مدخل إلى دراسة

دليل القرآن وتفسيره

مدخل دراسة القرآن

مقدمة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛ فقد قضت حكمة الله تعالى أن يجعل في الأرض خليفة من بني آدم: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ [البقرة: ٣٠]. ثم إنه تعالى لما علم أن خلافة بني آدم في الأرض لا تستقيم إلا بشرع من الله ينير الطريق، أرسل الله رسله وأوحى إليهم شرائعه ليبلغوه إلى أقوامهم: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ [الحديد: ٢٥]، وعلى هذا جرت سنة الله في عباده: ﴿ثم أرسلنا رسلنا تترى﴾ [المؤمنون: ٤٤]، فلا حجة للناس عندئذ على ربهم بقولهم: ﴿لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى﴾ [طه: ١٣٤]. 

وختم سبحانه الكتب بالقرآن الكريم الذي أنزله على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ؛ فصار دليل الهداية للبشر منذ بعثة النبي ﷺ حتى قيام الساعة، قال تعالى: ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلىٰ صراط مستقيم﴾ [المائدة: ١٦]. يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: "ويعني بقوله: يهدي به الله: يرشد به الله ويسدد به. والهاء في قوله "به" عائدة على الكتاب. من اتبع رضوانه: يقول: من اتبع رضا الله". وأمر سبحانه الناس قاطبة باتباع هدى الكتاب الخاتم: ﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه﴾ [المائدة: ٤٨]، وجعل الإيمان به ركنا في إسلامهم: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتىٰ يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ [النساء: ٦٥]. 

ومن هنا فإن دليل القرآن وعلومه يهدف إلى إخراج فقيه القرآن الذي يحيا به قولا وعملا ودعوة، ويمتثل بهديه الرباني مبددا به ظلمات المناهج الأرضية التي لا تستمد من الوحي.

وينتظم العمل في الدليل على: 

  • إعداد مكتبة تشمل أهم كتب علوم القرآن بفروعه المختلفة، وبيان مجمل ما تحتويه وتمتاز به أو تفتقر إليه. 
  • وضع برنامج علمي مناسب للمسلم بعامة ولطالب العلم بخاصة ليلم كل منهما بجوانب القرآن وتفسيره وعلومه وفقا للمستوى المستهدف، وذلك من خلال خطوات متدرجة في الطلب. 
  • إضافة إلى المشروعات والأنشطة الخادمة التي تجمع بين العلم والتطبيق.

تمهيد

إن الإيمان بالكتاب يعني إجمالا تصديق خبره كله وامتثال أمره كله جملة وعلى الغيب. 

ومن هنا كان على المؤمن أن يتعرف على الأخبار التي يجب عليه تصديقها والأوامر التي يجب عليه اتباعها؛ فبرز علم التفسير، وهو -كما عرفه الزركشي-: علم يُفهم به كتاب الله المنَزَّل على نبيه محمد ﷺ وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول‏ والناسخ والمنسوخ. 

والمتأمل في عبارة الزركشي يمكنه التفرقة بين أمرين: أولهما: التفسير ذاته، وهو ما عناه ببيان معاني القرآن. وثانيهما: علوم القرآن، وهو ما عناه باستمداد ذلك. 

وتحت كل منحى من الاثنين تنتظم تفاصيل كثيرة يسعى هذا الدليل لخدمتها؛ من خلال ترتيب أقسامها، واختيار الأنسب من تعريفات عناوينها، وشرح موضوعاتها، والتوجيه لمظانها ومصادرها، وتوضيح الخطوات لتحصيلها بدءا من المبتدئ حتى المجتهد، إضافة إلى خدمة ذلك كله بمشروعات تعليمية مقروءة ومسموعة ومرئية لتيسير فهمها وتذليل صعوباتها.

ماذا يقصد بالقرآن وعلومه؟

أولا: القرآن 

  • لغة: مصدر على وزن "فُعلان" كالغفران والشكران، تقول: قرأته قرءا وقراءة وقرآنا، بمعنى واحد. سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر. قال تعالى: ﴿إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ [القيامة: ١٧، ١٨] أي قراءته. وقد خُص القرآن بالكتاب المنزل على محمد ﷺ فصار له كالعَلَم الشخصي.
  • اصطلاحا: "القرآن كلام الله، المنزل على نبينا محمد ﷺ، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا، المتعبد بتلاوته، المُتَحدَّى بأقصر سورة منه". وقد اختصره البعض بقولهم: "القرآن كلام الله المنزل على محمد ﷺ، المتعبد بتلاوته".

- "محترزات التعريف:

- فخرج بقولنا "كلام الله": كلام المخلوقين.

- وبـ"المنزل": يخرج كلام الله الذي استأثر به سبحانه. قال تعالى: ﴿ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله﴾ [لقمان: ٢٧].

- وتقييد المنزل بكونه "على محمد ﷺ": يُخرج ما أُنزل على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل وغيرهما. 

- و"المتعبد بتلاوته": يخرج القراءات المخالفة لرسم المصحف، والأحاديث القدسية على القول أنها منزلة من عند الله بألفاظها، ونحو ذلك".

وفيما يلي محترزات لما زاده بعضهم في التعريف السابق:

- المكتوب في المصاحف: وهي نسخ مصحف الإمام الذي جَمع عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه المسلمين بلسان قريش وتلقته الأمة بالقبول.

- المنقول إلينا بالتواتر: ومعنى التواتر هو نقل الجمع عن الجمع بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ومن المسلّم به تاريخيا أن أصحاب رسول الله ﷺ تلقوا القرآن مشافهة من فم رسول الله وحفظه أكثرهم، ونقلوه إلى جيل التابعين، وهكذا بقي القرآن ينتقل من جيل إلى جيل آخر حتى وصلنا، وهذا يجعلنا نجزم بأن القرآن نقل إلينا بالتواتر، نقلته جموع المسلمين عن جموعهم إلى النبي ﷺ، بحيث يُقطع بصدق وضبط كل طبقة منهم واستحالة اتفاقهم على الكذب.

- المتحدى بأقصر سورة منه: الإعجاز حاصل بأقصر سورة وهي سورة الكوثر كما هو حاصل بأطول سورة من القرآن وهي البقرة. والقرآن هو معجزة الرسول الكبرى، وقد أعجز العرب وهم أهل الفصاحة بما تضمّنه من فصاحة وبلاغة، وأنباء الغيب، وأخبار الأمم السابقة، وما حواه القرآن من إعجاز علمي وتشريع محكم دقيق صالح لكل زمان ومكان، ومن الثابت أن النبي ﷺ تحدى قومه بالقرآن وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله، قال تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ [الإسراء: ٨٨].

فالقرآن الكريم بجميع ألفاظه ومعانيه منزل من الله تعالى على محمد بن عبد الله ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام، قال تعالى: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين﴾ [الشعراء: ١٩٢-١٩٥]. وقال سبحانه: ﴿إن هو إلا وحي يوحى﴾ [النجم: ٤]، وكون القرآن وحيا يعد أهم عنصر في تعريف القرآن، وتحديد ماهيته، وتعيين مصدره، وواسطة نقله.

