).

ثانيا: طور عصر الصحابة

هذه الدعوة المحمدية التي خيمت بظلالها على الجزيرة العربية في عصر نبيها ﷺ لسلوكه طريق الجهاد في سيرته، لإرشاد الناس إلى الدين الحق، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الإسلام ونشره إلى البشرية جميعا؛ حمل الراية من بعده أصحابه البررة رضي الله عنهم وصدعوا بالحق حتى امتدت دعوتهم إلى بلاد الشام ومصر والعراق وغيرها، فدخل في الإسلام أقوام جدد لهم عاداتهم وتقاليدهم وحياتهم الخاصة بهم، واختلط العرب بغيرهم من أمم العجم في البلاد التي فتحوها، فكثرت بذلك الأحداث والمستجدات الجديدة التي لم تكن في عهد النبي ﷺ والتي تتطلب بيان حكم الله تعالى فيها، وإلا كان الإسلام عاجزا عن تغطية حياة الناس من الأحكام الشرعية. وقد كان الأمر في تفصيل هذه الأحكام ملقى على عاتق مجتهدي الصحابة رضي الله عنهم.

مظاهر هذا العصر

الأول: متابعة الصحابة لهدي نبيهم ﷺ في الرجوع إلى القرآن ثم السنة في معرفة الأحكام الفقهية، فإن لم يجدوا فيهما اجتهدوا برأيهم؛ لبيان مقصود الله تعالى ورسوله ﷺ فيما لا نص فيه مما يجد من مسائل، ويتجلى ذلك في أمرين: 

أولهما: الفروع العديدة التي رويت عنهم، كما في "مصنف عبد الرزاق" و"مصنف ابن أبي شيبة" وغيرها من الكتب الحديثية والفقهية. والنصوص الكثيرة الواردة عنهم رضي الله عنهم في اجتهادهم باستعمال رأيهم في استنباط الأحكام على مراد الشارع.

ثانيهما: تقليدهم رضي الله عنهم للأعلم والأصلح فيهم فيما اجتهد فيه من مسائل، ويتضح ذلك فيما يلي:

- حض النبي ﷺ على ملازمة طريقة خلفائه وفهمهم رضي الله عنهم؛ لأنهم أعلم أصحابه وأورعهم وأتقاهم، وأعرفهم بمقصود الشرع الكريم، كما يروى عن النبي ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، وفي هذا الحديث فائدة أيضا أن تقليد هؤلاء الأئمة الخلفاء فيما ذهبوا إليه ليس من البدع المحدثة، وإنما البدعة في ترك تقليدهم واتباع الهوى، وليس هذا مقام بيان البدع.

- متابعتهم وتقليدهم رضي الله عنهم لأهل الفضل والعلم منهم، فلما سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة قال: إني سأقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد، فلما استخلف عمر رضي الله عنه، قال: إني لأستحيي الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر. فقد تابع عمر أبا بكر الصديق، واقتدى الصحابة بنهجهما وسيرتهما وأقوالهما.

- إرشادهم المسلمين إلى اتباع اجتهادات العلماء الصالحين.

ثالثا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاجتهاد فيما جد من مسائل لمن كان أهلا لذلك، كما اتضح ذلك في رسالة عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكتابه إلى القاضي شريح.

أما ما ورد عنهم من النهي عن الرأي، كقول أبي بكر رضي الله عنه عندما سئل عن آية من كتاب الله تعالى قال: أية أرض تقلني أو أية سماء تظلني أو أين أذهب وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها.. وغيرها من الآثار، فإنه إن صح عنهم ما نسب إليهم من هذه الأقوال، فإنها محمولة على الرأي المذموم المخالف للدين القائم على الهوى دون استناد لنص وأصل وفهم شرعي للنصوص، بخلاف الرأي الممدوح المبين لمراد الله في شرعه الكريم، ويؤيد ذلك ما سبق ذكره مما ثبت عنهم من قولهم بالرأي وتشجيعهم عليه، وبذلك لا معارضة بين هذه الأقوال وتلك.

رابعا: حرصهم على المشاورة في الأحكام الشرعية، إدراكا منهم للفهم الصواب للمسألة، ولئلا يكون فيها نص خفي عن بعضهم.

وهذه المشاورة إذا انتهت بالاتفاق على رأي في المسألة كانت إجماعا منهم على حكمها، فلا يجوز لمن جاء بعدهم أن يخالفهم فيها، لأن اجتماعهم عليها منبئ عن وجود نص استندوا إليه فيها، وإن لم يصل إلينا النص.

أما إذا أفتى أحد الصحابة رضي الله عنهم في مسألة ولم ينقل عن غيره خلاف فيها، فإنه يعتبر إجماعا سكوتيا في المسألة، ومحل تفصيل الكلام في ذلك في كتب الأصول، ومن إجماعاتهم: إجماعهم على توريث الجدة الصحيحة السدس إذا انفردت، واشتراك الجدات فيه إذا تعددن، وإجماعهم على حرمة تزويج المسلمة للكتابي مع حل تزوج المسلم للكتابية، وإجماعهم على جمع القرآن في المصاحف.

وما يهمنا هنا أن إمكانية الإجماع في عصر الصحابة رضي الله عنهم كانت متيسرة بخلاف غيره من العصور، لأن المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم معروفون ومشار إليهم بالبنان، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريص على إبقائهم في المدينة المنورة لاستشارتهم.

خامسا: تحريهم في قبول السنة، فليس كل من نسب شيئا لرسول الله ﷺ يأخذون به دون أن ينظروا موافقته لغيره من نصوص الشرع العظيم. 

سادسا: حصول اختلاف بينهم في كثير من المسائل الفقهية دون إنكار منهم لذلك، لعلمهم أن لكل مجتهد نصيب ما دام من أهل الاجتهاد ويبتغي تحصيل حكم الله في المسألة، وكتب الفقه والحديث فيها من اختلافهم الكثير. 

سابعا: مراعاتهم رضي الله عنهم لعلل النصوص وضوابطها ومخصصاتها ومبيناتها لا لظواهرها فحسب، فإنهم رضي الله عنهم عاشوا عصر التشريع مع النبي ﷺ، وفهموا الأحكام الشرعية على حقيقتها وكنهها، فطبقوها على مراد الشارع منها، ولا يكون إلا ذلك من الصحابة رضي الله عنهم لمن أنزلهم منزلتهم من العلم والتقوى والورع، فلا يليق بهم رضي الله عنهم أن يقدموا أفهام أنفسهم على أوامر الشارع، والمصلحة المبنية على العقل على مصلحة المشرع، ومن ادعى ذلك فقد جازف وضل عن سواء السبيل. ومن الأمثلة على ذلك إلغاء عمر رضي الله عنه لسهم المؤلفة قلوبهم.

ويقال نحو ذلك في عدم قطع عمر رضي الله عنه يد السارق عام المجاعة.

ثامنا: شيوع الاتباع والتقليد، حتى سمي من بعدهم بالتابعين، ولا يكون ذلك إلا لشدة الملازمة والمتابعة لأصحاب رسول الله ﷺ فيما كانوا عليه، فالصحابة رضي الله عنهم انتشروا في البلاد المفتوحة واستقروا فيها، كما سنفصل ذلك في الدور التالي؛ ليعلموا الناس دينهم، ويفتوهم فيما جد عليهم من مسائل، وينقلوا لهم كل ما تلقوه عن الرسول ﷺ من قرآن وسنة وفقه.

فصار للصحابة رضي الله عنه في البلاد التي انتقلوا إليها أصحاب وتلاميذ يتعلمون على أيديهم وينقلون علومهم وفتاويهم، وصار الغالب على أهل كل بلد فقه من عاش فيه من الصحابة رضي الله عنه، وكان حال العامة هو التقليد لمذاهب هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كل على حسب ما يصل إليه من علم، ولا يصل إليهم في العادة إلا علم وفتاوى من هم بين أظهرهم من الصحابة رضي الله عنهم في بلدتهم.

تاسعا: الكف عن الاجتهاد إلا لمن كان أهلا لذلك، ورأى في إمكانه الاجتهاد فيما سئل عنه، فلم يكن باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه لكل أحد، فزمانهم زمان ورع ودين، فلا يتجاسر شخص فيه على أحكام الشرع إلا إذا ظن قدرته على الوفاء بهذا الواجب العظيم. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي ﷺ فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.

مميزات هذا العصر

الأول: أن الاجتهاد فيه كان معتمدا على نصوص من الكتاب والسنة، بخلاف ما سيأتي في بعض الأدوار القادمة من اعتماد الاجتهاد على نصوص إمام المذهب كما سيأتي تفصيله.

الثاني: إمكانية تحقق الإجماع بكل جلاء ووضوح بخلاف العصور اللاحقة؛ إذ أن الإجماع: وهو اتفاق مجتهدي الأمة المحمدية في عصر من العصور على أمر شرعي، متعسر نوعا ما؛ لصعوبة جمعهم من أقطار الأرض كافة، وصعوبة الوقوف على رأيهم في مسألة معينة، أما المجتهدون من الصحابة فكانوا محصورين ومعروفين فجمعهم متيسر والوقوف على رأيهم كذلك كما سبق.

الثالث: الواقعية في الاجتهاد، فلم يكن الصحابة رضي الله عنهم يميلوا إلى فرض مسائل فقهية والإجابة عنها، بل يكتفون بما يقع للناس من مسائل فحسب. أما في العصور التي جاءت بعدهم فكانوا يميلون إلى الفقه الافتراضي (التقديري)، لأن الفقه صار علما مستقلا، له المختصون به درسا وتدريسا، فبذلوا قصارى جهدهم في تأصيل قواعده وبناء الفروع عليها؛ تسهيلا لطالب العلم في تناولها، وسيأتي زيادة في بيان ذلك.

ثالثا: طور المذاهب الفقهية

يبدو من الأنسب جعل الدور الثالث في المذاهب الفقهية بعد أن سبق التمهيد بتفصيل حال الفقه في عصر النبوة وعصر الصحابة رضي الله عنهم؛ لأننا كثيرا ما نقرأ بأن سلفنا خلف لنا بنيانا شامخا في الفقه نباهي به الأمم، وننتفع به في حياتنا، وهذا البناء تم على مدى القرون السابقة، فكان التحضير والتجهيز له في عصر النبوة، وأسس بنيانه في عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وتم بناء هيكله في عصر الأئمة المستقلين في الاجتهاد، وتكامل هذا الصرح الفقهي العظيم في هيئته وزخرفته في عصر الأئمة المجتهدين في المذاهب على حسب مقتضيات أحوالهم وأزمانهم.

وتجلية للأدوار التي مر بها الفقه الإسلامي، نعرض هذا الطور في ثلاثة أدوار:

1. دور التأسيس للمذاهب الفقهية

نبين ههنا أساس كل مذهب من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم؛ إذ إن الصحابة انتشروا في البلاد المفتوحة؛ ليعلموا أهلها هذا الدين الحنيف، فتكون لديهم التلاميذ الذي حملوا فقههم إلى من بعدهم حتى وصل إلى أئمة المذاهب، حيث ارتكزوا فيما ذهبوا إليه من مسائل على فقه هؤلاء الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

ومن الشبهات التي أثيرت في هذا الطور - والإجابة عنها لا يتسع لها المقام - تقسيم دور التابعين ومن بعدهم إلى مدرستين: مدرسة أهل الحديث، ومدرسة أهل الرأي، فالأولى تعتمد على النصوص الشرعية في استنباط الأحكام لتوافرها لديها، والثانية اعتمادها على الرأي والقياس لقلة الأحاديث بين يديها. 

ونكتفي بكلام الشيخ أبي زهرة: (قدد وجدنا أن كُتاب تاريخ الفقه في عصرنا يعدون مالكا رضي الله عنه فقيه أثر لا فقيه رأي، وسايرناهم في بعض كتابتنا السابقة في هذا المقام، وقلنا أن طريقة فقهاء المدينة في الاستنباط تقابل طريقة فقهاء العراق، وأن أهل المدينة يعتمدون على الأثر في أغلب استنباطاتهم، وأن العراقيين يغلب على فقههم الرأي، ولكنا عند دراسة مالك خاصة وجدناه فقيه رأي كما هو فقيه أثر، وأن ما يقال عن فقه المدينة في كتابات بعض المعاصرين لا ينطبق تمام الانطباق على فقه مالك رضي الله عنه الذي طبع به الفقه المدني في عصره، وإن كان الرأي الذي ارتضاه مالك رضي الله عنه ليس هو الرأي الذي اختاره أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وسائر العراقيين من كل الوجوه، فالفرق بينهما في طريقة الاستنباط لا في مقداره. وتلك قضية قد لمحناها في دراستنا السابقة، وفحصناها في الدراسة، فوجدنا أن ما أدركناه بلمح النظر، وهو ما انتهينا إليه بعد ترديد البصر… وبذلك تنهار النظرية التي تقرر أن سبب الإكثار من الرأي هو قلة العلم بالحديث، فما كان علم مالك رضي الله عنه بالحديث قليلا، بل كان كثيرا، ولكن الحوادث التي وقعت، والمسائل التي سئل فيها كانت أكثر بقدر كبير جدا، فكان لا بد من الرأي ولا بد من الإكثار منه، ما دام يفتي ويستفتي ويجيء إليه الناس من الشرق والغرب سائلين مستفتين).

