(إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحًا لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس إعادة صياغة الحاضر.
وإن سجل التاريخ ما هو إلا المنار الذي ينبئ الملاحين الجدد عن مكان الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمين في هذا العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطأوا في كثير من الأمور)(1).
يهدف دليل التاريخ إلى:
تعريف أبناء هذه الأمة الخيرة الطريق القويم والمنهج المستقيم لأوائل هذه الأمة؛
ليسيروا على أثره، فيصلح الله بهم حاضرهم ومستقبلهم.
ليعلموا فيم يكون عز هذه الأمة فيعملوا له، وفيم يكون ذلها فيمسكوا عنه،
ليعلموا كيف كان جهاد السابقين فيهبوا رافعين راية هذا الدين،
وليعلم المتأخرون حق المتقدمين.
عمل برنامج مناسب للمبتدئ والمجتهد بحيث يحيط جميع زوايا التاريخ فى كل مرحلة على حدة.
فيخرج بذلك للأمة فقيه التاريخ أو المسلم العارف بتاريخ أمته الواعي لدوره تجاهها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وجعله خليفة فى الأرض: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ [البقرة: 30] متعبدا له امتثالا لأوامره واجتنابا لنواهيه: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56]، ومستعمرا للأرض مكتشفا لما خلق الله فيها من مخلوقات شتى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب﴾ [هود: 61]، فجعله سبحانه مهيمنا عل سائر مخلوقاته فى الأرض مُكرمًا عليهم: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾ [الإسراء: 70]، وتجلى هذا التكريم والتشريف بأمره سبحانه للملائكة بالسجود له: ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين﴾ [البقرة: 34]، فأطاعت الملائكة أمر الله فسجدوا إلا ابليس غلبه الكبر والحسد على أنه لم يكن هذا المخلوق الذى كرمه الله على سائر خلقه ﴿قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا﴾ [الإسراء: 62]، ومن هنا بدأ الصراع بين الإنسان متمثلا فى آدم عليه السلام وبين الشيطان متمثلا فى إبليس عليه لعنة الله، ومن ثم بدأ الشيطان فى حربه وصراعه سريعا مع الإنسان، قال سبحانه فى كتابه الكريم مبينا تلك البداية التى قدرها سبحانه: ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)﴾ [البقرة: 34 - 39].
ونزل الإنسان (متمثلا فى آدم) والشيطان إلى الأرض كما قضت حكمة الله سبحانه وتعالى، ومن هنا بدأت القصة، قصة التاريخ، أو بتعبير أدق بدأت قصة التاريخ البشرى.
وفي هذا الصدد تطالعنا ههنا أسئلة هامة: ما المقصود بدراسة التاريخ؟ وهل تستحق دراسة التاريخ كل ما تبذله الأمم المتحضرة فى سبيله من عناء وجهد ومال وزمن؟ وهل يستدعى مضمونه الغور فى أعماقه إلى هذا الحد؟ وما الذى يمكن أن نفيد به من دراسة التاريخ وكتابته؟ هذا ما تجيب عنه هذه المقدمة/المدخل لدراسة التاريخ الإسلامي.
إن أصل كلمة تاريخ عند العرب ينبع جنوبًا من اليمن، حيث تواتر أصلها بحروفها (ورخ) قديما في لسان عرب الجنوب ليدل على القمر أو بالأحرى الهلال، دلالة على بدء الشهر القمري، فصارت كلمة (ورخ) بعد ذلك في لسان العرب الجنوبي تدل على معنى كلمة الشهر القمري، ذلك أنّ تأريخهم للأيام والشهور كان تأريخا قمريا. في حين قابلها كلمة (العَدّ) في لسان عرب الشمال ووحدته الشهر، فهو يخالفها في اللفظ ويوافقها في المعنى. وقد عقد البخاري في صحيحه (باب التاريخ، مِن أين أرخوا التاريخ) ثم روى تحته حديث سهل بن سعد رضى الله عنه قال: (ما عَدُّوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عَدُّوا إلا من مَقدمه المدينة). فتأمل مقابلة البخاري بين لفظ الحديث(عَدُّوا) وبين لفظة الترجمة (أَرّخوا)(1).