ثانيا: علوم

علوم جمع، ومفرده علم، ويعرف في اللغة أنه نقيض الجهل، فالعلم معرفة الشيء على حقيقته، سواء كان هذا العلم ظنيا (كاسم نجم اكتُشف) أو يقينيا (كأول من أسلم من الرجال: أبو بكر) وهو مصدر مرادف للفهم والمعرفة. 

أما في الاصطلاح فيراد بالعلم المسائل المضبوطة ضبطا خاصا، مثال: إذا قلنا أن مقدار الغنة حركتان فيعرف أن هذا العلم علم التجويد. 

ثالثا: علوم القرآن

هذا المركب له احتمالان في إضافة العلوم إلى القرآن: 

- العلوم التي تتفرع عن كل لفظ قرآني، وعلوم القرآن بهذا المعنى بعدد ألفاظ القرآن الكريم. بمعنى يراد به عموم المعلومات التي تنضوي تحت ألفاظ القرآن.

- العلم الذي يتناول المعارف المتصلة بالقرآن، كجمعه وأسباب نزوله وقراءاته والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والمحكم والمتشابه والغريب وإعراب القرآن الكريم... إلخ. 

وهذا الاحتمال الثاني هو الأرجح في المراد بهذا الفرع من العلوم.

ومن هنا يمكن معرفة الفرق بين إطلاقَيْ "علم التفسير" و"علوم القرآن":

"١. إن كانت المعلومة -من علوم القرآن- لا أثر لها في فهم المعنى، فهي من علوم القرآن وليست من علوم التفسير؛ كمعرفة فضائل سورة الإخلاص، فإنها من علوم القرآن لكن معرفتها أو جهلها لا يؤثر في فهم المعنى.

٢. وإن كانت من المعلومات التي تؤثر في فهم المعنى، كمعرفة غريب الألفاظ، فهذا من علوم التفسير، ومن علوم القرآن من باب أولى".

وعلى هذا يقول د. مساعد الطيار بعد أن قسَّم كتب التفسير: "والنظر في عناوين هذه الكتب يدل على تداخل بين العلم العام (علوم القرآن) والعلم الجزئي منه (علم التفسير). وسبب ذلك أن كتب التفسير هي المحل الأوسع لتطبيقات مسائل علوم القرآن، ولا يلزم من ذكرها في كتب التفسير أن تكون من صلبه. وقد جاء ذكرها في كتب التفسير وعلوم القرآن بسبب اشتراكهما في المحور الذي يُدْرَس وهو القرآن؛ فعلم علوم القرآن يتحدث عن علومه المستنبطة منه والخادمة له، وعلم تفسير القرآن يتحدث عن بيانه وكشف معانيه".

أهمية دراسة القرآن وعلومه

قال مجاهد: "أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أُنزِل". وقال إياس بن معاوية: "مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب".

و"لدراسة علوم القرآن الكريم فوائد عديدة، من أهمها:

١. أنه يساعد على دراسة القرآن الكريم وفهمه حق الفهم واستنباط الأحكام والآداب منه...

٢. أن الدارس لهذا العلم يتعرف على الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام فيما شنوه على القرآن الكريم زورا وبهتانا وكيف يرد عليها.

٣. يتم عن طريقه معرفة طريقة المفسرين وأساليبهم في التفسير مع بيان مشاهيرهم، ومعرفة خصائص كل من المفسرين وشروط التفسير وغير ذلك من دقائق هذا العلم".

مكانة دراسة القرآن وعلومه

يأتي شرف دراسة القرآن وعلومه من ثلاثة جوانب: 

الجانب الأول: شرف الموضوع؛ وهو كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم الذي هو منهاج المسلم في حياته، ودليله إلى سلوك الصراط المستقيم الذي يوصله إلى رضا الله تعالى وجنته. قال ابن جزي الكلبي في مقدمة كتابه التسهيل: "هو المقصود بنفسه (القرآن)، وسائر العلوم أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع عنه".

الجانب الثاني: شرف الغرض؛ لأن الغرض من دراسة القرآن الكريم وعلومه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والفوز بسعادة الدارين.

الجانب الثالث: شرف الحاجة إليه؛ فإن كل كمال ديني ودنيوي هو مفتقر إلى العلوم الشرعية، وهي متوقفة على العمل بكتاب الله تعالى؛ فأي علم شرعي لا يمكن أن ندخل إليه إلا من خلال بوابة القرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم هو بوابة مدينة العلم.

أثر الاعتناء بالقرآن وعلومه على الأمة

ينفرد المنهج الرباني بخاصية قيامه على الوحي، فالقرآن يمثل منهج الله تعالى في الأرض، وقد قامت أمة الإسلام في زمن النبي ﷺ على اتباع القرآن وطرح ما دونه من المناهج الأرضية. وصار هذا المنهج هو سبيل إحياء الأمة إلى قيام الساعة، إذ لا حياة لها إلا باتباعه دون سواه. فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قام فيهم يومًا فقال: "أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".

فالمنهج الرباني هو الذي يصلح النفس البشرية والحياة البشرية لأنه منزل من عند اللطيف الخبير: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ [الإسراء: ٩]. إن هذا القرآن يتخلل النفوس البشرية فيعيد ترتيب ذراتها بعد أن كانت مبعثرة من قبل ضائعة في التيه.. إنه يُصلح فساد الفطرة دون أن يخرج النفس من بشريتها: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [الروم: ٣٠]. وكما أنه يُصلح النفوس، فباتباعه تصلح الحياة البشرية الصلاح الذي يكفل الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة.

ولكي يتمثل القرآن منهجا ربانيا في الحياة فلا بد من تعلمه وتدبره والعمل به:، ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون﴾ [الأنعام: ١٥٥]. يقول ابن القيم رحمه الله: "وبالجملة: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه هو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضى والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأ بالتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكر وتفهّم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن". ويقود ذلك ولا بد إلى الحكم به والتحاكم إليه في حياة البشر. فنقطة الانطلاق هي الإقبال عليه فهما وتعلما وتدبرا ليصح ما بعد ذلك من خطوات. 

لماذا دليل القرآن وعلومه؟

لا يخفى حجم اعتناء علماء الأمة سلفا وخلفا بالقرآن وعلومه، وبلغ الأمر مرحلة الاستقصاء كما هو الحال عند الزركشي (ت ٧٩٤هـ) في كتابه "البرهان في علوم القرآن" والسيوطي (ت ٩١١هـ) في كتابه "الإتقان في علوم القرآن".

ويشير د. مساعد الطيار في كتابه "المحرر في علوم القرآن" إلى أن "علوم القرآن لا زالت بحاجة إلى تنقيح وتحرير... وإن مما يحسن أن يُعنى به طالب علوم القرآن الانتباه للأمثلة وتقييدها ودراستها للخروج بصورة صحيحة عن الموضوع الذي سيدرسه. ومتى أخذ بعض الموضوعات غير المحررة على سبيل القبول دون النظر في الأمثلة المتكاثرة التي تخالف ذلك التقرير لم يستطع الوصول إلى بعض الحقائق المهمة في الموضوع".

كما أنه يشير إلى إغفال الجانب التطبيقي لعلوم القرآن في مقدمة كتابه "أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن الكريم" بقوله: "قد يمر بالباحث وهو يقرأ في التفسير أمثلة تخالف ما نُظِّر له في دراسته لعلوم القرآن، لكنها لا تسترعي انتباهه، ولا يطلب لها حلا، وكأنه قد حكم بزيفها لأنها خالفت ما قُرِّر له، فلا يتعب نفسه بتثوير الموضوع مرة أخرى، عَلَّه يجد ما يصحح ما درسه أو يؤيده.