وهذا ربيعة الرأي سمي بذلك لاشتهاره في القول بالرأي، مع أنه كان من أحفظ الناس لحديث رسول الله ﷺ، قال ابن الماجشون رضي الله عنه: (والله ما رأيت أحدا أحفظ لسنة من ربيعة).

أبرز الأمصار العلمية

أشرنا سابقا إلى أن الصحابة انتشروا في البلاد التي فتحوها يعلمون الناس ما تعلموه عن الرسول ﷺ، ويفتون لهم فيما ينزل لهم من حوادث، حتى انطبع أهل كلِّ بلد بفقه مَن عاش بين أظهرهم من الصحابة رضي الله عنهم؛ فعمر رضي الله عنه كان يبعث لكل مصر يفتتح عددا من الصحابة الفقهاء ليفقهوا أهله في الدين كما سيأتي، وكان تكوّن نواة المدارس الفقهية بهؤلاء الصحابة وتلاميذهم الذين ساروا على نهجهم في الفتوى، وإليك تفصيل لمشاهير الأمصار وأشهر الصحابة رضي الله عنهم الذي استقروا فيها وأشهر تلاميذهم.

الأولى: الكوفة

الطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم: بعث عمر بن الخطاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من أعلى الصحابة رضي الله عنهم مكانة في العلم والفقه، بحيث لا يستغني عن علمه مثل عمر رضي الله عنه في فقهه ويقظته. فابن مسعود رضي الله عنه عُني بتفقيه أهل الكوفة وتعليمهم القرآن من سنة بناء الكوفة إلى أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه عناية لا مزيد عليها، إلى أن امتلأت الكوفة بالقراء والفقهاء المحدثين، بحيث أبلغ بعض ثقات أهل العلم عدد من تفقه عليه، وعلى أصحابه، نحو أربعة آلاف عالم.

وقد انتقل علي رضي الله عنه إلى الكوفة فاجتمع علمه إلى علم ابن مسعود.

الطبقة الثانية: أصحاب ابن مسعود وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.

الطبقة الثالثة: أصحاب أصحابهم رضي الله عنهم. وهم لم يدركوا عليا، ولا ابن مسعود، ولكنهم تفقهوا على أصحابهما، وجمعوا علوم علماء الأمصار إلى علومهم، وما ذكره ابن حزم، منهم نبذة يسيرة فقط، وعدد هؤلاء في غاية الكثرة، وأمرهم في نهاية الشهرة.

ولسنا بسبيل سرد أسمائهم إلا أنا نلفت الأنظار إلى عدد الذين خرجوا مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، على الحجاج الثقفي، في دير الجماجم، سنة 83 هـ، من الفقهاء القراء خاصة من أهل الطبقتين.

الطبقة الرابعة: أصحاب أصحاب أصحابهم رضي الله عنهم.

الطبقة الخامسة: طبقة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.

الثانية: المدينة النبوية

لا يخفى أن المدينة كانت مهبط الوحي، ومستقر جمهرة الصحابة رضي الله عنهم إلى أواخر عهد ثالث الخلفاء الراشدين، خلا الذين رحلوا إلى شواسع البلدان للجهاد ونشر الدين، وتفقيه المسلمين.

الطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم: كأبي بن كعب وعائشة وزيد وغيرهم.

الطبقة الثانية: كبار التابعين: كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير.

الطبقة الثالثة: أصحاب كبار التابعين رضي الله عنهم، كمحمد بن مسلم بن عبيد الله ابن شهاب الزهري رضي الله عنه.

الطبقة الرابعة: طبقة الإمام مالك رضي الله عنه.

الثالثة: مكّة المكرمة

كان فيها بعثة الرسول ﷺ ومنها هاجر ﷺ إلى المدينة المنورة، وفيها الكعبة المشرفة والمسجد النبوي التي يأوي إليها كلّ عام جماهير المسلمين من العامة والعلماء لأداء فريضة الحجّ والعمرة، وكثير من العلماء كان يقطنها لتعليم المسلمين فيها والقادمين إليها؛ لأنها تعدّ مركزا علميا هاما يلتقي فيه أهل الفضل والعلم، فما من صحابي وعالم إلا زارها فأفاد واستفاد، ومن الصحابة الذين اشتهرت فتاويهم فيها:

الطبقة الأولى: طبقة الصحابة رضي الله عنهم: عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وغيرهما.

الطبقة الثانية: كبار التابعين رضي الله عنهم، كمجاهد بن جَبْر رضي الله عنه، وعطاء بن أبي رباح رضي الله عنه.

الطبقة الثالثة: أصحاب كبار التابعين رضي الله عنهم. 

الطبقة الرابعة: طبقة شيوخ الشافعي رضي الله عنه.

الطبقة الخامسة: طبقة الشافعي

الرابعة: الشام

دخل بلاد الشام عشرات الصحابة رضي الله عنهم بعد فتحها، ولا سيما بعد استقرار الخلافة الأموية فيها؛ إذ أصبحت حاضرة المسلمين، واشتهر نفرٌ ممن دخلها بالفقه منهم:

الطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم، كمعاذ بن جبل وأبي الدرداء عويمر بن مالك رضي الله عنهما.

الطبقة الثانية: التابعين رضي الله عنهم.

الطبقة الثالثة: أتباع التابعين رضي الله عنهم.

الطبقة الرابعة: طبقة الإمام الأوزاعي رضي الله عنه.

وكان مذهب الأوزاعي رضي الله عنه أحد المذاهب المتبوعة مدة من الدهر في الشام.

الخامسة: مصر

دخل الإسلام مصر في وقت مبكر في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد دخلها كثير من الصحابة أوصلهم الجيزي والسيوطي رضي الله عنه إلى ثلاثمئة كما سبق، كان أشهرهم في الفقه هو عبد الله بن عمرو بن العاص.

السادسة: البصرة

نالت العناية والاهتمام كباقي الأمصار الإسلامية المفتوحة؛ إذ بعث لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشرة من أصحابه رضي الله عنهم يعلمونهم أحكام الدين، منهم عبد الله بن مُغَفَّل المزني رضي الله عنه.

السابعة: اليمن

حظيت بإرساليات من الصحابة لتعليم أهلها منذ العهد النبوي، وقد مرَّ معنا أن الرسول ﷺ بعث لها معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم، وأرشدهم إلى الاجتهاد في بيان حكم المسائل الفقهية التي تقع لهم.

2. دور الأئمة المجتهدين المستقلين

هذا الدور تتمّة لما سبقه من الأدوار؛ إذ ظهر فيه أئمة المذاهب الفقهية المتبوعون، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين. وسنذكر نبذة يسيرة عن أصول هؤلاء الأئمة أدناه.

مميزات هذا الدور:

- ظهور الأئمة المتبوعين في التقليد في المسائل الفقهية، بدءا بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وانتهاء بالإمام أحمد رضي الله عنه.

- تقعيد القواعد وتأصيل الأصول بصورة أوسع من السابق؛ لتميز علم الفقه عن غيره واتساع دائرته، فكان من أسباب تقليد أئمة الفقه المشهورين دون سواهم أنهم استطاعوا أن يستخرجوا أصولا يعتمدون عليها في فتاواهم بهيئة أدق وأنظم من غيرهم، إذ أن ما عهد عنهم من مسائل تنتظم في سلك واحد لأصول معينة لا تخرج عنها، فكل الفروع المتشابهة ترجع لقاعدة واحدة، الأمر الذي جعل من بعدهم يقر لهم بالأحقية في التقليد والاتباع.

- توسع القول بالفقه التقديري والافتراضي لما سبق ذكره من تقعيد القواعد، إذ لا بد في تصحيحها من افتراض ما ينبني عليها من مسائل، إضافة للنضوج والتميز الذي حصل للفقه في هذا العصر، حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه وضع ثلاث وثمانين ألف مسألة، وروي عن الإمام الأوزاعي أنه وضع ستين ألف مسألة.

وجذور الفقه الافتراضي ترجع إلى عصر الرسول ﷺ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك»، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد»، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار».

قال الحافظ ابن رجب: (وقد كان أصحاب النبي ﷺ أحيانا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده، وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها).

أما نهي سيدنا عمر رضي الله عنه عما لم يكن، فالمراد منه ما كان من قبيل السؤال عن المعضلات والأغلوطات، أو المسائل الفضول التي لا حاجة بالسائل إليها، وإنما تكون من بطر الذهن وفراغ النفس ونحو ذلك، مما لا يترتب على السؤال عنه فائدة عملية، ولم يرد به تكليف من الشارع أو خطاب، فالسؤال عن مثل هذا منهي عنه ولا ريب، ومثله السؤال إذا كان على سبيل التعنت والمغالطة وتصفير الوجوه، وأمثلة ذلك كثيرة، فسؤال الفراغ والفضول ما سئل عنه الإمام الشعبي رضي الله عنه، فقد أتاه رجل فقال له: ما اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته.

أبو حنيفة النعمان

محل تفصيل أصول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه هو كتب أصول مذهبه التي استخرجها أصحابه له من المسائل التي رويت عنه، وإنما نذكر هنا كلمة جامعة وردت عنه في تعامله مع نصوص الشرع: يقول الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: (آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله ﷺ، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر أو جاء إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب - وعدد رجالا رضي الله عنهم - فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا).

مالك بن أنس

قد استقصى الكلام على أصوله رضي الله عنه أصحاب كتب الأصول من أهل مذهبه وغيرهم أيضا، ونذكر ههنا كلمة جامعة: (تقديم كتاب الله تعالى على ترتيب أدلته في الوضوح من تقديم نصوصه ثم ظواهره ثم مفهومه، ثم كذلك السنة على ترتيب متواترها ومشهورها وآحادها، ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهومها، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة، وعند عدم هذه الأصول كلها القياس عليها والاستنباط منه؛ إذ كتاب الله مقطوع به، وكذلك متواتر السنة، وكذلك النصوص مقطوع به، فوجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر ثم المفهوم لدخول الاحتمال في معناها ثم أخبار الآحاد عند عدم الكتاب والمتواتر منها، وهي مقدمة على القياس؛ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم في الفصلين، وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر الثقة وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس عند عدم الأصول على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين).

محمد بن إدريس الشافعي

قال الشافعي رضي الله عنه: (الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله ﷺ وصح الإسناد منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدى منقطع ابن المسيب، ولا يقاس على أصل ولا يقال للأصل لم وكيف، وإنما يقال: للفرع لم، فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة).

وقال أيضا: (إذا رفعت الواقعة للمجتهد فليعرضها على نص القرآن، فإن لم يجد عرضها على أخبار الآحاد، فإن لم يجد عرضها على ظاهر القرآن، فإن وجد ظاهرا بحث عن المخصص من خبر أو قياس، فإن لم يجد مخصصا حكم به، فإن لم يعثر على لفظ من قرآن أو سنة نظر في المذاهب، فإن وجد فيها إجماعا اتبعه، وإن لم يجد إجماعا خاض في القياس).

أحمد بن حنبل

أصول الإمام أحمد رضي الله عنه بصورة مجملة، هي:

النصوص؛ فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولذلك قدم النص على فتاوى الصحابة رضي الله عنهم.

ما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم ولا يعلم مخالف فيه، فإذا ورد لبعضهم فتوى ولم يعرف مخالفا لها ولم يعدها إلى غيرها.

أنه إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول.

الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه.

القياس؛ وهذا إذا لم يكن عند الإمام أحمد رضي الله عنه في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف.

3. دور الأئمة المجتهدين في المذاهب

نبين ههنا الدور الذي قام به هؤلاء، من تكملة هذا البناء الفقهي، وسد حاجات زمانهم، والقيام بواجبهم في حفظ الدين، وغير ذلك.

عرضنا فيما تقدم لما كان عليه الفقه منذ عصر الرسول ﷺ حتى الأئمة المتبوعين، وكيف أنّ هؤلاء الأئمة التزموا طريق مَن سبقهم في استنباط الأحكام الشرعيّة من مصادرها. وقد وجد في الطور السابق أئمة مجتهدون غير مَن ذكر، وكانت لهم مذاهب مستقلّة: كسفيان الثوري والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وابن جرير وداود وسفيان بن عيينة والأوزاعي رضي الله عنهم، ومنهم مَن اتُّبع مذهبه مدّة من الزمن كالأوزاعي.

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون حفظ الأحكام الفقهية في هذه المذاهب التي بين أيدينا، قال تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ [الحجر: 9]. ومن هذه الحكمة ما ذكره الحافظ ابن رجب رضي الله عنه: (فإن قال أحمق متكلّف: كيف يحصر الناس في أقوال علماء متعينين ويمنع من الاجتهاد أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين؟

قيل له: كما جمع الصحابة رضي الله عنهم الناس على حرف واحد من حروف القرآن ومنعوا الناس من القراءة بغيره في سائر البلدان، لما رأوا أن المصلحة لا تتم إلا بذلك، وأن الناس إذا تركوا يقرؤون على حروف شتى وقعوا في أعظم المهالك.