لم يَعرف الأوروبيون علم التاريخ (Chronicle) أو (Date) الذي هو تقييد الحوادث والوفيات على السنين حتى بداية عصر النهضة الأوروبية، وإنما الذي كان عندهم هو (History) المشتق من الكلمة الإغريقية ذات الأصل العربي (Istoria) (أسطورة) الذي لا يزال كما هو في اليونانية الحديثة بحروفه عَلَمًا على فن هو في الحقيقة ليس من التاريخ في شيء، هذا الأصل Istoria الذي تشقق منه اسم هذا العِلم في جل اللغات الأوربية بعد ذلك للدلالة على معنى الحدث الماضي، فهو في اللاتينية والإنجليزية (History)، والكلمة حملت عندهم معنى (البحث)، أو (المعرفة) التي يتوصل إليها من طريق البحث.
وقد تسبب الخطأ الكبير وهو ترجمة اصطلاح (التاريخ) الإسلامي بلفظة (History) في أخطاء منهجية كثيرة، وخلطٍ شديد عند الحديث عن التاريخ ومنهج البحث فيه عند المسلمين، وكان من أخطر آثار هذا الخطأ تحكيم هذا المصطلح الأوروبي - بدلالته المنقطعة تمام الانقطاع عن مصطلح التاريخ الإسلامي - على منهاج التاريخ ومدلوله عند المسلمين.
قبل التطرق إلى اصطلاح العلماء للفظة تاريخ يجب التنبيه إلى نقطة مهمة جدا، إذ (إن هناك لبسا يكتنف لفظة التاريخ، ذلك أن هذه اللفظة تطلق تارة على الماضى البشرى ذاته وتارة أخرى تطلق على الجهد الذى يبذل من أجل معرفة الماضى ورواية أخباره.. أو العلم المعنى بهذا الموضوع... لكى نتجنب هذا اللبس ينبغى أن نطلق التأريخ بالهمزة على دراسة الماضى، والتاريخ بالألف اللينة على الماضى ذاته).
وعند استعراضنا لكاتبى التاريخ الإسلامى نجد أن أول من حدد تعريفا واضحا لعلم التاريخ كان ابن خلدون المتوفى سنة 808 هـ، إذ يعرفه بأنه (خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال).
"ثم تبعه المقريزى المتوفى سنة 845 هـ (الإخبار عما حدث فى العالم فى الزمان الماضى).
قال محمد بن سليمان الكافيجى المتوفى سنة 879 هـ (هو علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته).
وقال المؤرخ محمد بن عبد الرحمن السخاوي: (هو التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد الرواة والأئمة، ووفاة وصحة، ورحلة وحج، وحفظ وضبط، وتوثيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور مُلِمة، وتجديد فرض وخليفة ووزير، وغزوة وملحمة وحرب وفتح بلد، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم وأحوال القيامة ومقدماتها.... إلى أن قال: والحاصل على أنه فن يُبحثُ فيه عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيت بل عما كان فى العالم.... وقال أيضا: أما موضوعه فالإنسان والزمان)".
أما المفهوم الغربى للتاريخ فنجد له تعريفات عدة، يمكن أن نجملها فى التعريفات التالية:
"• تعريف كولينغوود Collingwood:
(التاريخ هو الماضي الذي يقوم المؤرِّخ بدراسته، لكنَّ هذا الماضي ليس ميتًا، ولكنَّه بمعنى ماضٍ لا يزال يعيش في الحاضر).
• تعريف إدوارد كار Edward car:
(التَّاريخ هو عمليَّة مستمرَّة من التَّفاعل بين المؤرِّخ ووقائعِه، وحوار سرمدي بين الحاضر والماضي)، ولماذا لا نقول مع المستقْبل؟ لأنَّ الزمان التاريخي هو ثلاثي في طبيعتِه الأصليَّة: ماض حاضر ومستقبل، زمن مسترسل.
• تعريف هيغل Hegel:
حسب هذا الفيلسوف الموسوعي، (فإنَّ التاريخ عمليَّة عقليَّة منظَّمة وخلاَّقة لظهور قيم جديدة، لكنَّ التَّاريخ هو ليس الماضي والحاضر فقط، بل إنَّه المستقبل أيضًا، مستقبل الإنسانيَّة الحرَّة).
وبِهذا الطَّرح ربط هيغل مفهوم العقْل الحر بمفهوم التَّاريخ ربطًا وثيقًا؛ إذ إنَّ تاريخ الإنسان عنده هو تاريخ التقدُّم البشري، كما أنَّه يمثِّل مراحل نمو العقْل الحر للإنسان عبر الزَّمان.