إن كتب تفسير القرآن ميدان رحب لتطبيقات مسائل علوم القرآن، فلو اتجه مُدَرِّسو علوم القرآن إلى هذه الكتب وطبقوا عليها ما درسوه في كتب علوم القرآن، فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أحوال نافعة في تنشيط هذا العلم، وفي إشباعه بالتطبيقات والأمثلة:

الحال الأولى: تعزيز الأفكار العلمية المطروحة في كتب علوم القرآن، وذلك بتكثير الأمثلة التي توافق الفكرة العلمية المطروحة.

الحال الثانية: أن يوجد أمثلة تخالف ما تقرر في الفكرة العلمية المطروحة، فتدرس هذه الأمثلة، وقد تكون نتيجة هذه الدراسة ضعف هذه الأمثلة وعدم صحتها، أو أنها تدل على أن تلك الفكرة العلمية المطروحة في كتب علوم القرآن مدخولة وغير صحيحة، فتحتاج إلى إعادة تنظير.

الحال الثالثة: أن يوجد في الأمثلة أفكار جديدة تضاف إلى مسائل العلم الذي يطبَّق عليه من خلال التفسير. وفي هذه الطريقة إثارة وتحفيز للدارس وتحفيز وتحريك له في متابعة الدرس وفي تثبيت المعلومات".

ومن ثم كان المقصد الأول من هذا الدليل هو إرساء مشروع يخدم القرآن ليصح الانطلاق به في الحياة.. إنه توصيف تفصيلي لكيفية تناول محور القرآن وعلومه من خلال خطوات منهجية تسلم كل حلقة منها إلى التي تليها لتأخذ بيد الطالب إلى إتقان أطراف الموضوع على نحو متدرج ومتوازن. 

نشأة التفسير وعلوم القرآن وتطورها

ونقصد ههنا "المراحل التاريخية التي مر بها اعتناء الأمة بتفسير القرآن وعلومه".

فبالنسبة للتفسير فإن صحابة النبي ﷺ -وهم العرب الخُلَّص- كانوا يفهمونه بسليقتهم، وإذا التبس عليهم فهم آية سألوا عنها النبي ﷺ، وقد كان ﷺ يبادر فيشرح لهم بعض الآيات من غير سؤال منهم أو يُصَوِّب لهم خطأهم فيما يخطئون فيه. وقد روي في هذه الحالات أحاديث كثيرة. 

"ومن يتتبع سير الصحابة رضي الله عنهم يجد أن كل واحد منهم كان متبحرا وحجة في أحد علوم القرآن. فمثلا:

  • عبد الله بن مسعود (ت ٣٢هـ) كان من أعلم الصحابة بأسباب النزول، والمكي والمدني، وقراءات القرآن.
  • وأبي بن كعب (ت ٣٠هـ) كان عالما بالقراءات.
  • وعبد الله بن عباس (ت ٦٨هـ) كان بحرا في التفسير عالما بالتأويل".

وقد كثرت الرواية في تفسير بعض الآيات عن جمع من الصحابة كابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب. ثم كان لهؤلاء تلاميذ من التابعين حتى صارت هناك ثلاث مدارس في مكة والمدينة والكوفة. يقول ابن تيمية في ذلك: "وأما التفسير:

١. فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. 

٢. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزَّوا به عن غيرهم، 

٣. وعلماء أهل المدينة في التفسير، مثل زيد بن أسلم، الذى أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضا ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب". 

يقول الشيخ مناع القطان: "والذي رُوي عن هؤلاء جميعا يتناول: علم التفسير، وعلم غريب القرآن، وعلم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم الناسخ والمنسوخ، ولكن هذا كله ظل معتمدا على الرواية بالتلقين".

وبعد التابعين بدأ التدوين والتأليف في التفسير، فهناك من ألف من أتباع التابعين فمن تلاهم. وهؤلاء اعتنوا بجمع الأحاديث والآثار المنقولة بأسانيدها في التفسير. 

"ثم في أواخر المائة الثالثة بدأ ظهور المصنفات الجوامع في التفسير، ومنها التي تستعمل جميع آلة المفسر من أثر ولغة ورأي... وفي المائة الرابعة بدأ التفسير بالرأي يشيع، وكان وجوده قبل ذلك قليلا، وظهرت كذلك مشاركات بعض أهل البدع فيه على طرقهم في نصر آرائهم كالمعتزلة والشيعة. وفي هذا الوقت وبعده كثر التصنيف في التفسير، حتى فاقت المصنفات فيه الحصر، كما هو الشأن في سائر الفنون، وتنوعت فيه المسالك بين اختصار وتطويل، واتباع وابتداع، وتوسع الناس فيه بالرأي بين محمود ومذموم".

"وبإزاء علم التفسير كان التأليف الموضوعي في موضوعات تتصل بالقرآن ولا يستغني المفسر عنها:

  • فألَّف علي بن المديني شيخ البخاري (ت ٢٣٤هـ) في أسباب النزول.
  • وألَّف أبو عبيد القاسم بن سلام (ت ٢٢٤هـ) في الناسخ والمنسوخ وفي القراءات.
  • وألَّف ابن قتيبة (ت ٢٧٦هـ) في مشكل القرآن.
  • وألَّف أبو بكر السجستاني (ت ٣٣٠هـ) في غريب القرآن.
  • وألَّف الباقلاني (ت ٤٠٣هـ) في إعجاز القرآن.
  • وألَّف علي بن سعيد الحوفي (ت ٤٣٠هـ) في إعراب القرآن.

أما ما جمع هذه المباحث -كلها أو جلها- في مؤلف واحد فأولها مخطوط اسمه "البرهان في علوم القرآن" للحوفي (ت ٤٣٠هـ)، ثم جاء الزركشي (ت ٧٩٤هـ) وألف كتابا وافيا بنفس العنوان، ثم جاء السيوطي (ت ٩١١هـ) وألف كتاب "الإتقان في علوم القرآن". وتتابعت مصنفات علوم القرآن في العصور المتأخرة.

مصادر التفسير وعلوم القرآن

هي الوحي..

وأصل الوحي في اللغة الإعلام السريع الخفي الخاص بمن يوجه إليه.

وله إطلاقات كثيرة في القرآن كالإلهام الفطري للإنسان، والإلهام الغريزي للحيوان، والرمز والإيحاء، ووسوسة الشيطان، وكلام الله إلى أنبيائه، وكلامه إلى ملائكته.

وللوحي في الشرع تعريفان:

  • الإيحاء -وهو المصدر- بمعنى إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه.
  • الموحى به -وهو اسم المفعول- بمعنى كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه.

ولئن كان الوحي بالمعنى الثاني -وهو الموحى به للنبي ﷺ- واضح المعنى وهو القرآن، فإن الوحي بالمعنى الأول وهو الإيحاء للنبي ﷺ له صور عديدة، وقد ذكرت سورة الشورى الأنواع الثلاثة العليا التي يقع فيها سماع كلام الله، قال تعالى: ﴿وماكان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ [الشورى: ٥١].