فكذلك مسائل الأحكام وفتاوى الحلال والحرام، لو لم تضبط الناس فيها بأقوال أئمة معدودين، لأدى ذلك إلى فساد الدين، وأن يعد كل أحمق متكلف طلبت الرياسةَ نفسه من زُمرة المجتهدين، وأن يبتدع مقالة ينسبها إلى بعض من سلف من المتقدمين، فربما كان بتحريف يُحرفه عليهم، كما وقع ذلك كثيرا من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالة زلة من بعض من سلف قد اجتمع على تركها جماعة من المسلمين، فلا تقتضي المصلحة غير ما قدَّره الله وقضاه من جمع الناس على مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورة رضي الله عنهم).

وقال القرافي رضي الله عنه: (رأيت لابن الصلاح رضي الله عنه ما معناه: أن التقليد يتعيَّن لهذه الأئمة الأربعة دون غيرهم، لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها، فإذا أطلقوا حكما في موضع وجد مكملا في موضع آخر، وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا، لو انضبط كلام قائله لظهر، فيصير في تقليده على غير ثقة، بخلاف هؤلاء الأربعة).

ومن أسباب ثقة الأمة الإسلامية بالمذاهب الأربعة واتباع المسلمين لأئمتها ما يلي:

  • أن أصولهم التي اعتمدوا عليها أمكن وأدق من أصول غيرهم.
  • كثرة الفروع التي وردت عنهم.
  • كثرة تلاميذهم الذين تلقوا عنهم وآثروا الانتساب إليهم ونقلوا فتاويهم.
  •  توفر الجهابذة من الحفاظ الذين كرسوا أوقاتهم في الاحتجاج لمسائل هؤلاء الأئمة.
  • خدمة مذاهبهم من قبل العلماء تأصيلا وتفريعا وتقعيدا.
  • نقل مذاهبهم بطرق متواترة أو مشهورة.
  • تدوين مسائلهم.
  • كثرة الورع والتقوى والعبادة التي كانوا عليها.
  • تطبيق مذاهبهم في القضاء وتبني بعض الدول الإسلامية لمذاهبهم كمذهب رسمي للدولة.

قال بحر العلوم اللكنوي رحمه الله: (والحاصل أن من ادعى بأنه قد انقطعت مرتبة الاجتهاد المطلق المستقل بالأئمة الأربعة انقطاعا لا يمكن عوده فقد غلط وخبط، فإن الاجتهاد رحمة من الله سبحانه، ورحمة الله لا تقتصر على زمان دون زمان، ولا على بشر دون بشر، ومن ادعى انقطاعها في نفس الأمر مع إمكان وجودها في كل زمان، فإن أراد أنه لم يوجد بعد الأربعة مجتهد اتفق الجمهور على اجتهاده وسلموا استقلاله كاتفاقهم على اجتهادهم، فهو مسلم، وإلا فقد وجد بعدهم أيضا أرباب الاجتهاد المستقل: كأبي ثور البغدادي، وداود الظاهري، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهم، على ما لا يخفى على من طالع كتب الطبقات).

وقد قسم بعضهم المراحل التطورية التي مر بها الفقه الإسلامي إلى سبعة أدوار رئيسة هي:

الدور الأول: عصر الرسالة أي مدة حياة النبي؛ وفي هذا الدور تكامل بناء الشريعة وكمل الدين.

الدور الثاني: عصر الخلفاء الراشدين وما بعده إلى منتصف القرن الأول الهجري، وهذان الدوران هما المرحلة التمهيدية لتدوين الفقه الإسلامي.

الدور الثالث: من منتصف القرن الأول إلى أوائل القرن الثاني؛ حيث استقل علم الفقه وأصبح اختصاصا ينصرف إليه، وتكونت المدارس الفقهية التي سميت فيما بعد بالمذاهب الفقهية، ويمكن أن يقال إن هذا الدور هو المرحلة التأسيسية لتدوين الفقه.

الدور الرابع: من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع؛ حيث تم الفقه وتكامل، وهذا الدور هو دور الكمال لتدوين الفقه الإسلامي.

الدور الخامس: من منتصف القرن الخامس إلى سقوط بغداد في أيدي التتار في منتصف القرن السابع؛ وفي هذا الدور بدأ الفقه في مرحلة الجمود والتقليد في التآليف في الفقه.

الدور السادس: من منتصف القرن السابع إلى أوائل العصر الحديث، وهذا الدور هو دور الضعف في أساليب التدوين.

الدور السابع: من منتصف القرن الثالث عشر الهجري إلى اليوم؛ وفي هذا الدور توسعت الدراسات الفقهية خاصة الدراسات المقارنة وأمهات كتب الفقه. 

تدوين الفقه الإسلامي

تدوين الفقه في عصر الرسول والصحابة والتابعين

ابتدأ تدوين الفقه منذ العصر النبوي، إذ أمر رسول الله ﷺ بكتابة كتاب الله على السعف والرقاع وغيرها، وكتابة بعض الأحكام كالصدقات والوثائق والرسائل، وكان له ﷺ كتابا يقومون بذلك سموا بكتاب الوحي، منهم: زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وأبو أيوب الأنصاري وحذيفة بن اليمان وخالد بن الوليد والزبير بن العوام وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وغيرهم رضي الله عنهم. 

وتوفي رسول الله ﷺ والقرآن محفوظ في الصدور، مدون في الرقاع ونحوها، إلا أنه لم يكن مجموعا في مصحف واحد، وإنما كان مفرقا.

أما السنة فقد دون منها شيء يسير، وكان سبب عدم تدوين السنة كاملة في عصره ﷺ هو نهيه عن ذلك، إذ قال ﷺ: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». ويرجع النهي لأسباب منها خشية اختلاط السنة بالقرآن، كما أنه لم تكن هناك حاجة للتدوين لحرص الصحابة وشدة ملازمتهم له ﷺ، وغير ذلك.

وبعد وفاة النبي قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن في مجموع واحد بعد إلحاح عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكثرة ما قتل من قراء القرآن رضي الله عنهم في حروب الردة، وخشية ضياعه؛ لحفظه في صدورهم وفي رقاع مفرقة عندهم.

أما السنة فلم يتم تدوينها وإن شاور عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة في ذلك، قال عروة بن الزبير رضي الله عنه: إن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، واستشار فيها أصحاب رسول الله ﷺ فأشار إليه عامتهم بذلك، فلبث عمر شهرا يستخير الله في ذلك شاكا فيه، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال : إني كنت ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس بكتاب الله بشيء، فترك كتابة السنن.

ومسلك عمر رضي الله عنه هو عدم أخذ الدولة الإسلامية على عاتقها تدوين حديث رسول الله، لا المنع من ذلك مطلقا. بل هو نفسه كان يطلب البينة على من قال بسنة عن رسول الله.

يقول ابن حجر: (لسعة حفظهم رضي الله عنهم وسيلان ذهنهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة).

وفي عصر التابعين استمر الحال على ما كان عليه في عهد الصحابة، فلم تدون السنة في كتب تشتهر بين الناس، وهذا لا يمنع أن يكون للمحدثين صحف خاصة بهم يجمعون بها ما سمعوا من الحديث، ولكن جل اعتمادهم كان على حفظهم؛ إلا أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر بجمع السنن في كتاب واحد، لكنه توفي قبل أن يتم الأمر. ففي البخاري معلقا: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ﷺ، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.

قال أبو طالب المكي رضي الله عنه: (هذه المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة، ويقال: إن أول ما صنف في الإسلام كتاب ابن جريج رضي الله عنه في الآثار وحروف من التفاسير، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني رضي الله عنه باليمن، جمع فيه سننا منثورة مبوبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك رضي الله عنه، ثم جمع ابن عيينة كتاب الجامع والتفسير في أحرف من القرآن وفي الأحاديث المتفرقة، وجامع سفيان الثوري صنفه أيضا في هذه المدة).

تدوين الفقه في عصر الأئمة المجتهدين المستقلين

تدوين فقه الإمام أبي حنيفة

بدأ تدوين الفقه في حلقة الإمام أبي حنيفة، فإنهم كانوا يتناولون المسألة اليوم واليومين والثلاثة، ومنها الشهر والشهرين حتى يستبين لهم الحكم فيها، فيأمر أصحابه بكتابتها، قال أسد بن الفرات: (كان أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه الذين دونوا الكتب أربعين رجلا، فكان في العشرة المتقدمين، أبو يوسف وزفر بن الهذيل وداود الطائي وأسد بن عمرو ويوسف بن خالد السمتي ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو الذي كان يكتبها لهم ثلاثين سنة).

لكن الإمام محمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنه فاق جميع أصحاب الإمام أبي حنيفة في التدوين؛ لشدة تحريه وفقهه وحفظه وتفريقه، حتى عادت كتبه المعتمدة في نقل رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، وجميع كتب ظاهر الرواية التي عليها التعويل في نقل المذهب هي من كتب محمد بن الحسن رضي الله عنه، وليس هذا فحسب، بل إن كتبه تعد مادة التدوين في المذاهب المقلدة.

تدوين فقه الإمام مالك

تلقى تلاميذ كثر عن الإمام مالك رضي الله عنه، ومنهم من كان اهتمامه بسماع وجمع أجوبة الإمام مالك في المسائل الفقهية، وكانوا يدون بعضهم ما يسمعه من الأجوبة عن الإمام مالك رضي الله عنه لنفسه، وممن كانت لهم أسمعة مدونة: علي بن زياد، وزياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون، وعبد الله بن وهب، وأشهب، وابن القاسم، وابن الماجشون، وعيسى بن دينار، وعبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم، وهذه الأسمعة هي أصل ما بعدها من المدونات.

وكان التدوين الفعلي في المذهب على يد أسد بن الفرات الذي سمع "الموطأ" من علي بن زياد بتونس، وتلقى عنه العلم، وارتحل إلى المشرق فجاء إلى مالك، فسمع منه "الموطأ"، وانضم إلى تلاميذه، وصار يسأله عن المسائل كما يسألون، ويسمع منه ما يسمعون، إلا أنه وجد حائلا يحول بينه وبين ما كان يشتهي من الزيادة في توجيه الأسئلة وكثرة التفريع، فوجهه الإمام مالك إلى العراق ليجد رغبته كما يريد، ولم يكن توجيهه إياه توجيه كراهية وطرد، وإنما كان توجيه نصح وإرشاد إلى البيئة التي تصلح مع نزعته وميله.

فتوجه أسد إلى العراق وحط رحاله بالكوفة، فلقي فيها أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: أبا يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهما، فسمع منهم ودارسهم وتفقه بهم، لا سيما محمد بن الحسن الذي لازمه مدة لقي فيها ترحابا منه وإكراما، ووجد عنده بغيته، فأكثر من السماع عليه ومن طرح الأسئلة، ومنحه محمد بن الحسن وقتا كبيرا، فقد شكا إليه أسد قلة السماع في حلقات درسه العامة بالنهار، فجعل له ليله كله خاصا به، فجمع منه علما كثيرا حتى صار من المناظرين من أصحابه.

ثم انصرف من العراق إلى المدينة النبوية ليسأل بها أصحاب مالك رضي الله عنه عن المسائل التي تلقاها من محمد بن الحسن رضي الله عنه، ولم يجد عندهم ما يطلبه، بل أشاروا عليه بالرحيل إلى أصحاب مالك بمصر فارتحل، ولما وصل إلى مصر قدم إلى عبد الله بن وهب، وقال له: هذه كتب أبي حنيفة رضي الله عنه. وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك فتورع ابن وهب وأبى.

وقريب منه حصل له مع أشهب، فذهب إلى ابن القاسم فأجابه إلى ما طلب وصار يجيبه عن أسئلته: السؤال تلو السؤال، حتى نفد ما لديه من الأسئلة وانقطع، مقتصرا في أكثر ذلك على الإجابة بقول مالك رضي الله عنه، وما شك فيه قال: أظنه، وأخاله، وأجاب في بعضها برأيه على أصل قول مالك رضي الله عنه، حتى صار ما لديه من ذلك ستين كتابا، مجموعة عنده ومدونه، فصار يطلق عليها اسم "المدونة"، و"الأسدية"، ولم تكن مرتبة الأبواب والمسائل، فصار يطلق عليها أيضا "المختلطة"، وبعد اكتمال جمعها انتسخها منه أهل مصر، ثم حملها أسد راجعا بها إلى القيروان، فنشرها هناك، وأخذها عنه الناس، وحصلت له بسبب ذلك رئاسة، وانتشر علمه في الآفاق.

وابن وهب رضي الله عنه يغلب عليه الرواية فمثله لا بد وأن يأبى، وأما ابن القاسم رضي الله عنه فقد لازم مالكا نحو عشرين سنة بيقظة وانتباه يسمع منه ويتفقه عليه، ومثله يكون أكثر إقداما على مثل ذلك، والمالكية يفضلونه على باقي أصحاب مالك رضي الله عنه في الفقه.