• تعريف فرناند بروديل Fernand Braudel:
(إنَّ التاريخ هو الإنسان والباقي، وإنَّ كلَّ شيء تاريخ: الأرض والمناخ. التاريخ علم للإنسان، لكن شريطة أن تكون علوم الإنسان بِجواره، والتَّاريخ أداة لمعرفة الإنسان في الزَّمان عبر المكان)".
ثم يجمل د. حسن عثمان مفهوم التاريخ في العقلية الغربية فيقول: "وعلى ذلك فإننا نجد انه لا غنى للإنسان عن دراسة ماضيه باعتباره كائنًا اجتماعيًا. فينبغي عليه أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ أعماله وآثاره، فيدرس مثلا العوامل التي أدت إلى حدوث الغارات والحروب وما لابس ذلك وما خلفته من الآثار، ويتتبع مثلا حركة الكشف الجغرافي في أواخر القرن الخامس عشر، وما ترتب على ذلك من تغير طريق التجارة العالمى بين الشرق والغرب، وما أدى إليه من تدهور أمم وارتفاع أخرى. وينبغى عليه مثلا أن يدرس العوامل التى أدت إلى ظهور نظام دستورى معين، ويفهم روحه ومضمونه، ويتبين أثره فى هيئة الحاكمين وفى مجموع الشعب".
أما مادة التاريخ، أى العناصر الضرورية التى يتكون منها فهى كثيرة ومتنوعة أهمها: "الآثار القديمة من الأبنية والهياكل والأحجار المنقوشة والمسكوكات المضروبة، والملابس والأزياء، والأدوات المنزلية وغيرها من كل ما هو من نوعها مثل: التقاليد والعادات والأخبار والحوادث المروية والدواوين المجموعة ، والوثائق الخطية ، وكل ما تناقله الخلف عن السلف، مشافهة أو مشاهدة ،مع حسن نظر وتثبت ،كما قال ابن خلدون: يُفْضِيان بصاحبهما إلى الحق ويَنْكُبان به عن الزلات والمغالط".
إن لدراسة التاريخ، ليس دراسته فحسب بل إعادة كتابته من المنظور الإسلامي، لأهمية الكبرى فى الفهم الصحيح والمنضبط لأحداث الماضي والحاضر وكذلك استشراف المستقبل، ولذا نجد أن القرآن الكريم اعتنى بشدة بالرؤية التاريخية فى توصيل الرسائل والمحاور المختلفة العقدية، الإيمانية، الأخلاقية.. وبحيث أننا نجد "أن الرؤية التاريخية ترتبط بالقرآن الكريم ارتباطا وثيقا.. أي سورة قرأت، أي صفحة شاهدت، طالعتك العروض والإشارات المسهبة أو الموجزة إلى مواقف تاريخية لا ريب أنها تشكل بمجموعها نسقا رائعا ومتكاملا للتفسير الإسلامي للتاريخ.. ما دام كتاب الله يضرب دوما على هذا الوتر الحساس (الرؤية التاريخية) ويدعوا المتأملين والدارسين إلى الخروج في أعقاب مطالعتهم التاريخية بنتيجة نهائية عن مصير الحركة البشرية في الزمان والمكان".
ولقد أسس القرآن الكريم لهذه القاعدة العظيمة، قاعدة الاعتناء الشديد بالرؤية التاريخية، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ [يوسف: 111]، يقول القاسمى فى تفسيره: "الاعتبار والعبرة: الحالة التى يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر". ومن هنا تأتي ثمرة دراسة التاريخ "من التفكر فى أحوال المدنيات والدول وعوامل بنائها وأسباب سقوطها، ومن النظر فى سنن الله فى الآفاق وفى الأنفس والمجتمعات، ومن الاطلاع على تشابه مواقف الأقوام المختلفة من دعوة التوحيد ودعاتها وأن ذلك يكاد يكون نسخة مكررة على تطاول الأزمان وتباعد الأمكنة وتعدد الأجناس"، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ [الروم: 9].
إن دراسة التاريخ وسيلة من وسائل اكتساب الخبرات، وبدراسة التاريخ تعرف أسباب نهوض الأمم والدول وأسباب سقوطها وتخلفها، وبدراسة التاريخ تعرف طبائع الشعوب والبلدان، وغير ذلك من صور اكتساب الخبرات والتي ترجع كلها لحقيقة واحدة؛ وهي أن التاريخ يعيد نفسه ويكرر نفسه، إذ إن أحداث التاريخ هي سنن الله الكونية القدرية، وهذه السنن ثابتة لا تتبدل، كما قال الله تعالى ﴿فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا﴾ [فاطر: 43]. فهذه النصوص ونحوها صريحة في ثبات سنن الله تعالى والتي هي عبارة عن ترتب نتائج معينة على أسباب معينة، وهذا هو معنى أن التاريخ يعيد نفسه.