وعن كيفية الوحي تروي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. 

ولمزيد بيان عن مدخل القرآن وعلومه فإن الحديث سينتظم في محورين:

أولا: علوم القرآن وموضوعاته الرئيسة.

ثانيا: التفسير معناه ومناهجه.

علوم القرآن وموضوعاتها الرئيسة

نزول القرآن

رجح جمهور أهل العلم أن القرآن الكريم نزل في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجما -أي مفرقا- على رسول الله ﷺ على مدى ثلاث وعشرين سنة بواسطة جبريل؛ وذلك بغرض تثبيت قلب النبي ﷺ والمؤمنين، وبغرض الإعجاز وتحدي المشركين، وبغرض تيسير حفظه، وبغرض مسايرة الأحداث والتدرج في التشريع.

أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

لم يقع خلاف معتبر بين العلماء في كون أول ما نزل من القرآن هو الآيات الخمسة الأولى من سورة العلق. ثم إن أول ما نزل بعدها بعد فترة الوحي سورة المدثر.

وقد اختُلف في آخر ما نزل من القرآن، والأرجح أنه قوله تعالى: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى ٱلله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾ [البقرة: ٢٨١].

ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره

"انعقد الإجماع على أن ترتيب الآيات في القرآن توقيفي؛ فلقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالآيات على الرسول ﷺ ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم يقرؤها النبي ﷺ على أصحابه، ويأمر كُتَّاب الوحي بكتابتها مُعَيِّنا لهم السورة وموضع الآية منها".

أما مسألة ترتيب السور فقد وقع فيها خلاف، ورجح الكثير من أهل العلم القول بتوقيفها لدلالة غالب الأحاديث الصحيحة عليه.

المكي والمدني

اختلف العلماء في حد المكي والمدني على أقوال:

  • المكي ما نزل قبل الهجرة وإن نزل بغير مكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة (وهذا قد اعتبر زمن النزول - وهو الأرجح).
  • المكي ما نزل بمكة وما جاورها، والمدني ما نزل بالمدينة وما جاورها (وهذا قد اعتبر مكان النزول).
  • المكي ما نزل خطابا لأهل مكة، والمدني ما نزل خطابا لأهل المدينة (وهذا قد اعتبر المخاطب).

ومن خصائص المكي: الدعوة إلى التوحيد، وفضح أعمال المشركين، وقوة الألفاظ مع قصر الفواصل والإيجاز، والإكثار من قصص الأنبياء، والاهتمام بالأخلاق من حيث العموم.

أما المدني فيتميز ببيان تفاصيل أحكام الشريعة من عبادات ومعاملات وحدود ونظام أسرة وقواعد حكم، ومخاطبة أهل الكتاب ودعواتهم إلى الإسلام، والكشف عن سلوك المنافقين وبيان خطرهم، والطول النسبي للمقطع والآيات.

أسباب النزول

سبب النزول هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال. وهناك قسم آخر من القرآن نزل ابتداء من غير سبب، وهو أكثر القرآن. وتُعِين معرفة أسباب النزول على بيان الحكمة التي دعت إلى معرفة حكم من الأحكام، فهي بذلك خير سبيل لفهم معاني القرآن.

ولصيغ أسباب النزول قسمان: الصيغ الصريحة في السببية، والصيغ المحتملة في السببية. وعند ظهور تعارض تقدم الصريحة، فإذا وردت أكثر من صيغة صريحة تقدم الرواية الصحيحة، فإن استووا في الصحة فالجمع ما أمكن وإلا فترجح إحداها بحسب وجوه الترجيح، فإن لم يتيسر الجمع لتباعد الزمن فإنه يُحمل على تعدد النزول وتكرره مع وحدة السبب. ولكل من هذه الأشكال أمثلته.

الأحرف السبعة

نزل القرآن على سبعة أحرف. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف". 

وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الأحرف السبعة اختلافا كثيرا، لعل أرجحها: أنها سبع لغات من لغات العرب في التعبير عن المعنى الواحد، نحو: أقبِل، وتعالَ، وهلُمَّ، وعجِّل، وأسرع. أي أنها "وجوه قرائية منزلة متعددة متغايرة في الكلمة القرآنية الواحدة ضمن نوع واحد من أنواع التغاير". 

ولنزول القرآن على سبعة أحرف حِكَمٌ كثيرة؛ منها: "تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، وإعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب، وإعجاز القرآن في معانيه وأحكامه".

القراءات: معناها ونشأتها

القراءات تعني العلم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها. ومن الصحابة من قرأ على حرف ومنهم من قرأ على حرفين، ثم إنهم تفرقوا في البلاد فتعددت القراءات عند التابعين ومن بعدهم. وقد تجرد من التابعين من اعتنوا بضبط القراءات، ووضعوا لها الضوابط كموافقة العربية ولو بوجه من الوجوه، وموافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصحة الإسناد.

والقراء السبعة المشهورون هم:

  • أبو عمران الشامي (ت ١١٨هـ).
  • عبد الله بن كثير الكتاني (ت ١٢٠هـ).
  • عاصم بن أبي النجود (ت ١٢٨هـ).
  • أبو عمرو البصري (ت ١٥٤هـ).
  • حمزة بن حبيب التميمي (ت ١٥٦هـ).
  • نافع بن عبد الرحمن الليثي (ت ١٦٩هـ).
  • علي بن حمزة الكسائي (ت ١٨٩هـ).

وللقراءات أنواع من حيث السند، وهي المتواتر والمشهور والآحاد والشاذ والموضوع والمدرج. ولكل منها تفصيلاته التي يرجع إليها في مظانها.

الناسخ والمنسوخ

النسخ هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متراخٍ عنه. ويكون النسخ في الأوامر والنواهي وليس في الاعتقادات ولا في الأخبار الصريحة التي ليست بمعنى الطلب ولا في الآداب والأخلاق. وللنسخ ثلاثة أقسام: نسخ الحكم والتلاوة معا، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم، ولكلٍّ أمثلته.

وللنسخ حكم عدة؛ منها: مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم، والتطور في التشريع حتى يبلغ الكمال، وابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه.

المحكم والمتشابه

يتنوع القرآن الكريم باعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاثة أنواع:

  • النوع الأول: الإحكام العام

وهو ما وُصف به القرآن كله، قال تعالى: ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ [هود: ١٠]. ومعنى هذا الإحكام: الإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه.

  • النوع الثاني: التشابه العام

وهو ما وُصف به القرآن كله كذلك، قال تعالى: ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله﴾ [الزمر: ٢٣]. ومعنى هذا التشابه: أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة.

  • النوع الثالث: الإحكام الخاص ببعضه والتشابه الخاص ببعضه

قال تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب﴾ [آل عمران: ٧]. ومعنى هذا الإحكام: أن يكون معنى الآية جليا واضحا لا يحتمل غير وجه واحد في تفسيرها. ومعنى هذا التشابه: أن يكون معنى الآية خفيا على وجه يَتوهم منه من يتعرض لها ما لا يصح، أما العالم الراسخ فلا يرى فيها اختلافا أو تناقضا وذلك عندما يؤمن بها ويردها إلى المحكم.

والتشابه الواقع في القرآن نوعان:

  • النوع الأول: التشابه الحقيقي

وهو ما لا يمكن أن يعلمه بشر، كحقائق صفات الله تعالى وكيفيتها.