وكان ممن كتب "الأسدية" سحنون الذي كان صاحبا لأسد في التلمذة على علي ابن زياد، وارتحل بها إلى المشرق ليسمعها من ابن القاسم، فتم له ما أراده، فسمع "المدونة" منه مرة أخرى، وقد اقترح على ابن القاسم عند إرادة سماعها منه أن يترك ما شك فيه عن مالك، ويجيب هو عنه من نفسه، فوافقه على ما طلب، فأسقط منها: إخال وأظن وأحسب، وزاد على ذلك أشياء: فغير أشياء، واستدرك أشياء؛ لأنه كان أملاها على أسد من حفظه، فصار في "المدونة" في هذه المرحلة من التهذيب على يد ابن القاسم ما لم يكن في سابقتها.

أتم سحنون رحلته بعد أن زار فيها من الأمصار ما زار ثم رجع إلى القيروان، يحمل إلى أهلها "المدونة" بروايتها الثانية المهذبة، ثم لم يقف هو بها عند حد ما جاء به من ابن القاسم، بل أضاف إليها أنواعا أخرى من التهذيب، وأدخل فيها شيئا من الزيادات.

وبهذه الأعمال مجتمعة غير الحلة التي أخرجها بها أسد، فراقت لأنظار الناس، وأبهجت نفوسهم، فمالوا إليها وتركوا "مدونة أسد"، فصارت هي المعول عليها، والمعمول بها فيها، وحتى صارت هي المعنية عند الإطلاق باسم "المدونة" دون "مدونة أسد".

ولا يخفى أنه لولا الكتب التي تلقاها أسد من محمد في فقه أبي حنيفة وقدمها لابن القاسم ليجيبه عن مسائلها على مذهب مالك عن ظهر قلب لما تمكن أسد من الإجادة في السؤال ولا ابن القاسم من الجواب عن كل مسألة من أبواب الفقه على ترتيب أهل العراق، فعلى ضوء كتب محمد تم تدوين أسد لتلك المسائل التي هي أصل مدونة سحنون.

وأسد هذا هو ناصر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ومالك رضي الله عنه بإفريقية، ثم اقتصر على نشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، فانتشر في ديار المغرب لحد الأندلس حتى أصبح الأكثرون في أفريقية على هذا المذهب إلى عهد ابن باديس.

وأسد هذا هو فاتح صقلية وناشر الإسلام بها، وبها توفي، ولهذه الصلة الأكيدة بين المذهبين ترى أهل الغرب يعتبرونهما بحرين وما سواهما ساقية يستغنى عنها مع إخاء صادق بين الفريقين المتمذهبين بالمذهبين، وكذلك ترى بعض كبار الفقهاء من المالكية يقول: إذا لم تكن في مسألة رواية عن مالك يؤخذ بقول أبي حنيفة فيها.

تدوين فقه الإمام الشافعي

بعد محنة الإمام الشافعي رضي الله عنه في العراق وبراءته مما وجه إليه من التهمة ألهم التفقه على محمد بن الحسن حتى اتصل به ولازمه ملازمة كلية واستنسخ مصنفاته بصرف نحو ستين دينارا، وانصرف إلى التفقه عنده انصرافا تاما إلى أن سمع منه حمل بختي من الكتب ليس عليها إلا سماعه، وأخذ يعلو شأنه وأصبحت هذه المحنة منحة كبرى في حقه لكونها مبدأ اعتلاء قدره.

وكان إعجاب الشافعي رضي الله عنه بشيخه محمد أيما إعجاب حتى قال فيه: (لو أنصف الفقهاء لعلموا أنهم لم يروا مثل محمد بن الحسن، ما جالست فقيها قط أفقه منه، ولا فتق لساني بالفقه مثله، لقد كان يحسن من الفقه وأسبابه شيئا يعجز عنه الأكابر)، وقال: (ما رأت عيناي مثل محمد بن الحسن، ولم تلد النساء في زمانه مثله). 

وكتب محمد بن الحسن لا بد أن يكون لها الأثر الأكبر في تدوين الشافعي لفقهه الذي كتبه بنفسه، إذ إنه (جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الأول يكتب، والثاني: يصلي، والثالث: ينام).

وكان بدء تصنيفه الكتب التي يعرض فيها مذهبه في الفروع والأصول مع بدء زيارته الثانية إلى بغداد سنة (195 هـ)، وتسمى بالمصنفات العراقية، أو الكتب القديمة، وهي تمثل ما عرف بالمذهب القديم له. وفي سنة (200 هـ) بعد انصرافه إلى مصر بدأ بتأليف مصنفاته المصرية، المسماة بالكتب الجديدة، وهي تمثل ما عرف بالمذهب الجديد له. ومصنفاته المصرية هي تنقيح وإحكام للمصنفات العراقية بعد إعادة نظره في مسائلها وتغير اجتهاده في جلها، فكتاب الأم في مصر كان مقابلا لكتاب الحجة في العراق، وكتاب الرسالة الجديدة في مصر كان تنقيحا للرسالة القديمة في العراق التي أرسلها الشافعي إلى عبد الرحمن بن مهدي إجابة لطلبه، وهو في البصرة. 

وأملى الشافعي مصنفاته على تلاميذه فكان راوية مذهبه الجديد الربيع المرادي المشهور بقوة الحفظ حتى قال عنه البويطي ـ وهو من أبرز تلاميذ الشافعي ـ (الربيع في الشافعي أثبت مني)، وصارت الرواحل تشد إليه من أقطار الأرض في سماع كتب الشافعي، وقد عمر وعاش بعد موت الشافعي 66 سنة. وقام المزني ـ تلميذ الشافعي ـ باختصار كتبه، قال البيهقي: (صنف من كتب الشافعي ومما أخذه عنه "المختصر الكبير"، ثم صنف "المختصر الصغير" الذي سار في بلاد المسلمين وانتفعوا به).

تدوين فقه الإمام أحمد

تفقه الإمام أحمد رضي الله عنه في مبدأ أمره على أبي يوسف رضي الله عنه، واستفاد من كتب محمد بن الحسن ولازم الإمام الشافعي وعرف بمتابعته له في أقواله، وحفظه لفقه فقهاء الأمصار، ولا شك أن لكل هذا كان الأثر البالغ في فقهه.

إلا أنه رغم كل ذلك كان شديد الكراهية لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، حتى أن "مسنده" رتبه ابنه عبد الله، وكان يكره أن يكتب كلامه، ولذلك لم يدون مذهبه إلا فيما بعد من قبل أصحابه.

ومن أشهر من نقل روايات أحمد عنه الأثرم، وإبراهيم الحربي، وقد انتشرت هذه المسائل والفتاوى في الآفاق، حتى جاء أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال فانصرف إليها وجمعها من الآفاق، وكتب ما روي عن أحمد بالإسناد، وتتبع ذلك من أصحابه وطرقه، وجمع أكثرها في كتابه "الجامع"، فكان الجامع هو الأصل في الروايات المنقولة عن أحمد رضي الله عنه حيث تناوله المجتهدون من أصحابه بالترجيح والاختيار لما نقل من الروايات.

تدوين الفقه في عصر الأئمة المجتهدين في المذاهب

إن السبب الرئيس في الخلاف في الفروع بين الفقهاء هو اختلاف الأصول والقواعد التي بنوا عليها هذه الفروع، ولا يمكن للفقيه أن يكون مجتهدا إلا إذا كان له أصول.

ومن بين هؤلاء المجتهدين الكثيرين تلقت الأمة اجتهاد الأئمة الأربعة المتبوعين دون سواهم، لأسباب كثيرة كدقة أصولهم واشتهار تقواهم وورعهم وكثرة تلاميذهم وغير ذلك مما بينا آنفا، وكل واحد منهم قدم لنا عصارة وخلاصة ما في القرآن والسنة وآثار الصحابة من الأحكام الفقهية المرتكزة على قواعده، والخالصة عن التعارض والاضطراب الظاهري الذي يرد على الآيات والأحاديث والآثار فيما بينها، ففي هذا الدور قطع الفقه شوطا كبيرا في انفصاله عن مورده واستقلاله في مسائل وفتاوى شاملة لجميع أبوابه.

وذلك كله مما حدا بتلاميذ الأئمة الأربعة ومن تبعهم أن يكملوا ما بدأه هؤلاء الأئمة، ويتمموا بناءه، لا أن يعودوا ويفعلوا كما فعلوا إذ فيه إعادة لما تم وانتهى، فكل منهم من كلام إمامه أصل القواعد وشيدها، وفرع عليها الفروع الكثيرة المتفقة مع أصول إمامه، وكان يتعامل مع كلام إمامه في الاجتهاد والاستنباط كما يتعامل المجتهد مع كلام الشارع، واهتموا كثيرا بتحرير كلامهم في كل مسألة، وألفوا المختصرات والمطولات في ذلك.

نشأة علم أصول الفقه

لقد مر علم أصول الفقه بثلاث مراحل:

مرحلة النشأة والتكوين

كانت اللغة العربية هي لغة الصحابة رضوان الله عليهم، وبهذه اللغة نزل القرآن الكريم الذي هو أساس التشريع والمصدر الأول لاستنباط الأحكام الشرعية.

والسنة النبوية وهي المصدر الثاني لاستنباط الأحكام الشرعية جاءت مبينة للكتاب وهي بلغة أفصح العرب ﷺ.

كما أن الصحابة شهدوا عهد الوحي والتنزيل ولزموا النبي في سفره وإقامته، وعرفوا الأسباب والوقائع والملابسات التي لأجلها نزلت أحكام الشريعة، إلى ما امتازوا به من فطنة وذكاء وصفاء خاطر وسلامة ذوق وحرص على أحكام الشرع علما وعملا، مما أكسبهم معرفة أسرار الشريع ومقاصدها.

وبذلك كله لم يجدوا أنفسهم بحاجة إلى شيء وراء ذلك لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة. يقول ابن خلدون: (ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم، وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه، وهو القياس وهو رابع الأدلة. واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة).

مرحلة النضوج والازدهار

لما رحل جيل الصحابة رضي الله عنهم، جاء التابعون من بعدهم، فساروا على نهج الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يأخذون فتواهم من الكتاب والسنة، والإجماع، وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم، فإن لم يجدوا لجأوا إلى الاجتهاد، والقياس.

وكان لكل إمام من أئمة التابعين قواعد، وأصول للفتوى والاجتهاد، لكن هذه القواعد والأصول لم تدون في كتاب مستقل.

مرحلة الاكتمال والتدوين

لم يدون علم أصول الفقه إلا في القرن الثاني الهجري، والسبب في ذلك يرجع إلى عدة أمور:

الأول: حدوث نوازل جديدة لم تكن موجودة من قبل.

الثاني: كثرة المناظرات والمجادلات بين المدارس الفقهية المختلفة.

الثالث: كثرة الوضع في حديث الرسول ﷺ.

الرابع: ضعف اللغة العربية لكثرة دخول العجم في الإسلام.

يقول ابن خلدون: (والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان. وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنها جبلة وملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى).

ويعد الإمام الشافعي أول من كتب في علم أصول الفقه، أملى فيه رسالته المشهورة التي تكلم فيها في الأوامر والنواهي، والبيان والخبر والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس.

وسبب تأليف كتاب "الرسالة" أن عبدالرحمن بن مهدي كتب إلى الإمام الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له "الرسالة".

ثم استمر التدوين والبحث في أصول الشافعي، ذلك أن أرباب المذاهب الفقهية اتفقوا مع الشافعي في أغلب ما قرره في الرسالة، ومنهم من اختلف معه في بعضها، فالحنفية مثلا خالفوه في الأخذ بالاستحسان الذي كتب فيه الشافعي في الرسالة كتاب إبطال الاستحسان، والمالكية خالفوه في الأخذ بعمل أهل المدينة كمصدر من مصادر فقههم، كما خالفوه في الأخذ بالذرائع، والمصالح المرسلة.

ومن هنا فقد توسعت البحوث في علم أصول الفقه، وكان هناك تياران أو اتجاهان في التأليف:

الاتجاه الأول: طريقة الشافعية أو المتكلمين

هذا الاتجاه يبحث في علم أصول الفقه على طريقة الشافعي؛ من خلال تقرير القواعد واستنباطها وبحثها بحثا نظريا غير متقيد بالفروع الفقهية، بل يبحث القاعدة ويقررها، وينظر فيها؛ سواء خالفت الفروع الفقهية المستنبطة من قبل أو وافقتها.

وتسمى هذه الطريقة طريقة الشافعية أو طريقة المتكلمين، وذلك أن كثيرا من الباحثين والمؤلفين في هذه الطريقة كانوا من علماء الكلام الذين تناولوا بالبحث والتأليف أصول الفقه عن طريق البحث النظري المجرد، واختلطت في بحوثهم مسائل علم الأصول مع مسائل الكلام، وأثاروا بحوثا نظرية، مثل: كلامهم في التحسين العقلي والتقبيح العقلي، مع اتفاقهم على أن الأحكام في غير العبادات معللة، معقولة المعنى.