قال ابن خلدون رحمه الله: (اعلم أن فن التأريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا - إلى أن قال - فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء). وهذا يبين لنا أن التوعية التاريخية ضرورة لا بد منها لاكتمال التوعية الشرعية والرؤية السليمة، علمًا بأن تاريخ الإسلام خاصة في عصر النبوة وعصر الراشدين هو التاريخ التطبيقي للإسلام عقيدة وشريعة.
و(التاريخ هو ذاكرة الأمة والذاكرة للأمة كالذاكرة للفرد تمامًا، بها تعي الأمة ماضيها وتفسر حاضرها وتستشرف مستقبلها. فالإنسان الذي يفقد ذاكرته، يبقى على ضخامة جسمه طفلًا غرًا لا يعي شيئًا مما حوله، عاجزًا أن يتبصر في نفسه أو يشعر بيومه، أو يتطلع إلى غده، وكذلك الأمة حين يضيع منها تاريخها ويشوش في عقول أبنائها، عندئذ يضيع منها الطريق، وتسلم مقودها لمن يوجهها. فالتاريخ ليس علم الماضي، بل هو علم الحاضر والمستقبل في واقع الأمر وحقيقته، فالأمة التي تستطيع البقاء، هي التي لها ضمير تاريخي تعي به ماضيها وتفسر حاضرها وتستشرف مستقبلها).
يقول محمد قطب: (إن التاريخ ليس مجرد أقاصيص تحكى، ولا مجرد تسجيل للوقائع والأحداث.. إنما يدرس التاريخ للعبرة والعظة وتربية الأجيال، يقول تعالى: ﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾، وكل أمة من أمم الأرض تعتبر درس التاريخ من دروس التربية للأمة، فتصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها، ولا يعني هذا تزوير التاريخ لإعطاء صورة وضاءة لإحداث أثر معين في نفس الدارس، ولا إلى إغفال عثرات المسلمين وانتكاساتهم، وإبراز الأمجاد والبطولات وحدها، فهذا ليس هو المطلوب، إنما المطلوب أن يكون الدرس التربوي الأكبر هو المستفاد من درس التاريخ: أن أحوال هذه الأمة في صعودها وهبوطها، ورفعتها وانتكاستها إنما تخضع لنواميس ربانية ثابتة لا تحابي أحدًا ولا تنحرف عن مسارها من أجل أحد).
هذ، وإن أهمية الاعتناء بالتاريخ لتتأكد إذا علمنا أن أصحاب الاتجاهات المنحرفة قد استغلوا بعض الروايات الضعيفة أو الموضوعة في الموسوعات التاريخية القديمة أو تحليلات المستشرقين المشوهة، استغلوا هذا في المدارس والجامعات وغرسوا في نفوس الشباب المتعلم أن تاريخنا لا يعدو أن يكون أحداثًا دموية يتلو بعضها بعضًا وأنه إذا استثنينا الخلفاء الراشدين، بل إذا استثنينا فترة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فكل تاريخنا صراع على الحكم وترف وفساد في القصور. وعظمت المصيبة بأمثال هؤلاء، والمتعلم الناشئ يتأثر بما يقال له، وأصبح الشباب في حيرة واضطراب، فعندما يسألون عن كتب التاريخ لترشدهم إلى الحقيقة لا يجدون أمامهم إلا كتب الموسوعات الكبيرة التي من الصعب على أمثالهم الرجوع إليها، أو الكتب المعاصرة وفيها من الجهل والتشويه الشيء الكثير، وبذلك أيضًا عظمت التبعة على المسلمين.
لذا فدراسة التاريخ البشري يجب أن تكون دراسة تدبر ونظر بتأمل وتفكر وليس دراسة سرد للأحداث فى أحوال ممن سبق من أمم ودول وجماعات "فالتاريخ ليس هو الحوادث، وإنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التى تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان".
ومن ثم يجب على من يكتب التاريخ ويسرد ويحلل أحداثه ووقائعه أن يملك العقيدة الحية الصحيحة والفكر المنضبط بقواعد المنهج الإلهى الذى ينير له الطريق فى فهم المواقف التاريخية والدوافع الإنسانية وراء المواقف والأحداث المختلفة من التاريخ.