  • النوع الثاني: التشابه النسبي

وهو ما يكون مشتبها على بعض الناس دون بعض، فيكون معلوما للراسخين في العلم دون غيرهم. ويسأل الناس أولي العلم عنه للبيان وذلك لإمكان الوصول إلى معناه.

ولو كان القرآن كله محكما لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقا وعملا لظهور معناه وعدم المجال لتحريفه! ولو كان كله متشابها لفات كونه بيانا وهدى للناس ولما أمكن بناء العقيدة السليمة عليه! ولكنه سبحانه بحكمته جعل منه آيات محكمات يُرجع إليها عند التشابه، وأُخَر متشابهات امتحانا للعباد.

جمع القرآن وتدوينه

لم يقتصر حفظ القرآن في عهد النبي ﷺ على الصدور لما قد يعتري بني آدم من وهم أو نسيان، بل اتخذ النبي ﷺ جماعة مأمونة من أصحابه ممن كان يعرف الكتابة يكتبون ما كان ينزل عليه من القرآن، كعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم. وكانوا يكتبونه في الجلود وجريد النخل. ولكن جمعهم لم يكن في كتاب واحد لكون القرآن حينئذ في حال النزول فربما يقول لهم النبي ﷺ عن آية نزلت "ضعوها في موضع كذا وكذا" فيشق ذلك إذا كان المكتوب مؤلفا على صفة الكتاب التام.

ثم أمر الصديق في خلافته زيدَ بن ثابت بجمع القرآن على الصورة التي كان النبي ﷺ أملاها على أصحابه من كُتَّاب الوحي، وكان ذلك إثر مقتل الكثير من القراء في حرب المرتدين. يقول زيد رضي الله عنه: "فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال، حتى وجدتُ آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم﴾ [التوبة: ١٢٨، ١٢٩]". يقول الشيخ عبد الله الجديع: "وقوله: "لم أجدها مع أحد غيره" إنما أراد مكتوبة ولم يرد محفوظة، فإن زيدا نفسه كان ممن جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله ﷺ، وجمعه طائفة كانوا أحياء يومئذ".

ثم جاءت المرحلة الأخيرة من جمع القرآن في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث أمر بجمع الناس على مصحف واحد بلسان قريش سُمي بمصحف الإمام، فأرسل إلى حفصة التي كانت صُحُف القرآن مجموعة عندها أن: أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، وعمَّم نُسَخ ذلك المصحف في الآفاق وأمر بحرق ما سواه من القرآن؛ وذلك خوفا من فتنة اختلاف الناس في القراءة بسبب اختلاف الحروف التي كان يُقرأ بها القرآن.

الرسم العثماني

نشأ هذا الموضوع عن الجمع الأخير للقرآن. فالمراد بالرسم العثماني الطريقة التي ارتضاها عثمان بن عفان رضي الله عنه في كتابة المصاحف. وقد رجح الجمهور أن هذه الطريقة ليست بتوقيفية، ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتلقته الأمة بالقبول، فيجب الأخذ به ولا تجوز مخالفته. قال الإمام أحمد: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك".

أمثال القرآن الكريم

المثل هو قول عجيب شُبِّه مضربُه بمورده لفائدة.

وفي القرآن ثلاثة أنواع من الأمثال:

  • النوع الأول: الأمثال المصرَّحة

وهي ما صُرِّح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه، كقوله تعالى: ﴿مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا﴾ [العنكبوت: ٤١].

  • النوع الثاني: الأمثال الكامنة

وهي التي لم يُصَرَّح فيها بلفظ التمثيل، كقوله تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾ [الإسراء: ٢٩].

  • النوع الثالث: الأمثال المرسلة

وهي جمل أرسلت من غير تصريح بلفظ التشبيه، ولكنها جارية مجرى الأمثال، كقوله تعالى: ﴿الآن حصحص الحق﴾ [يوسف: ٥١].

وللأمثال القرآنية فوائد، منها إبراز المعقول في صورة المحسوس، وجمع المعاني في عبارة واحدة موجزة، وهي أوقع في النفس وأبلغ في الوعظ وأقوى في الزجر وأقوم في الإقناع. قال تعالى: ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣].

قصص القرآن الكريم

وهو قصص الأنبياء وما حدث لهم مع المؤمنين والكافرين، وكذلك قصص عن طوائف وأفراد جرى لهم ما فيه عبرة، وكذلك أحداث عن أقوام في عهد النبي ﷺ. والقصص القرآني هو أصدق القصص وأحسنه وأنفعه.

وقد تتكرر القصة الواحدة في القرآن في أكثر من موضع ولكن بصور مختلفة من حيث التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، وما شابه ذلك. وفي ذلك من التنويع في الغايات وفقا للغرض في المقام المذكور، مع بيان الإعجاز البلاغي في القرآن لعجز السامع عن الإتيان بصورة من صور القصص المعروض في أي موطن.

وللقصص القرآني فوائد، منها: بيان حكمة الله تعالى فيما تضمنه القصص من عبر وعظات، وبيان عدله بعقوبة الظالمين، وفضله بمثوبة المؤمنين، وتسلية النبي ﷺ عما أصابه من المكذبين، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم، وتحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم.

إعجاز القرآن الكريم

المعجزة في الاصطلاح هو أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة. فإعجاز القرآن هو إظهار صدق النبي ﷺ في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته.

وللإعجاز القرآني أنواع:

  • الإعجاز اللغوي والبلاغي

والمراد به إعجاز القرآن في ألفاظه، وأسلوبه، وبيانه، ونظمه.

وقد أمر الله عز وجل نبيه ﷺ بتحدي العرب وغيرهم من الإنس والجن بالقرآن كله أو بسورة منه أو بعشر آيات، فما استطاعوا.

  • الإعجاز الإخباري

وهو في أربعة وجوه:

١. الإخبار عن الغيب المطلق، كالخبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته والملائكة وصفة الجنة والنار على نحو لا يُدرَك من جهة العقل.

٢. الإخبار عن الأمور السابقة، كالخبر عن بدء الخلق وعن الأمم السالفة.

٣. الإخبار عما يكون في المستقبل، كالإخبار عن الشيء قبل وقوعه في زمن النبي ﷺ، أو عما سيكون بعد ذلك.

٤. الإخبار عما تكنه النفوس وتخفيه الضمائر مما لا يعلمه إلا الله.

  • الإعجاز التشريعي

والمراد به إعجاز القرآن في تشريعه وصيانته للحقوق لتكوين مجتمع رباني.

  • الإعجاز العلمي

والمراد به إعجاز القرآن في علومه ومعارفه المختلفة التي أثبت العلم الحديث كثيرا من حقائقها المغيبة. فقد حث القرآن الإنسان على النظر في الكون من حوله وتدبر قدرة الله فيه وكذا قدرته في خلق الخلق.

أصول التفسير

علم أصول التفسير هو "الأسس التي يقوم عليها علم التفسير، فيبين الطريقة المثلى في شرح كلام الله وتفسيره، وتشمل ما يتعلق بالمفسر من شروط وآداب وإتقان علوم، وما يتعلق بالتفسير من طرق ومصادر وقواعد ومناهج.. ونحو ذلك.