وهكذا يختلفون في مسائل نظرية كثيرة لا ينبني عليها عمل ولا تدخل في علم أصول الفقه ومباحثه وقضاياه، ولا تسن طريقا للاستنباط، ومن ذلك خلافهم في جواز تكليف المعدوم، بل إنهم بحثوا مسائل وقضايا هي من صميم علم الكلام.

وقد التزم بهذه الطريقة جمهور العلماء الشافعية، والمالكية، والحنابلة؛ فلذا يطلق عليها طريقة الجمهور.

الاتجاه الثاني: طريقة الحنفية

وهذا الاتجاه يبحث في علم الأصول بدراسة فروع المذهب، واستنباط القواعد الأصولية التي بنى عليها فقهاء المذهب استدلالاتهم، وذلك أن فقهاء المذهب الحنفي الذي عرفت هذه الطريقة بهم لم يتركوا قواعد مدونة للاستنباط والاستدلال؛ لأن عصرهم لم يكن بعد عصر تكامل التدوين، ومن هنا جاء بعدهم من نظر في فروعهم، وجادلوا عنها، وفي ثنايا البحث والمناظرة والحجاج كانوا يستخرجون ما في الفروع من القواعد التي بني عليها الاستنباط والاستدلال، ثم توسعت المذاهب المختلفة في الأخذ بهذه الطريقة؛ دفاعا عن فروعهم، واستدلالا لمذهبهم.

وبهذا تختلف أصول الحنفية عن أصول الشافعية، والجمهور في أن أصول الشافعية كانت منهاجا للاستنباط، وكانت حاكمة عليه، أما طريقة الحنفية فقد كانت غير حاكمة على الفروع بعد أن دونت؛ أي: إنهم استنبطوا القواعد التي تبين مذهبهم وتؤيده؛ فهي إذا مقاييس مقررة لا مقاييس حاكمة.

اتجاه المتأخرين

بعد أن استقامت الطريقتان كل في منهاجها، ظهرت طريقة المتأخرين من الأصوليين الذين جمعوا بين الطريقتين، فكانوا يقررون القواعد من خلال البحث النظري المجرد، ويستشهدون عليها بالفروع، فلا يكون البحث النظري مقررا للقواعد والأصول، ولا تصبح الفروع هي المقررة لما يتم استنباطه من القواعد، وقد ظهرت هذه الطريقة في حدود القرن السابع الهجري.

ومن خصائص البحث والدراسة وفق هذا المنهج:

1- الجمع بين الأدلة العقلية والنقلية، وبين الفروع الفقهية في دراسة القواعد الأصولية، وعدم الاقتصار على أحدهما.

2- الجمع بين فائدتين؛ فائدة تعود على الفقه، وذلك بذكر الفروع الفقهية، وفائدة تعود على القواعد الأصولية، وذلك بتمحيص أدلتها ومناقشتها.

3- استيعاب ما ألف على طريقتي المتكلمين والفقهاء.

4- سمة الاختصار في أغلب المؤلفات على هذه الطريقة.

منهج جديد

وهناك من علماء الأصول من سلك مسلكا مغايرا، ونهج نهجا متميزا في البحث والتأليف في علم الأصول، هذا المسلك يقوم على تناول مقاصد الشريعة العامة ومصالحها الكلية، هذه المقاصد وتلك المصالح إنما جاءت الشريعة لحمايتها ومراعاتها، وقد كانت بحوث أصول الفقه السابقة لا تعنى بهذا الجانب ولا تتناوله، ومن هؤلاء الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي؛ فقد اتجه الإمام الشاطبي إلى العناية بأسرار التشريع، وتوضيح مقاصد الشارع، ويعد كتابه من أعظم ما كتب في الأصول، كما يعد بدءا لمنهج جديد من الأصول يغاير المناهج القائمة من قبل.

مصادر الفقه الإسلامي

مصادر الفقه الإسلامي هي الأدلة التي نصبها الشارع دليلا على الأحكام، وهذه الأدلة بعضها محل إجماع بين العلماء وهي الكتاب والسنة والإجماع، والجمهور على اعتبار القياس دليلا رابعا.

يضاف إلى تلك المصادر التبعية ومنها: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف وغيرها، وقبل أن نتناول هذه المصادر بشيء من التفصيل ينبغي أن نبين أن هذه المصادر كلها في الحقيقة ترجع إلى مصدر واحد وهو الكتاب. فكل مصدر بعد ذلك منبعث منه ويعتمد عليه، ولذا كان الشافعي رحمه الله يقول: (إن الأحكام لا تؤخذ إلا من نص، أو حمل على نص).

المصادر الأصلية

أولا: الكتاب

فأما الكتاب وهو القرآن فإنه هو الأصل في التشريع الإسلامي، فقد بينت فيه أسس الشريعة، وأوضحت معالمها في العقائد تفصيلا وفي العبادات والحقوق إجمالا.

وهو في الشريعة الإسلامية أجل من مكانة الدستور في الشرائع الوضعية لدى الأمم.

والكتاب إنما يتناول بيان الأحكام بالنص الإجمالي، ولا يتصدى للجزئيات وتفصيل الكيفيات إلا قليلا، لأن هذا التفصيل يطول به ويخرجه عن أغراضه القرآنية. فقد ورد فيه الأمر مثلا بالصلاة والزكاة مجملا، ولم يفصل فيه كيفية الصلاة ولا مقادير الزكاة، بل فصلتها السنة بقول الرسول ﷺ وفعله.

وكذلك أمر القرآن بالوفاء بالعقود ونص على حل البيع وحرمة الربا إجمالا، ولكن لم يبين ما هي العقود والعهود الصحيحة المحللة التي يجب الوفاء بها وما الباطلة أو الفاسدة التي ليست محلا للوفاء، فتكفلت السنة أيضا ببيان أسس هذا التمييز. على أن القرآن قد تناول تفصيل جزئيات الأحكام في بعض المواضع كما في المواريث وكيفية اللعان بين الزوجين، وبعض الحدود العقابية والنساء والمحارم في النكاح، ونحو ذلك من الأحكام التي لا تتغير على مر الأيام.

وقد جاء في القرآن إحالة عامة على السنة النبوية في هذه التفصيلات بقوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر: 7]، ومن ثم كانت السنة مبينة للكتاب.

وقد اتفق المسلمون على أن القرآن مصدر من مصادر التشريع، وأن أحكامه واجبة الاتباع، وأنه المرجع الأول، ولا يلجأ أحد إلى غيره إلا إذا لم يجد ما يطلبه فيه، وأن دلالته على الأحكام قد تكون قطعية إذا كان اللفظ الوارد فيه يدل على معنى واحد ولا يحتمل غيره، وقد تكون ظنية إذا كان لفظه يحتمل الدلالة على أكثر من معنى.

ثانيا: السنة

يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن الرسول ﷺ من قول أو فعل أو تقرير. وهي بهذا المعنى مرادفة للفظ "الحديث". وقد تطلق على معنى الواقع العملي في تطبيقات الشريعة في عصر النبوة أي الحالة التي جرى عليها التعامل الإسلامي في ذلك العصر الأول.

والسنة تلي الكتاب رتبة في مصدرية التشريع من حيث إن بها بيان مجمله وإيضاح مشكله، وتقييد مطلقه وتدارك ما لم يذكر فيه.

فالسنة مصدر تشريعي مستقل مـن جهة لأنها قد يرد فيها من الأحكام ما لم يرد في القرآن، كميراث الجدة، فقد ثبت أن النبي ﷺ حكم بتوريث جدة المتوفى سدس المال. ولكن السنة من جهة أخرى يلحظ فيها معنى التبعية للقرآن؛ لأنها علاوة على كونها بيانا وإيضاحا له، فهي لا تخرج عن مبادئه وقواعده العامة حتى فيما تقرر من الأحكام التي لم يرد ذكرها في القرآن.

فمرجع السنة في الحقيقة إلى نصوص القرآن وقواعده العامة، والسنة بصورة عامة ضرورية لفهم الكتاب لا يمكن أن يستغني عنها في فهمه وتطبيقه، وإن كان فيها ما لا يتوقف عليه فهم الكتاب هذا التوقف.

والسنة تنقل نقلا بالرواية لانقضاء عصر الرسالة، وانقطاع مشافهة الرسول بوفاته ﷺ، لا يقبل منها في تشريع الأحكام الفقهية إلا ما كان صحيح الثبوت بشرائط ذلك. وقد تكفل علماء السنة بتمييز مراتب الأحاديث النبوية حيث قسموها إلى صحيح وحسن- وهما يقبلان في تشريع الأحكام - وضعيف أو موضوع - وهما غير مقبولين-.

ومن أشهر كتب السنة المعتمدة الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم، والسنن الأربعة لأبى داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة.

كما يحتل كل من موطأ مالك، ومسند أحمد بن حنبل مكانة هامة عند الفقهاء والمحدثين.

ولا خلاف في أن السنة مصدر للتشريع كما قدمنا، ولكن رتبتها في ذلك تالية لرتبة الكتاب، بمعنى أن الاحتجاج بالكتاب مقدم على الاحتجاج بالسنة، فإن المجتهد يبحث عن الحكم في الكتاب أولا، فإن وجده أخذ به وإن لم يجده تحول إلى السنة ليتعرف على الحكم فيها. دل على هذا الترتيب ما روى عن النبي ﷺ أنه قال لمعاذ: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: فبسنة رسول الله - الحديث.

وما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى القاضي شريح: (أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله). ولا يعرف مخالف لهذا.

ثالثا: الإجماع

الإجماع هو اتفاق الفقهاء المجتهدين في عصر على حكم شرعي معين. ولا فرق بين أن يكون هؤلاء المتفقون من فقهاء صحابة الرسول ﷺ بعد وفاته أو من الطبقات التي جاءت بعدهم.

والإجماع حجة قوية في إثبات الأحكام الفقهية ومصدر يلي السنة في المرتبة.

ودليل اعتباره في هذه المكانة من مصدرية التشريع مجموعة آيات وأحاديث تدل على أن إجماع الكلمة من أهل العلم والرأي حجة.

والإجماع في ذاته إذا انعقد على حكم لا بد أن يكون مستندا إلى دليل فيه، وإن لم ينقل الدليل معه، إذ لا يعقل أن تجتمع كلمة علماء الأمة الموثوق بهم تشهيا بلا دليل شرعي.

ولذلك إذا أراد المتأخرون معرفته إنما يبحثون عن وجوده وصحة نقله لا عن دليله، إذ لو وجب البحث عن دليله لكانت العبرة للدليل لا للإجماع بينما هو في ذاته حجة.

رابعا: القياس

القياس هو إلحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي لاتحاد بينهما في العلة.

والقياس يأتي في المرتبة الرابعة بعد الكتاب والسنة والإجماع من حيث حجيته في إثبات الأحكام الفقهية، ولكنه أعظم أثرا من الإجماع لكثرة ما يرجع إليه من أحكام الفقه؛ لأن مسائل الإجماع محصورة ولم يتأت فيها زيادة لانصراف علماء المسلمين في مختلف الأقطار عن مبدأ المشورة العلمية العامة، ولتعذر تحققه بمعناه الكامل فيما بعد العصر الأول.

أما القياس فلا يشترط فيه اتفاق كلمة العلماء، بل كل مجتهد يقيس بنظره الخاص في كل حادثة لا نص عليها في الكتاب أو السنة، ولا إجماع عليها.

ولا يخفى أن نصوص الكتاب والسنة محدودة متناهية، والحوادث الواقعة والمتوقعة غير متناهية، فلا سبيل إلى إعطاء الحوادث والمعاملات الجديدة منازلها وأحكامها في فقه الشريعة إلا عن طريق الاجتهاد بالرأي الذي رأسه القياس.

فالقياس أغزر المصادر الفقهية في إثبات الأحكام الفرعية للحوادث، وقد كان من أسلوب النصوص المعهودة في الكتاب والسنة أن تنص غالبا على علل الأحكام الواردة فيها، والغايات الشرعية العامة المقصودة منها، ليمكن تطبيق أمثالها وأشباهها عليها في كل زمن. ونصوص الكتاب معظمها كلي عام وإجمالي كما رأينا، فانفتح بذلك طريق قياس غير المنصوص على ما هو منصوص، وإعطاؤه حكمه عند اتحاد العلة أو السبب فيهما.

ووقائع القياس في فقه الشريعة الإسلامية لا يمكن حصرها، فإن منها يتكون الجانب الأعظم من الفقه، ولا يزال القياس يعمل باستمرار في كل حادثة جديدة في نوعها لا نص عليها.

ومن أمثلة ذلك أنه ورد في الشريعة نصوص كثيرة في أحكام البيع أكثر مما ورد بشأن الإجارة، فقاس الفقهاء كثيرا من أحكام الإجارة على أحكام البيع لأنها في معناه إذ هي في الحقيقة بيع المنافع.

وكذلك ورد في الشريعة الإسلامية نصوص وأحكام بشأن وصي اليتيم عينت وضعه الحقوقي ومسئوليته وصلاحيته، فقاس الفقهاء على أحكام الوصي أحكام متولي الوقف للشبه المستحكم بين الوظيفتين، كما قاسوا كثيرا من أحكام الوقف نفسه على أحكام الوصية.