ومع الأسف الشديد نجد أن معظم من قام بكتابة التاريخ من تلك الوجهة (التحليل والتفسير) كان من المستشرقين أو من تلاميذهم، الذين جاءت كتابتهم مبتورة فى الفهم وتحليل الأحداث والدوافع الإنسانية ورائها لأنهم لا يملكون العقيدة الصحيحة أو الفكر المنضبط والتصور السليم عن حقيقة الكون والإنسان وغاية وجوده وحقيقة دوافعه وتصرفاته تجاه الأحداث والوقائع التي تواجهه، وكذلك الدوافع النفسية والأخلاقية التى تقف وراء علاقة بنى الإنسان بعضهم ببعض، كأفراد ودول وجماعات، ومن هنا نتبين "ما فى تناول المؤرخين الغربيين للتاريخ الإسلامي (بل التاريخ كله وليس الإسلامي منه فقط) من نقص طبيعي في الإدراك ونقص طبيعي في الفهم ونقص طبيعي في التفسير والتصوير. فانعدام عنصر من عناصر الاستجابة للحادثة أو ضعفه لا بد أن يقابله نقص في القدرة على النظر إلى الحادثة من شتى جوانبها. وضياع عنصر من عناصر التقويم والحكم لا يؤمَن معه سلامة هذا الحكم".
وفي المقابل فإن كتابات معظم من يملك العقيدة الصحيحة والفكر المنضبط من المسلمين كانت كتابة سرد ورواية للأحداث دون تحليلها وتفسيرها، إلا القليل منهم.
يقول محمد قطب: "أزداد اقتناعا بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامى (بل التاريخ ككل) من منطلق إسلامي، وبروح إسلامية، لا تتأثر بتلك التيارات المنحرفة والصيحات المشبوهة التى تريد طمس معالم ذلك التاريخ، وطمس مقوماته الخاصة النابعة من كونه تاريخ "الأمة الإسلامية" بالذات، وإن ادعت تلك التيارات الروح العلمية أو الموضوعية أو المنهجية أو ما شابه ذلك من الشعارات!".
إذا كان الغرب ومؤرخوه قد تنقلوا بين نظريات كثيرة لتعليل أحداث التاريخ، ما بين التأكيد على الجانب الغيبي، وما بين بروز النزعات المادية كالتفسير القومي أو التفسير المادي، كما ظهر التفسير التشاؤمي عند (اشبنجار) ونظرية التحدي عند (توينبي)، هذه النظريات وإن كان في بعضها شيء من الحق فالتفسير الإسلامي للتاريخ يختلف ابتداءً عن النظرة الغربية لأنه ينطلق في الأصل من تكريم الله للإنسان، وأن الله خلق هذا الإنسان لعبادته، وسخر له كل ما يحتاجه لعمارة هذه الأرض، وأرسل الأنبياء وأنزل الكتب ليكون أبلغ في العذر، وهذه الحياة الدنيا مؤقتة، والحياة الأخرى هي الباقية، وأوج الحضارة عند المسلم هو عندما يحقق ما يريده الله منه، وما خلق من أجله، وعندئذ يكرم بالاستخلاف في الأرض، وليست قمة الحضارة بقدر ما يمتلكه من الأشياء وأدوات الترف والغنى والرفاهية والتدمير.
(إن هناك عاملين رئيسين يشكلان الفكر الغربي جملة، ويؤثران تأثيرا عميقا فيه، بوعي من أصحابه أو غير وعي، هما الداروينية من جهة، والنفور من الدين بسبب طغيان الكنيسة وتجبرها وحجرها على الفكر من جهة أخرى. هذان العاملان يؤثران في الفكر الأوروبي كله - شرقيه وغربيه - بدرجات متفاوتة، فيجعلانه يميل إلى إسقاط الدين من الحساب عند الحديث عن "الإنسان": حياته، أو فكره، أو تاريخه، ويجعلانه ينظر إلى الإنسان على أنه نهاية خط التطور الحيواني، أي أنه يركز على قاعدته الحيوانية أكثر مما يركز على قاعدته الإنسانية الأصيلة)، بل إن النظرة الغربية للعالم بماضيه وحاضره ومستقبله تنبني على أن الغرب هو محور العالم.