فأصول التفسير علم واحد من علوم القرآن الكثيرة التي قامت لخدمة القرآن الكريم، فله صلة وثيقة بعلوم القرآن بل هو من أهمها وأبرزها، فهو جزء من كل".

"وأهم مسائل هذا العلم ثلاثة أمور كلية:

  • الأول: مصادر التفسير وطرقه.
  • الثاني: الاختلاف في التفسير - أسبابه وأنواعه.
  • الثالث: قواعد التفسير، وهي قسمان:
  • القواعد العامة
  • قواعد الترجيح (ويندرج هذا تحت مبحث أشمل وهو: كيفية التعامل مع اختلاف المفسرين)" .

قواعد التفسير

قواعد التفسير هي "الأحكام الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن الكريم، ومعرفة الراجح مما فيه خلاف".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرَدُّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؛ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وظلم وجهل في الكليات، فيتولد فساد عظيم".

وقد بين بدر الدين الزركشي أهمية هذه القواعد التي سماها بالقانون العام فقال: "ومعلوم أن تفسيره يكون بعضه من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض، لبلاغته ولطف معانيه، ولهذا لا يستغنى عن قانون عام يعوَّل في تفسيره إليه، من معرفة مفردات ألفاظه ومركباتها، وسياقه وظاهره وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدق عنه الفهم".

ومن أمثلة قواعد التفسير:

  • العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
  • الأصل حمل ألفاظ القرآن على ظاهرها إلا لدليل يصرفه عنه.
  • النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام تدل على العموم.
  • الألف واللام الداخلة على الأوصاف وأسماء الأجناس تفيد الاستغراق.
  • الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده.
  • زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
  • الأصل في الأوامر الوجوب، والأصل في النواهي التحريم.
  • مراعاة دلالة التضمن والمطابقة واللزوم.
  • تحصيل المصالح على قدر الوسع والطاقة.

بلاغة القرآن

يعنى هذا الباب بدراسة إعجاز القرآن البلاغي والبياني. ويتطرق كذلك إلى ما يسمى بالوحدة الموضوعية أو عمود السورة أو الخيط الناظم للوحدة القرآنية. كما أنه يثبت نقاء العقيدة الإسلامية مما شابها من تأويلات للأشاعرة والمعتزلة والتي تخالف منهاج السنة القويم في باب البلاغة.

ومن أهم كتب السابقين في هذا الباب:

  • إعجاز القرآن، للباقلاني
  • ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، للرماني والخطابي والجرجاني

ومن أهم كتب المتأخرين في هذا الباب:

  • النبأ العظيم، لمحمد عبد الله دراز
  • إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق الرافعي
  • المعجزة - إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن، لأحمد بسام الساعي
  • التوجيه البلاغي لآيات العقيدة في القرنين السابع والثامن، ليوسف بن عبد الله العليوي

تدبر القرآن

يعنى هذا المحور بكيفية الانتفاع بالقرآن ليتحقق التغيير للفرد ثم الأمة وفق مراد الله تعالى، مع التعرف على أسباب عدم الانتفاع بالقرآن لتجنبها. ويتناول كذلك قضية تفاضل سور القرآن وآياته، وذكر وجوه التفاضل.

ومن أهم الكتب المصنفة في هذا الباب:

  • تحقيق الوصال بين القلب والقرآن، لمجدي الهلالي
  • مفاتيح للتعامل مع القرآن، لصلاح الخالدي
  • مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة، لخالد اللاحم
  • منهج الاستنباط من القرآن الكريم، لفهد بن مبارك الوهبي
  • قواعد التدبر الأمثل، لعبد الرحمن حبنكة الميداني
  • فضائل القرآن الكريم، لعبد السلام الجار الله

آداب حملة القرآن

وهي الآداب التي يحسن أن يتجمل بها حامل القرآن. ويسعى هذا الباب إلى معالجة الأخطاء العلمية والسلوكية التي يقع فيها بعض القراء، وكذا مساعدة المؤسسات القرآنية على سد الفراغ الحاصل في هذا الباب من خلال كتابة دراسات محررة وافية فيه.

ومن أهم الكتب المصنفة في هذا الباب:

  • التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي
  • جمال القراء - فصول في آداب أهل القرآن، لإبراهيم الحميضي
  • تحزيب القرآن، لعبد العزيز الحربي
  • سنن القراء ومناهج المجودين، لعبد العزيز القارئ

أحكام التجويد

يُعرِّف هذا المحور بموضوعات علم التجويد الأساسية، ويلم بقواعد التجويد النظرية. وتستأنس بعض الكتب فيه بالرسومات المقربة لمخارج الحروف إمعانا في إيصال الشرح المقصود. ويتناول هذا الباب كذلك قضايا نشأة علم التجويد، والدراسات الصوتية، ومناهج كتب تعليم قواعد التلاوة.

ومن أهم الكتب التي صنفت في هذا الباب:

  • التجويد الميسر، لمجموعة من المؤلفين
  • الشرح الوجيز على المقدمة الجزرية، لغانم قدوري الحمد
  • أبحاث في علم التجويد، لغانم قدوري الحمد

شبهات حول القرآن

يلم هذا المحور بأبرز الاتجاهات المنحرفة في باب علوم القرآن، مع الاطلاع على الأقوال المردودة والشاذة والأحاديث الموضوعة والضعيفة مما له صلة بعلوم القرآن والتي يلتقطها العلمانيون من هنا وهناك ثم ويجمعون بينها برباط غير شرعي ليستولدوا منها النتائج الباطلة.

ومن أهم الكتب في هذا الباب:

  • دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري والرد عليها، لعبد المحسن المطيري
  • التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم، لمنى محمد الشافعي
  • الاتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن الكريم - دراسة ونقد، لأحمد محمد الفاضل

التفسير معناه ومناهجه

تدبر القرآن

قال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ [النساء: ٨٢]، وقال: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ [محمد: ٢٤]، وقال: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾ [ص: ٢٩].

إن "التدبر والفهم مطلوب من كل مسلم، إلا أن تفسيره للناس ليس حقا لكل إنسان! إذ لا بد لتفسير كلام الله تعالى من أصول وضوابط وقواعد يجب مراعاتها لمن أراد ذلك، فهي الموازين والمعايير التي تضبط التفسير، وتبعده عن عبث العابثين، وتحميه من كيد الكائدين".

يقول ابن القيم رحمه الله: "للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها، ولا يجوز تفسيره بغير عرفه والمعهود من معانيه، فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قُدَرُ العالمين، فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به، بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم، فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي".

"فهذا الكتاب قد أنزله الله على رسوله محمد ﷺ، وهو مبارك لا تنضب فيوض معانيه، ولكن هذه المعاني المباركة الثرة لا يقتبس منها إلا من يتدبرون آياته. فالغاية من إنزاله أن يتدبر الناس آياته، ولكن ليس الغرض من التدبر مجرد الترف العلمي، والافتخار بتحصيل المعرفة، والتوصل إلى كشف المعاني للتعالي بمعرفتها واكتشافها، إنما وراء الفهم غرض التذكر والعظة والعمل بموجب العلم. وهذا التذكر المقصود لا يحظى به إلا أولو الألباب، وهم أهل العقول الحصيفة، والأذهان النظيفة، والقلوب الشريفة".