المصادر التبعية

هناك مستندات أخرى شرعية لإثبات الأحكام الفقهية غير المصادر الأربعة الأساسية المتقدمة، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على اعتبارها مستندا صحيحا لإثبات الأحكام، غير أن تلك المصادر هي في الحقيقة تبعية متفرعة عن تلك المصادر الأربعة الأساسية، فلذا لم يعدها معظم العلماء زائدة عليها بل اعتبرت راجعة إليها.

وأهم تلك المصادر الفرعية التبعية مصدران:

أولا: الاستصلاح

الاستصلاح هو بناء الأحكام الفقهية على مقتضى المصالح المرسلة، وهي كل مصلحة لم يرد في الشرع نص على اعتبارها ولم يرد فيه نص على إلغائها. فهي إنما تدخل في عموم المصالح التي تتجلى في اجتلاب المنافع واجتناب المضار؛ تلك المصالح التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها بوجه عام، ودلت نصوصها وأصولها على لزوم مراعاتها والنظر إليها في تنظيم سائر نواحي الحياة، ولم يحدد الشارع لها أفرادا ولا أنواعا. ولذا سميت "مرسلة" أي مطلقة غير محدودة، فإذا كانت المصلحة قد جاء بها نص خاص بعينها ككتابة القرآن صيانة له من الضياع، وكتعليم القراءة والكتابة، فعندئذ تكون من المصالح المنصوص عليها لا من المصالح المرسلة، ويعتبر حكمها ثابتا بالنص لا بقاعدة الاستصلاح.

وإذا قام الدليل على إلغاء مصلحة معينة كالاستسلام للعدو مثلا، فقد يظهر أن فيه مصلحة حفظ النفس من القتل، ولكن هذه المصلحة لم يعتبرها الشارع، بل ألغاها لمصلحة أرجح منها وهي حفظ كرامة الأمة وعزتها، وبالتالي فهي تعتبر مصلحة ملغاة لا مصلحة مرسلة.

وعموما يمكن أن نقول إن العوامل التي تدعو الفقيه إلى الاستصلاح هي:

  1. جلب المصالح: وهي الأمور التي يحتاج إليها المجتمع لإقامة حياة الناس على أقوم أساس.
  2. درء المفاسد: وهي الأمور التي تضر بالناس أفرادا، أو جماعات سواء كان ضررها ماديا أو خلقيا.
  3. سد الذرائع: أي منع الطرق التي تؤدي إلى إهمال أوامر الشريعة أو الاحتيال عليها، أو تؤدى إلى الوقوع في محاذير شرعية ولو عن غير قصد.
  4. تغير الزمان: أي اختلاف أحوال الناس وأوضاع العامة عما كانت عليه، فكل واحد من هذا العوامل الأربعة يدعو إلى سلوك طريق الاستصلاح باستحداث الأحكام المناسبة المحققة لغايات الشرع ومقاصده في إقامة الحياة الاجتماعية على أصلح منهاج.

ومن أمثلة العمل بالاستصلاح ما أحدثه عمر بن الخطاب من إنشاء الديوان لضبط عطاء الجند وأرزاقهم ومدة خدمتهم، ثم عمت الدواوين في مصالح أخرى.

ومن هذا القبيل أيضا في عصرنا الحاضر تنظيم السير في الطرق الداخلية والخارجية بأنظمة خاصة بعد حدوث السيارات، منعا للدهس والاصطدام وصيانة لأرواح الناس.

ثانيا: العـرف

العرف هو الشيء المعروف المألوف المستحسن الذي تتلقاه العقول السليمة بالقبول، ومنه قوله تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ [الأعراف: 199]. ويفهم من هذا التعريف أنه لا يتحقق وجود العرف في أمر من الأمور إلا إذا كان مطردا بين الناس في المكان الجاري فيه، أو غالبا بحيث يكون معظم أهل هذا المكان يرعونه ويجرون على وفقه، فيجب أن يتحقق في تكوين العرف اعتقاد مشترك بين الجمهور، وهذا لا يكون إلا في حالة الاطراد أو الغلبة على الأقل، وإلا كان تصرفا فرديا لا عرفا.

والشريعة الإسلامية جاءت فأقرت كثيرا من التصرفات والحقوق المتعارفة بين العرب قبل الإسلام، وهذبت كثيرا، ونهت عن كثير من تلك التصرفات. كما أتت الشريعة بأحكام جديدة استوعبت بها تنظيم الحقوق والالتزامات بين الناس في حياتهم الاجتماعية على أساس وفاء الحاجة والمصلحة والتوجيه إلى أفضل الحلول والنظم، لأن الشرائع الإلهية إنما تبغي بأحكامها المدنية تنظيم مصالح البشر وحقوقهم، فتقر من عرف الناس ما تراه محققا لغايتها وملائما لأسسها وأساليبها.

ومعظم العلماء يستدلون على مكانة العرف الفقهية في بناء الأحكام الشرعية بأثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".

والاجتهادات الفقهية في الإسلام متفقة على اعتبار العرف وإن كان بينها شيء من التفاوت في حدوده ومداه.

وقد أقام الفقهاء - وبخاصة رجال المذهب الحنفي- كبير وزن للعرف في ثبوت الحقوق وانتهائها بين الناس في نواحي شتى من المعاملات، وضروب التصرفات. واعتبروا العرف والعادة أصلا هاما ومصدرا عظيما واسعا تثبت الأحكام الحقوقية بين الناس على مقتضاه في كل ما لا يصادم نصا تشريعيا خاصا يمنعه، فالعرف دليل شرعي كاف في ثبوت الأحكام الإلزامية والالتزامات التفصيلية بين الناس، حيث لا دليل سواه، بل إنه يترك به القياس إذا عارضه لأن القياس المخالف في نتيجته للعرف الجاري يؤدى إلى حرج، فيكون ترك الحكم القياسي والعمل بمقتضى العرف هو من قبيل الاستحسان المقدم على القياس.

أما إذا عارض العرف نصا تشريعيا آمرا بخلاف الأمر المتعارف عليه، كتعارف الناس في بعض الأوقات على تناول بعض المحرمات كالخمور وأكل الربا، فعرفهم مردود عليهم لأن اعتباره إهمال للنص القاطع، واتباع للهوى وإبطال للشرائع.

دراسة الفقه الإسلامي وأصوله

لقد تكلم العلماء على تدرج الطالب في دراسة الفقه، وما يجدر به أن يتعلمه في كل مرحلة من مراحل الطلب. وفي الجملة فقد اختار العلماء طريقة التفقه على مذهب من المذاهب الفقهية، ليكون أرسخ في التأسيس للطالب قبل أن ينفتح على المذاهب الأخرى أو الفقه المقارن أو فقه الدليل. ولما كنا قد استعرضنا تاريخ المذاهب الفقهية آنفا، فإننا نورد كلاما جامعا للعلامة ابن بدران الحنبلي فيما ينبغي على المتفقه على أحد المذاهب الأربعة قراءته من الكتب، يقول: (وحيث إن كتابي هذا مدخل لعلم الفقه أحببت أن أذكر من النصائح ما يتعلق بذلك العلم فأقول: لا جرم أن النصيحة كالفرض وخصوصا على العلماء. فالواجب الديني على المعلم إذا أراد إقراء المبتدئين أن يقرئهم أولا كتاب "أخصر المختصرات" أو "العمدة" للشيخ منصور متنا إن كان حنبليا، أو "الغاية" لأبي شجاع إن كان شافعيا، أو "العشماوية" إن كان مالكيا، أو "منية المصلي" أو "نور الإيضاح" إن كان حنفيا.

ويجب عليه أن يشرح له المتن بلا زيادة ولا نقصان بحيث يفهم ما اشتمل عليه ويأمره أن يصور مسائله في ذهنه، ولا يشغله بما زاد على ذلك… فلا ينبغي لمن يقرأ كتابا أن يتصور أنه يريد قراءته مرة ثانية؛ لأن هذا التصور يمنعه عن فهم جميع الكتاب، بل يتصور أنه لا يعود إليه مرة ثانية أبدا… وكل كتاب يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة فحقق مسائل ما دونه لتوفر جدك على فهم الزيادة.

فإذا فرغ الطالب من فهم تلك المتون نقله الحنبلي إلى "دليل الطالب"، والشافعي إلى "شرح الغاية"، والحنفي إلى "ملتقى الأبحر"، والمالكي إلى "مختصر خليل"، وليشرح له تلك الكتب على النمط الذي أسلفناه فلا يتعداه إلى غيره، لأن ذهن الطالب لم يزل كليلا ووهمه لم يزل عنه بالكلية.

ثم إذا شرح له تلك الكتب وكان قد اشتغل بفن العربية أوقفه هنالك وأشغله بشرح أدنى مختصر في مذهبه في فن أصول الفقه، كـ"الورقات" لإمام الحرمين وشرحها للمحلي دون ما لها من شرح الشرح لابن قاسم العبادي والحواشي التي على شرحها، فإذا أتمها نقله إلى مختصر التحرير إن كان حنبليا مثلا ويتخير له من أصول مذهبه ما هو أعلى من "الورقات" وشرحها.

فإذا أتم شرح ذلك أقرأه الحنبلي "الروض المربع بشرح زاد المستنقع"، والحنفي "شرح الكنز" للطائي، والمالكي أحد شروح "متن خليل" المختصرة، والشافعي "شرح الخطيب الشربيني للغاية"، ولا يتجاوز الشروح إلى حواشيها ولا يقرئها إياه إلا بعد اطلاعه على طرف من فن أصول الفقه.

واعلم أنه لا يمكن للطالب أن يصير متفقها ما لم تكن له دراية بالأصول، ولو قرأ الفقه سنينا وأعواما، ومن ادعى غير ذلك كان كلامه إما جهلا وإما مكابرة، فإذا انتهى من هذه الكتب وشرحها شرح من يفهم العبارات ويدرك بعض الإشارات، نقله الحنبلي إلى "شرح المنتهى" للشيخ منصور، و"روضة الناظر وجنة المناظر" في الأصول، والشافعي إلى "التحفة" في الفقه، و"شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي" في الأصول، والمالكي إلى "شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي" و"شرح أقرب المسالك لمذهب مالك"، والحنفي إلى "الهداية" و"شرح المنار" في الأصول، فإذا فرغ من هذه الكتب وشرحها بفهم واتقان قرأ ما شاء وطالع ما أراد فلا حجر عليه بعد هذا.

واعلم أن للمطالعة وللتعليم طرقا ذكرها العلماء، وإننا نثبت هنا ما أخذناه بالتجربة… فاعلم أننا اهتدينا بفضله تعالى أثناء الطلب إلى قاعدة: وهي أننا كنا نأتي إلى المتن أولا فنأخذ منه جملة كافية للدرس، ثم نشتغل بحل تلك الجملة من غير نظر إلى شرحها، ونزاولها حتى نظن أننا فهمنا، ثم نقبل على الشرح فنطالعه المطالعة الأولى امتحانا لفهمنا، فإن وجدنا فيما فهمناه غلطا صححناه، ثم أقبلنا على تفهم الشرح على نمط ما فعلناه في المتن، ثم إذا ظننا أننا فهمناه راجعنا حاشيته إن كان له حاشية مراجعة امتحان لفكرنا، فإذا علمنا أننا فهمنا الدرس تركنا الكتاب واشتغلنا بتصوير مسألة في ذهننا فحفظناه حفظ فهم وتصور لا حفظ تراكيب وألفاظ.

ثم نجتهد على أداء معناه بعبارات من عندنا غير ملتزمين تراكيب المؤلف، ثم نذهب إلى الأستاذ للقراءة، وهنالك نمتحن فكرنا في حل الدرس ونقوم ما عساه أن يكون به من اعوجاج ونوفر الهمة على ما يورده الأستاذ مما هو زائد على المتن والشرح.

وكنا نرى أن من قرأ كتابا واحدا من فن على هذه الطريقة سهل عليه جميع كتب هذا مختصراتها ومطولاتها، وثبتت قواعده في ذهنه وكان الأمر على ذلك).

وقد اختلف أهل العلم هل تقدم دراسة الفقه على الأصول أم العكس، والمختار البدء بتعلم الفروع أي الفقه، لأن (من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها لا يمكنه الوقوف على ما يبتغى بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها، ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها).

وإذا نظرنا إلى واقع الأمر، وجدنا ان الناس جروا منذ القدم على تقديم تعلم جملة من الفروع على تعلم الأصول. كما أن الفروع من جملة ما يستمد منه الأصولي مادته، لحاجة الأصولي إليها للتمثيل والتطبيق، وما يستمد منه الشيء يكون متقدما على ذلك الشيء. كما أن تعلم الفروع يحصل به التدرب والمران على الاستفادة من الأصول عند تعلمها. 

وأمر آخر، وهو أن أصول الفقه من علوم الوسائل، والفقه هو أحكام الشريعة التي تلزم المكلف فهي من علوم الغايات، لذا يبتدئ المكلف بتعلم الأحكام الواجبة من عبادات ومعاملات، فهي فرض عين عليه لكي تصح عباداته ومعاملاته.