وقد جاء في كتاب "قواعد التدبر الأمثل" سبع وعشرون قاعدة من قواعد التدبر مع الأمثلة عليها، هي:

  • ارتباط الجملة القرآنية بموضوع السورة، وارتباطها الموضعي بما تفرق في القرآن.
  • وحدة موضوع السورة القرآنية.
  • أوجه النص التي يهدف إليها.
  • بيئة نزول النص البشرية والزمانية والمكانية.
  • التفسيرات الجزئية والمعنى الكلي.
  • البحث في معاني الكلمات القرآنية.
  • تكامل النصوص القرآنية في الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن.
  • تكافؤ النصوص القرآنية إلا ما ثبت نسخه بقاطع، ولزوم الجمع بينها.
  • تتبع مراحل التنزيل.
  • تتبع المحاذيف للإيجاز.
  • لا اختلاف في القرآن ولا تناقض.
  • تتبع التفسير المأثور لمعنى النص.
  • البحث عن أغراض الاختلاف في التعبير في مختلف النصوص.
  • النظر فيما ورد من أسباب النزول.
  • التكرير وأغراضه.
  • النظر فيما توصلت إليه البحوث العلمية الإنسانية في موضوع النص القرآني.
  • الربط بين الآيات وخواتيمها.
  • النظر في الألفاظ المتقاربة المعنى أو المترادفة.
  • تردد النص القرآني بين دلالتين أو أكثر.
  • مراعاة ظاهر التضمين.
  • النظر في ملاءمة الأسلوب البياني للهدف منه.
  • البحث عن الوجوه البلاغية والغرض الفكري من الصور البلاغية في القرآن.
  • ضرورة ملاحظة قواعد اللغة العربية.
  • النص واقتضاءاته.
  • كون النص محكما أو منسوخا.
  • النظر في توجيه الخطاب.
  • التعليل بعد النهي أو النفي أو الأمر.

أقسام التفسير

من التقسيم الحسن جعل التفسير على أربعة وجوه:

١. التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها: وهذا سبيله معرفة استعمال العرب للألفاظ والتراكيب، قال ابن جرير: "إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة". وهو مشروط بأن "لا يكون خارجا عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة".

٢. التفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته: أي ما هو بَيِّن فهمه بنفسه لا يحتاج إلى تفسير، وإليه يعود أكثر القرآن، وهو تصديق قوله تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ [القمر: ١٧]. قال ابن كثير: "أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس".

٣. التفسير الذي يعلمه العلماء: وهو ما يتعدى فهمه الدلالة القريبة للألفاظ مما يشترك فيه الخاصة والعامة، ويتوقف على تحصيل مقدمات من الدراية والعلم والآلة.

٤. التفسير الذي لا يعلمه إلا الله: والمراد به متشابه القرآن الذي مهما أعملت فيه العقول فإنها لا تصل إلى حقيقته، كالخبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته. فنحن ندرك معاني الألفاظ في ذلك وأثره في العبودية لله، لكننا لا ندري كيفيته لأن الله تعالى منزه عن مشابهة خلقه. وكذلك تفسير وقت قيام الساعة وظهور الآيات؛ فالخوض في ذلك خوض فيما لا نفع فيه.

شروط المفسر

ومن ثم فإن للمفسر شروطا لا يحل التعرض لتفسير القرآن بدونها:

١. صحة الاعتقاد وسلامة المنهج: فإن فساد الاعتقاد أو المنهج يصير بصاحبه إلى تحريف دلالة القرآن إلى ما يعتقد وينهج، وهذا ما وقع ممن تصدى للتفسير ولم يكن على استقامة.

٢. صحة المقصد والتجرد للحق والسلامة من الهوى: فهذا من أعظم أسباب التوفيق لفهم القرآن. فالإخلاص والاستعانة هما مدخل العلم النافع.

٣. التحري والتثبت في الفهم: وذلك باتباع الطرق الشرعية لفهم القرآن، فيبدأ المفسر بتفسير القرآن بالقرآن، فما أُجمل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بُسط في موضع آخر، ثم بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، ثم الأئمة ممن اتبعهم بإحسان. فإن كان ثمة رأي فيكون بما لا يتعارض وأقوالهم كاعتبار دلالات اللغة والقياس بالأشباه والنظائر.

٤. الدقة في النقل واعتماد الثابت الصحيح: وذلك في كل ما يعتمد على الإسناد من حديث أو أثر أو لغة، فإن الضعيف وما لا أصل له كثير في ذلك.

مناهج التفسير

أولا: التفسير بالمأثور

"وهو التفسير بالقرآن نفسه، وبالسنة، وبالآثار عن الصحابة والتابعين. وهذا المنهج أفضل المناهج، والزيادة عليه يجب أن تستفاد من خلاله، ومراعاتُه علامة الصواب، وقاعدة لضبط التجديد في فهم القرآن".

"وقد كان الخلاف بين صدر الأمة قليلا جدا بالنسبة إلى من بعدهم، وأكثره لا يعدو أن يكون خلافا في التعبير مع اتحاد المعنى، أو يكون من تفسير العام ببعض أفراده على طريق التمثيل، وقد يكون الاختلاف لاحتمال اللفظ الأمرين".

ومن أشهر كتب التفسير بالمأثور:

  • جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري (ت ٣١٠هـ).
  • تفسير القرآن العظيم مسندا عن رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين، لابن أبي حاتم الرازي (ت ٣٢٧هـ).
  • معالم التنزيل، للبغوي (ت ٥١٦هـ).
  • زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي (ت ٥٩٧هـ).
  • تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ت ٧٧٤).
  • الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (ت ٩١١هـ).
  • فتح القدير، للشوكاني (ت ١٢٥٠هـ).

"ومن خلال الدراسة والتأمل لهذه المصنفات يلاحظ أنها اشتركت في اتباع أفضل المناهج في التفسير، لكن الكمال في هذا ممتنع؛ لذا لم يخل كتاب منها من أن يؤخذ عليه، والمآخذ على كلٍّ تتفاوت في الجزئيات قلة وكثرة، ولكنها بالنظر إلى غلبة الصواب تصير لهذه الكتب بمنزلة المحاسن. وإنما يجب التنبيه على مأخذين كبيرين واردين على جميعها: 

  • المأخذ الأول: إيراد الأحاديث الضعيفة والمنكرة دون بيان.
  • المأخذ الثاني: إيراد الإسرائيليات".

ثانيا: التفسير بالرأي

"وهو ما يعتمد فيه المفسر في بيان المعنى على فهمه واستنباطه الخاص. ومن ثم فإن منه الجائز وهو ما وافق كلام العرب وراعى شروط التفسير، ومنه المحرم وهو ما خالف الأدلة الشرعية وقواعد العربية ولم يستوف شروط التفسير.