لهذا كان الأولى تقديم تعلم جملة من الفروع على تعلم الأصول. وإذا أراد أن يخرج عن طور المبتدئ في تعلم الفقه إلى طور المتبع الناظر في الأدلة، ثم إلى طور الفقيه القادر على الاستنباط، فيجب عليه أن يتعلم الأصول ليكون قادرا على فهم الأدلة وأوجه الاستنباط ثم الاستنباط بنفسه.

وقد أرشد بعضهم إلى التدرج في دراسة الفقه على خمس مراحل نوردها فيما يلي.

خمس مراحل لدراسة الفقه

هذه طريقة مقترحة في دراسة الفقه، تصلح كلُّ مرحلة أن تعدّ طريقة برأسها، فيمكن لطبقةٍ معينة من الدارسين أن تقتصر على طريقة منها، إن كانت القدرات الذاتية أو العمل أو التخصص أو الوقت لا يسمح بمواصلة دراسة المراحل جميعها.

كما يمكن في الوقت نفسه لمن تجاوز مرحلةً ما أن ينتقل إلى التي بعدها، ليرتقي في مدراج التفقه ليبلغ الغاية بإذن الله.

المرحلة الأولى

دراسة كتاب كامل في الفقه، ويُراعى أن يكون مختصراً، سواء كان فقها مذهبيًّا أو ليس كذلك، ويفضل دراسته على عالم ما أمكن، فإن لم يمكن فبالاستماع إلى أشرطة تشرحه وهي كثيرة، وإن لم يتيسّر فبقراءته مع أحد شروحه وتدوين ما أشكل أو بَعُد عن الفهم للسؤال عنه عبر وسائل الاتصال المختلفة. ولن يعدم الباحث عن العلم من مرشد.

المرحلة الثانية

الرجوع لدراسة الكتاب نفسه مع أحد شروحه، أو دراسة كتاب آخر أوسع منه بشكل أعمق، ويركز في هذه المرحلة على نوعين من المسائل:

1- كتاب العبادات؛ لأنه لا يخلو كل إنسان من التكليف بها.

2- التركيز على ما يهمه من مسائل المعاملات ونحوها، وتأخير دراسة ما لا يحتاج إليه، فمثلاً كتاب "العتق، والقضاء، والشهادات، والإقرار، ولا الحدود..." لا يحتاج إلى النظر فيها وتطبيقها غالب الناس. ودراسة مسائل هذه المرحلة ترتكز على أمرين: تصور المسائل بشكل واضح، ومعرفة الفرق بين المسائل، ثم معرفة الراجح من الأقوال المختلفة بدليله وتعليله والإجابة عن الاعتراضات الواردة على الترجيح.

المرحلة الثالثة

بعد هذه المرحلة على الدارس أن يُعنى بتحرير المسائل، فيختار طائفة منها ليكتب فيها بحوثًا موسّعة يستقصي فيها الأقوال والأدلة والمناقشة والترجيح. ويمكن أن يركز على رؤوس المسائل أو ما كثر الخلاف حوله.

وفائدة هذه البحوث: تكوين المَلَكة الفقهية والتمرّس على النظر في المسائل، الذي يفضي إلى قضية مهمة وهي معرفة الراجح في هذه المسائل باطمئنان معتمداً على النظر الخاص والاجتهاد الشخصي.

المرحلة الرابعة

في هذه المرحلة يعنى بدراسة ترجيحات واختيارات العلماء المحققين المجتهدين، الذين ربطوا الفقه بأصوله، وحرروا الأصول والقواعد؛ كابن تيمية وابن القيم وابن رجب والشوكاني والأمين الشنقيطي والمعلمي وغيرهم.

المرحلة الخامسة

العناية بالدراسات المعاصرة التي تتميز بالقوة العلمية وتأصيل المسائل، أو تُعنى بالمسائل المشكلة وحلها، أو تعنى بفقه النوازل المختلفة.

ومن وصل إلى المرحلة الثالثة فما بعدها؛ فلا بدّ له من الاهتمام بعدة علوم مساعدة لا تكتمل آلة الفقيه المجتهد إلا بها، وهي ثلاثة علوم: علم الحديث، وعلوم اللغة، وعلم أصول الفقه. وكلما حقق هذه العلوم وتعمق في مسائلها انعكس إيجاباً على دارس المتفقه والعالم.

أسئلة وأجوبتها

لماذا قسم الفقهاء الأحكام إلى الأحكام الخمسة؟

قد يقول قائل: إن الرسول ﷺ كان يأمر وينهى دون أن يفصل بالمراتب المعروفة لدى الفقهاء من واجب وسنة ومندوب ومكروه وغيرها، فلا حاجة لهذا التفصيل. ويمكن الجواب عن هذا بأنه غدت الحاجة للتفصيل لأسباب منها:

- أن مبنى حال الشارع على التعليم والتذكير معا: ﴿إنما أنت مذكر﴾ [الغاشية: 21]، فكان يعبر بما هو أدعى للعمل وأبعد عما يوجب الكسل، والصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أمروا بشيء أخذوا بجميع مراتبه، وإذا نهوا عنه تركوه بالكلية، فلم تكن حاجة إلى البحث.

وهذا هو التعليم الفطري، فإن أكثر تعليماته ﷺ مستفاد من عمله، فما أمر به الناس عمل به أولا ثم تعلم منه الناس. ولذا لم يحتاجوا إلى التعليم والتعلم. ولو كان طريقه كما في زماننا لما شاع الدين إلى الأبد، ولكنه علم الناس بعمله ثم إذا قال لهم أمرا اختار فيه الطريق الفطري أيضا وهو الأمر بالمطلوب والنهي عن المكروه ولم يبحث عن مراتبه، قال تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر: 7]، فهذا هو السبيل الأقوم.

أما البحث عن المراتب فهو طريق مستحدث سلكه العلماء لفساد الزمان، وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم إذا أمروا بشيء أخذوه بجميع مراتبه وإذا نهوا عنه تركوه بالكلية، فلم تكن لهم حاجة إلى البحث.

ولو كان الشارع تعرض إلى المراتب لفاته منصب المذكر ولانعدم العمل، فإنه إذا جاء البحث والجدل لبطل العمل، فإنه قال في بعض المناهي: من فعل كذا فقد كفر، وكره أحمد بن حنبل تأول مثل هذه الأحاديث وإن كان الإجماع على أن منها ما هو كبيرة لا تخرج من الملة. ولم يقل ﷺ فعل فعل الكفر أو مستحلا أو قارب الكفر، لأنه لو قال كذلك لفات غرضه من التشديد ولانعدم العمل؛ ولذا كان السلف يكرهون تأويله.

فالحاصل أنه إذا أمرنا بشيء فكأنه يريد العمل به بأقصى ما يمكن بحيث لا تبقى مرتبة من مراتبه متروكة وكذلك في جانب النهي؛ ولذا كان يقول عند البيعة: «فيما استطعتم»، فبذل الجهد والاستطاعة لا يكون إلا إذا أجمل الكلام، وإذا فصل يحدث التهاون كما هو مشاهد في عمل العوام.

- أن هذه المراتب للأحكام ليست عقلية، وإنما أخذت بالنظر المستفيض في نصوص الشرع، وقوة دلالتها على الأحكام، فأريد بها التعبير عن مقصود الشارع في الالتزام بهذه الأحكام. ومن المعلوم أن الشارع إذا نهى عن أمر ثم رأيناه من فعله (كالشرب قائما مثلا) فإن هذا النهي ليس مشددا كالمناهي التي يقترن بها الوعيد والقطع.

- حفظا لعلوم الدين بعدما توسعت رقعة الإسلام.

- تسهيلا على المتعلمين لأحكام الشريعة والمطبقين لها.

- تباين العلوم والتخصص في كل منها، فكانت وظيفة الفقيه هي بيان التفاريع الفقهية وحكمها على ما اصطلح عليه بدقة متناهية.

- أن لكل فن وعلم اصطلاحاته الخاصة به التي تزداد كلما نما هذا العلم، وعلم الفقه كغيره برز وظهر بعدما كان مختلطا بغيره في بداية الإسلام، وكان لا بد لتميزه من ظهور ألفاظ خاصة به بينها أهله.

- فساد الزمان وقلة العمل وكثرة السؤال من الناس، بخلاف عصر الرسول ﷺ فإنه كان عصر صلاح وفلاح بفضل بركة النبي ﷺ، ويشهد له قوله ﷺ: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد ويحلف الرجل ولا يستحلف». وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله ﷺ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام﴾ [البقرة: 217] ﴿ويسألونك عن المحيض﴾ [البقرة: 222] قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

وأجاب العلامة محمد الحسن الحجوي الفاسي عن كيفية أخذ الفقهاء الأحكام الخمسة من القرآن بكلام طويل وفيه: (غير خفي أن القرآن ليس من الأوضاع البشرية الموضوعة لبيان علم من العلوم بمصطلحاته، بل هو كلام الله الذي أنزله على عبده لينقذ الناس من الظلمات إلى النور، جعله في أعلى طبقات البلاغة ليحصل الإعجاز وتثبت النبوة، وساقه مساق البشارة والإنذار والوعظ والتذكير ليكون مؤثرا في النفوس رادعا لها عن هواها سائقا لها بأنواع من التشويق إلى الطاعة وترك المعصية، والفصاحة من أعظم المؤثرات على عقول البشر بتنوع العبارة التي تؤدي بها تلك الأحكام. ومن طبيعة البشر أن يمل من عبارة واحدة ولا يحصل بها التأثير المطلوب، فلو قيل في كل مسألة: هذا واجب، هذا مندوب، هذا حرام، هذا مكروه، هذا جائز، لتكرر اللفظ ولم يكن هناك الفصاحة المؤثرة، فلذلك تجد القرآن تارة يعبر ببعض الألفاظ المصطلح عليها كالحرمة والحلية، قال تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ [المائدة: 3] ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾ [النساء: 24]، ويعبر بالوجوب بمادة فرض: ﴿قد علمنا ما فرضنا عليهم﴾ [الأحزاب: 50]).

لماذا يجب اتباع فقهاء الأمة والعلماء المجتهدين؟

إن دور الفقيه لا يتجاوز استخراج واستنباط وبيان الأحكام من الكتاب والسنة بفهمه القويم، قال الكوثري: (أحكام الشرع هي ما فهمه الصحابة والتابعون وتابعوهم من كتاب الله وسنة رسول ﷺ على موجب اللسان العربي المبين، وعمل الفقهاء إنما هو الفهم من الكتاب والسنة، وليس لأحد سوى صاحب الشرع دخل في التشريع مطلقا، ومن عد الفقهاء كمشرعين وجعلهم أصحاب شأن في التشريع فقد جهل الشرع والفقه في آن واحد، وفتح من جهله باب التقول لأعداء الدين.

وأما المتأخرون من الفقهاء فليس لهم إلا أن يتكلموا في نوازل جديدة، لا أن يبدوا آراء في الشرع على خلاف ما فهمه من النصوص رجال الصدر الأول الذين هم أهل اللسان، المطلعون على لغة التخاطب بين الصحابة قبل أن يعتريها تغيير وتحوير، والمتلقون للعلم عن الذي شهدوا الوحي، فما فهموه من الشرع فهو المفهوم، وما أبعدوه عن أن يكون دليلا بعيد عن أن يتمسك به، وإنما الكلام فيما لم يتكلموا فيه أو اختلفوا في حكمه).

إن هذه الآراء لا بد أن تكون معتمدة على نص شرعي من كتاب الله أو سنة رسول الله ﷺ، حتى إن الآراء المعتمدة على الإجماع والقياس وغيرها من الأدلة المساندة لا بد أن ترجع إلى كتاب الله أو سنة رسوله. فالإجماع مثلا لا بد أن يكون له سند من نص قرآني أو سنة مقبولة، والأحكام النابعة من القياس لا بد أن ترجع إلى أصل من الكتاب أو السنة، لأن القياس هو إلحاق مسألة لم يرد فيها نص بمسألة أخرى ورد فيها نص لإثبات حكم شرعي لجامع بينهما، وهذا الجامع هو العلة، وهكذا.

وبهذا يبطل التفريق المزعوم بين الفقه والدين، باعتبار أن الأول نتاج بشري والثاني شرع إلهي! يقول الكوثري: (مع أن الفقه ما هو إلا معرفة الدين، فلا تتصور مغايرة علم الدين للدين ولا مخالفة العلم لمعلومه، إلا عند من لا يميز بين الأشخاص فضلا عن المعاني بغفوته، ولا بين المقدم والمؤخر ببالغ غفلته… أم يمكن أن يرى عاقل تنافي الشيء والعلم به؟ ليمكنه إنكار فقه الدين مطلقا بدون إنكار الدين؟ وهذا مبدأ إليه المنتهى في السخف).

ومن حكمة الله تعالى أن تعبدنا بالاجتهاد فيما ليس فيه نص، ولذلك حكم كثيرة منها:

- أنه لو وجد نص في كل مسألة فقهية لعظم حجم القرآن أو السنة بصورة يصعب حفظها.

- أن كثيرا من المسائل الفقهية متغيرة ومستجدة على حسب الزمان والمكان، فلو ذكرت النصوص مفصلة لكانت سببا للطعن في القرآن والسنة، فمثلا وجد في زماننا الطائرات والسيارات والاتصالات فلو ذكرت أحكامها في العصور الأولى التي لا يتصور أمثال هذه الأشياء لكانت مطعنة كبيرة في الشرع. 