"واستعمال اللغة في تفسير القرآن أخطر ما يسلكه المفسر؛ فهو إذا فسر الآية بنفس القرآن أو الحديث أو الأثر، فإنه وإن كان يستعمل رأيه في تتبع النص والأثر والربط له بالآية وتوجيه ذلك، إلا أنه قد أحال واعتمد في غالب أمره على النقل، بينما اللغة بما وقع فيها من السعة واحتمال المعاني الكثيرة المختلفة للفظ الواحد، مع تنوع الأساليب في تركيب الكلام، لا يسهل تنزيلها على ألفاظ القرآن وتراكيبه دون أصل يرتكز عليه المفسر... ولو تأملتَ منهج الصحابة في التفسير، ثم من تبعهم من تلامذتهم، وجدتهم يستندون إلى السمع وينتهون إليه، لا يجاوزونه إلى اللغة إلا عند فقد بيان الله ورسوله ﷺ، مع أنهم أنفسهم كانوا مصدرا للغة، خاصة الصحابة، فإذا صاروا إلى التفسير باللغة والنظر، فسروا بما لا يأتي على المخالفة للنصوص المسموعة، ولا المناقضة للأصول العامة".

ومن جوامع كتب التفسير بالرأي المحمود، أي التي يغلب على الاستشهاد بالرأي فيها الصواب لقصد مؤلفيها بيان القرآن بالأثر واللغة والنظر والتدبر:

  • المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية (ت ٥٤١هـ)
  • أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (ت ٦٨٥هـ)
  • البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي (ت ٧٤٥هـ)
  • نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (ت ٨٨٥هـ)

وعلى هذه الكتب مأخذان:

المأخذ الأول: القصور في ذكر مذاهب السلف وأقوالهم في التفسير.

المأخذ الثاني: سلوك طريقة الخلف في تفسير آيات صفات الله عز وجل.

أما المؤلفات في التفسير بالرأي الفاسد فمنها:

  • الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري (ت٥٣٨ هـ). وذلك في انتصاره لمذهب المعتزلة.
  • مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، لفخر الدين الرازي (ت ٦٠٦هـ). وذلك في انتصاره للآراء الفلسفية.

ومما تميز من التفاسير المعاصرة من منهجية مناسبة للعصر في لغة الإنشاء والمحتوى:

  • تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا (ت ١٣٥٤هـ)
  • في ظلال القرآن، لسيد قطب (ت ١٣٨٧هـ)
  • التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور (ت ١٣٩٣هـ)
  • أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد المختار الشنقيطي (ت ١٣٩٣هـ)

ويعد التقسيم إلى المنهجين السابقين -التفسير بالمأثور وبالرأي- هو الأشهر والمتفق عليه عند الحديث عن مناهج التفسير؛ إلا أن البعض قد ألحق به بعض التقسيمات المعتبرة، مثل:

التفسير اللغوي

هناك من التفاسير ما اعتنى بالجانب اللغوي لا سيما بالإعراب، مستشهدا في ذلك بما ورد في دواوين العرب من شعر وخطب وشواهد. ومن أمثلة هذه التفاسير: 

  • إعراب القرآن، للنحاس (ت ٣٣٨)
  • مشكل إعراب القرآن، لمكي بن أبي طالب (ت ٤٣٧هـ)
  • إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، للعكبري الحنبلي (ت ٦١٦هـ)

التفسير البلاغي

وهو الذي يعتني بإبراز خصيصة من خصائص التراكيب العربية وهي البلاغة. مبينا ما في الآية من معان وبديع وبيان ليتضح الجمال القولي في الوحي.

ومثاله الواضح في تفسير "أنوار التنزيل" للبيضاوي والذي اعتمد فيه المصنف على ثلاثة كتب هي "الكشاف" للزمخشري، و"التفسير الكبير" للفخر الرازي، وتفسير الراغب الأصفهاني صاحب المفردات. وقد حرر البيضاوي هذه الكتب الثلاثة تحريرا بالغا، وأضاف إليها مسائل مهمة إذ ضم لها بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، وأعمل في تفسيره عقله ببعض النكت واللطائف والاستنباطات بأسلوب رائع وعبارة دقيقة.

التفسير الموضوعي

والمقصود به جمع الآيات القرآنية التي تعالج نفس الموضوع وإفرادها بالدراسة التفصيلية بعد ضم بعضها إلى بعض، مهما تنوعت ألفاظها، وتعددت مواطنها. وقد صدر مؤخرا في هذا الباب موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم تحت إشراف مركز تفسير للدراسات القرآنية، والتي اشتملت على دراسة موضوعية ل٣٥٤ موضوعا من موضوعات القرآن.

التفسير الحركي التربوي

يعنى هذا اللون من التفسير بالربط بين القرآن والواقع المعيش بكل جوانبه على منهج قويم. وتظهر أهمية هذا التفسير في أمرين: أولهما كشف حقيقة الواقع في ضوء تدبر القرآن، وثانيهما إحياء أفراد الأمة المسلمة بتوضيح السبيل الذي يجب عليهم أن يسلكوه لمواجهة هذا الواقع ومعالجته وفق المنهج الرباني.

ويتمثل هذا اللون من التفسير في كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله.

التفسير الفقهي

هناك من التفاسير ما اعتنى بالجوانب الفقهية في الآيات، أي أنه لم يتناول شرح كل الآيات الواردة وإنما اكتفى بالآيات التي تشتمل على أحكام فقهية فقام بتفسيرها.

ولهذا النوع من التفسير نماذج مثل:

- أحكام القرآن للجصاص الحنفي (ت ٣٧٠هـ)

- أحكام القرآن لإلكيا الهراسي الشافعي (ت ٥٠٤هـ)

- أحكام القرآن لابن العربي المالكي (ت ٥٤٣هـ)

- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المالكي (ت ٦٧١هـ)

التفسير الإشاري

للصوفية تفاسير تسمى بالتفسير الإشاري الباطني، وهو تفسير اللفظ بغير المتبادر من ظاهره، وليس على هذا العمل عند أهل السنة الذين لا يصرفون المعنى عن ظاهره إلا لقرينة معتبرة. ومن أمثال التفسير الإشاري تفاسير: 

  • أبي عبد الرحمن السُّلَمي (ت ٤١٢هـ)
  • محيي الدين ابن عربي (ت ٦٣٨هـ)

أقسام دليل القرآن وعلومه

لقد ارتأى القائمون على هذا المشروع وضع دليل للقرآن وعلومه يتألف من:

١. مدخل يشمل رؤية المشروع ورسالته، وتعريف هذا الدليل تعريفا علميا اصطلاحيا، وبيان الهدف منه وأهميته ومكانته بالنسبة إلى باقي المحاور، وبيان مدى خدمة هذا العلم لقضايا الأمة، والباعث على مراجعة هذا المحور والإضافة فيه، مع الإشارة إلى نشأة هذا العلم وتدوينه، ومصادره الأساس ومراجعه، إضافة إلى موضوعاته، مع بيان المنهجية الصحيحة في تناوله.

٢. مكتبة تشمل أهم المصنفات المتقدمة والمتأخرة التي خدمت هذا الدليل.

٣. برنامج يشمل إعادة ترتيب لما يتم انتقاؤه من هذه المكتبة ليصير على هيئة خطوات متدرجة لطالب العلم في هذا الباب، وذلك من خلال تقسيمه لمستويات يحتوي كل منها على أفضل ما يناسبها في شتى العلوم المندرجة ضمن هذا الدليل.

٤. مشروعات متجددة تشمل بعض التلخيصات للكتب أو تقريبها من خلال عروض تقديمية أو لقاءات تسجيلية مسموعة أو مرئية أو دورات حية بحسب ما تيسر.