- الرحمة بالأمة في وجود سعة في الآراء والاجتهادات، ولذلك لما صنف أحدهم كتابا سماه كتاب "الاختلاف"، قال له أحمد رحمه الله: سمه "كتاب السعة". ولذلك كانت الأحكام التي هي أساس الدين سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأمور العملية قد وردت في آيات محكمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون هذه الأمور ثابتة على مر العصور كأكثر أحكام المواريث، وأصول أحكام الأحوال الشخصية، وآيات الحدود والقصاص. أما المسائل القابلة للتطور فقد جاء القرآن الكريم في شأنها موضحا الخطوط الرئيسة، وكانت محلا لاختلاف الأنظار. واختلاف النظر ـ إذا لم يكن مبنيا على الهوى والتشهي ـ فهو رحمة للأمة. 

- رفع شأن العلماء ومنزلتهم، والتفاضل بين المسلمين على أساس العلم والفقه والاجتهاد.

ومع ذلك لو جاءت النصوص الشرعية كلها قطعية لقال قائلهم: هلا كان لنا مجال للاجتهاد حتى لا تجمد عقولنا، ونصبح أمام نصوص جامدة.

ما موقف المسلم من المذاهب الفقهية الأربعة؟

لقد أثار كثير من العلماء السؤال التالي: هل يجب على المستفتي أن يكون استفتاؤه بموجب مذهب معين؟ أم يجوز له الاستفتاء وفق أي مذهب شاء؟ وقد أجابوا عن هذا السؤال بأن الجواب مبني على مسألة أخرى، هي: هل يجب على العامي أن يتقيد بمذهب معين بعزائمه ورخصه، ويستغني بموجبه أم لا يجب عليه ذلك؟ وإذا انتسب إلى مذهب معين والتزم به واستفتى بموجبه، فيما قيمة انتسابه والتزامه هذا في كيفية استفتائه؟

وقد تعرض الأمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي لهذا السؤال وما ابنتي عليه، فقال ما خلاصته: 

إن العامي إما أن يكون منتسبا إلى مذهب معين وإما أن لا يكون، ولكل حالة حكمها على النحو التالي:

الحالة الأولى: أن يكون منتسبا إلى مذهب معين: وفي هذه الحالة قولان للعلماء:

القول الأول: إن انتسابه لمذهب معين لا يجعله ملتزما به؛ لأن المذاهب إنما تكون لمن يعرف الأدلة، والعامي لا معرفة له بها، وعلى هذا له أن يستفتي من شاء من المفتين وعلى أي مذهب يفتيه المفتي.

القول الثاني: إن انتساب العامي إلى مذهب معين هو انتساب معتبر في حقه ملزم له؛ لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بما اعتقده والتزم به. ورتبوا على ذلك أن عليه أن يستفتي من يفتيه بموجب مذهبه.

الحالة الثانية: عدم انتساب العامي إلى مذهب معين، وفي هذه الحالة قولان عند العلماء:

القول الأول: لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين، وبالتالي لا يلزمه أن يستفتي بموجب مذهب معين، بل له أن يستفتي أي عالم، ويأخذ بفتواه على أي مذهب جاءت فتواه. ودليل هذا القول أن السلف الصالح لم يلزموا العامي بتقليد علم معين ولزوم استفتائه دون غيره، بل كانوا يبيحون له استفتاء أي عالم شاء.

القول الثاني: يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين فيأخذ بعزائمه ورخصه ويستفتي بموجبه، واحتج أصحاب هذا القول بأنه لو جاز للعامي اتباع أي مذهب شاء لأدى ذلك إلى التقاط رخص المذاهب اتباعا لهواه، وهذا مسلك من شأنه أن يؤدي إلى الانحلال عن التكاليف الشرعية والتلاعب بالأحكام، ولا خلاص من هذه الفوضى إلا بإلزام العامي بالانتساب إلى مذهب معين والاستفتاء بموجبه فقط، وقالوا عن حجة أصحاب القول الأول بأن المذاهب لم تكن قد مهدت وحررت وعرفت في عهد السلف الصالح، ومن ثم أباحوا عدم التقيد بمذهب معين، ثم خلص أصحاب هذا القول إلى ضرورة الانتساب إلى مذهب معين يختاره بعد التحري والسؤال عن المذهب الأصلح، ويمكن أن يعرف ذلك بالسؤال كما قلنا، وبالشهرة وشيوع المذهب، ونحو ذلك، فإذا ما انتسب إلى مذهب معين كان عليه أن يستفتي بموجبه، ولا يستفتي وفق غيره.

القول الراجح في المسألة:

والراجح في المسألة التفصيل بعد ذكر بعض المقدمات على النحو التالي:

أ- إن الواجب على كل مسلم أن يعرف حكم الله فيما يلزمه من أمور، كما ورد في الكتاب والسنة وبالاستنباط الصحيح منهما، أو من المصادر التي أشارت إليها نصوص الكتاب والسنة.

ب- والأصل أن المسلم - ما دام قادرا على الاجتهاد - أن يعرف حكم الله تعالى عن طريق البحث والنظر في معاني القرآن والسنة، وفيما دلت عليه نصوصهما من أدلة الاستنباط، وبهذا تكون معرفته للأحكام مبنية على الدليل والبرهان، وهي المعرفة التي أمر بها الشرع الشريف.

ج- وللمسلم القادر على البحث والاجتهاد أن يأخذ بمناهج المجتهدين في البحث والاستنباط ما دامت تلك المناهج سائغة وجائزة الاتباع بموجب الدليل والبرهان، وإن تفاضلت فيما بينها بالجودة والقرب من الصواب وبالأولوية بالاتباع.

د- وإذا كان المسلم عاجزا عما تقدم، فعليه أن يستعين بأهل العلم ليدلوه على أحكام الشرع ويقلدهم بما يقولون، باعتبار أن ما يخبرونه به هو حكم الشرع، والله تعالى أمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم، وفائدة السؤال هو الأخذ بجواب أهل العلم والعمل به، وإلا لم يكن للسؤال فائدة ولا معنى، وهذا ما ينزه عنه الشارع الحكيم.

هـ- وللمسلم العاجز عن الاجتهاد أن يستعين بكتب العلماء الموثوقة والمشهود لأصحابها بالإمامة بالدين، مثل أصحاب المذاهب المعروفة، فيتفقه بها ويتخرج عليها، ويأخذ بما فيها باعتبار أن ما فيها هي أحكام الشرع التي وصل إليها أصحابها، وهم علماء فقهاء أهل لمعرفة أحكام الشرع.

وإذا تفقه المسلم بفقه هذه المذاهب وانتسب إلى أحدها، فقيل عنه: إنه شافعي أو حنفي، فإن هذا الانتساب يعني: تفقه بفقه هذا المذهب، واتخاذه دليلا وهاديا له إلى أحكام الشرع، فالمذهب بحقه كاشف له عن أحكام الشرع، وليس مصادما للشرع، وعلى هذا الأساس انتسب إليه.

ز- وعلى هذا، فإذا تبين لهذا المنتسب أن مذهبه لم يوفق في الدلالة إلى الصواب في مسألة معينة، وأن الصواب فيها عند غير هذا المذهب، وبالتالي اتبع غير مذهبه في هذه المسألة، فهو في هذا المسلك محسن غير مسيء، ولهذا نقل عن أصحاب المذاهب أن كل واحد منهم قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط.

لأن الحديث هو القول الحق، وفيه حكم الله فيلزم اتباعه، ويقاس على قولهم هذا كل قول صحيح ظهرت صحته بالدليل والبرهان، فيلزم اتباعه وهجر ما خالفه.

ح- وبناء على ما تقدم يجوز للمسلم أن ينتسب إلى مذهب معين، فيدرسه ويتفقه به باعتباره مظنة الصواب، ويستفتي بموجبه، كما يجوز للعامي أن لا ينتسب إلى مذهب معين، وإنما يتعلم ما يلزمه من أحكام الشرع بسؤال أهل العلم عنها ابتداء، أو عند نزول الحادثة به، ولهذا العامي غير المنتسب إلى مذهب معين أن يستفتي دون تقيد بأي مذهب، فإذا استفتى بمذهب معين فإن استفتاءه هذا يمكن توجيهه وتصحيحه باعتبار أن هذا العامي اعتقد أن هذا المذهب أولى من غيره بالاتباع، وكما يجوز لغير المنتسب لمذهب أن يستفتي دون تقيد بمذهب، فإن المنتسب هو الآخر له أن يستفتي دون تقيد بمذهب، وتوجيه ذلك أنه يريد معرفة حكم الشرع كما يدله عليه هذا المفتي الذي هو أعلم منه، ولذلك جاء يستفيته.

ط- والخلاصة: فإنه في جميع الأحوال يسع العامي الذي لم يصل إلى رتبة الاجتهاد أن يستفتي دون تقيد بمذهب معين، وإنما يسأل عن حكم الشرع، سواء كان هذا العامي منتسبا إلى مذهب معين أو غير منتسب، وسواء تفقه على مذهب معين أو لم يتفقه، فيقول للمفتي: ما حكم الشرع في كذا وكذا؟ وهذه صيغة صحيحة سليمة، أما السؤال بمذهب معين فغايته أنه سائغ وجائز على التوجيه الذي بيناه.

لكن المسلم عموما لا يسعه العمل في الأحكام الشرعية برأيه لأن هذا اتباع للهوى مذموم. وإذا قلنا إنه "يسعه" التمذهب فهذا لا يعني أنه "يسعه" ألا يرجع إلى العلماء أو "يسعه" التخير بين العلماء والمفتين وأو النظر في أقوالهم بمجرد الرأي؛ بل الواجب على غير المجتهد اتباع المجتهد الأعلم والأتقى لله، وأن يتقي الله ما استطاع في البحث عن العالم الثقة، ويعرف ذلك بالشيوع والاستفاضة والأمارات الظاهرة ونحوها.

لماذا ألغى عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم وحد السرقة في عام المجاعة؟

قال تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾ [التوبة: 60]، فقد أناط الله تعالى الزكاة بثماني فئات من الناس منهم الذي تتألف قلوبهم من الداخلين حديثا في الإسلام لما فيه من استجلاب لقلوبهم، فالمؤلفة قلوبهم أي الذين تستجلبون قلوبهم بالألفة والمودة، فاستجلاب قلوبهم ليس حكما ثابتا بالشرع، وإنما هو مناط لحكم علقه الله عليه، فكلما تحقق هذا المناط تحقق الحكم المتعلق به، وهو إعطاؤهم من الزكاة، وكلما فقد سقط ما علق عليه، فوصف التعليق للقلب شأنه كوصف الفقر والعمل على جمع الزكاة والجهاد في سبيل الله في أنها هي مناط استحقاق الزكاة في تلك الأصناف لا أعيانهم المجردة. 

فكان اجتهاد عمر رضي الله عنه معلقا بتحقيق المناط، فقد رأى أن الإسلام وصل شأنه إلى القمة في القوة والمنعة في جميع مناحيه حتى صار فخرا لمن ينتسب إليه، فعزته بالإسلام الذي خيم على الأرض فيه استجلاب لقلبه أكثر مما سيقدم له من مال، فلم يعد لدفع المال لهم من الزكاة حاجة. إذ انعدام الحكم لعدم المعنى الداعي إليه لا بالناسخ فانتهاء شرعية إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة بانتهاء سببه، وهو ضعف المسلمين وحصول إعزاز الدين به، فإن تأليفهم على الإسلام بإعطاء المال ودفع أذاهم عن المسلمين به كان إعزازا للدين في ذلك الزمان فلما قوي أمر الإسلام كان إعطاؤهم دنية في الدين لا إعزازا له فانتهى بانتهاء سببه.

أما حد السرقة فقد قال تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ [المائدة: 38]. وهذه الآية من قبيل العام الذي له مخصصاته، كأن يبلغ النصاب المقدر للقطع عليه، وأن يكون المكان المأخوذ منه خفية، وأن لا يكون في المال شبهة حق للسارق، فالتمسك بظاهر الآية وحدها دون النظر إلى ما يتعلق بها من مخصصات ومبينات في السنة الصحيحة إنما هو تنكب عن جملة الدليل.

فما فعله عمر رضي الله عنه هو إيقاف الحد لوجود الشبهة وهي المجاعة؛ لأن للمضطر أن يأخذ من مال غيره ما يسد ضرورته ولو من دون إذنه، وفي القاعدة المشهورة: الضرورات تبيح المحظورات.

وبعد،

فإن دراسة محور الفقه هو ثمرة لسلوك درب القرآن والاهتداء بنوره، وهو الدليل الأول، وهو معني بفقه أحكام الشريعة وممهد لدراسة تاريخ الأمة وواقعها المعاصر، كما هو في الأدلة التالية. فهنيئا لك أخي القارئ دليلا هاديا تستضيء به، وموردا عذبا زلالا تنهل منه فتصدر ريان من علوم الشريعة أصولا وفروعا.