الأوروبي بطبيعته ميال إلى اعتبار أوروبا هي محور العالم. فهي نقطة الرصد في نظره، ومن هذه الزاوية ينظر إلى الحياة والناس والأحداث... وإذا كان بدهيا أن أوربا لم تكن هي محور العالم في كل عصور التاريخ، وكان الأوروبي لا يملك اليوم أن يتخلص من وهم وضعها الحاضر حين ينظر إلى الماضي، أدركنا مدى انحراف الزاوية التي ينظر بها الأوروبي للحياة الإسلامية التاريخية، ومدى أخطاء الرؤية التي يضطر إليها، ومدى أخطاء التفسير والحكم الناشئة من هذه الرؤية المعينة، وذلك كله على افتراض النزاهة العلمية المطلقة وانتفاء الأسباب التي تؤثر على تلك النزاهة.
(إن تفسير التاريخ يقصد به معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المتفرقة ودراستها لتبين دوافعها وارتباطاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والنواميس الإلهية من خلالها، والاعتبار بالدروس والعظات فيها. وهو مرحلة تأتي بعد التحقيق والنقد للأخبار، فما ثبت من الوقائع والأحداث هو الذي يفسَّر وتدرس ارتباطاته ويُتعرف على دلالته وآثاره. وهذا الجانب من الدراسة (إدراك دلالة الحوادث وارتباطاتها) ملحوظ بكثرة في القرآن الكريم سواء في رض القصص الواقعي لتجارب العديد من الجماعات البشرية ومواقفهم من أنبياء الله ورسله، أو في التعقيبات التي ترد بعد كل واقعة تاريخية في عصر الرسالة ونزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما سمي عند المفسرين بأسباب النزول، أو في التوجيهات والتحذيرات التي تأتي بعد سياق الحوادث التاريخية لأجل تقرير المقاييس والقيم وتصحيح المفاهيم وأخذ العظات والعبر من خلال عرض تلك المواقف).
فالتفسير الإسلامي للتاريخ (يستمد من الإسلام: من المقررات الإسلامية عن الوجود كله، سواء الوجود الإلهي، أو الوجود الإنساني، أو الوجود المادي، وعلاقة الخالق بمخلوقاته، وعلاقة الخلق بخالقهم، والسنن التي يجري بها الله أمر البشر وأمر الكون المادي سواء)، ومن خلال تلك المقررات الإسلامية نستعرض التاريخ ونفسره بناءً على التصور الإسلامي الصحيح للتاريخ البشري من خلق آدم إلى عصرنا هذا.
(إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ هذا الدين الواحد وهو الإسلام: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ [آل عمران: 19]، وهو تاريخ تطبيق هذا الدين.. تاريخ تطبيق شريعة الله إلى أبناء آدم عليه السلام.. تاريخ الصراع بين الحق والباطل وبين حزب الله وحزب الشيطان.. تاريخ انتصار الرسل والدعاة في دعوتهم إلى الله عز وجل، واندحار موجات الكفر وأهله.. تاريخ أمم عرفت أوامر الله ونواهيه ولم تلتزم بها فكانت عاقبة أمرها خسرا.. تاريخ رجال لا يخشون في الله لومة لائم.. وعلماء جندوا علمهم لله، وآخرون عتوا عن أمر ربهم، وباعوا أنفسهم للشيطان، وجعلوا دين الله مطية لأهوائهم ورغباتهم، فطغوا وتجبروا وظنوا أنهم قادرون على كل شيء، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
ومن هنا تأتي العلاقة بين التاريخ والدين، وهي علاقة وثيقة.. إن التاريخ الإسلامي يروي لنا تاريخ العقيدة الصحيحة.. وجزاء من يلتزم بها ويقاتل من أجلها، وجزاء من يعرض عنها ويصرف الناس عنها).
يتعامل منهج التفسير الإسلامي مع التاريخ إذًا على أساس أن (تاريخ البشرية ينقسم بادئ ذي بدء إلى قسمين رئيسين: تاريخ الإسلام وتاريخ الجاهلية. ثم ينقسم تاريخ الإسلام إلى فترات التوهج العقيدي وفترات الوجود العادي، كما ينقسم تاريخ الجاهلية إلى فترات التبلد والاستنامة للضغوط، وفترات الثورة عليها.
فأما تاريخ الإسلام بشعبتيه فيمثل الإنسان في واقعه الأعلى، بدرجات مختلفة تختلف بمدى توهج العقيدة. وأما تاريخ الجاهلية بشعبتيه فيمثل الإنسان في واقعه الأدنى، بدرجات مختلفة تختلف بمدى وعي الناس بما يحيق بهم من الفساد والظلم، ومدى استعدادهم للتغيير.
ويظل تاريخ الإسلام هو الفترة المضيئة في تاريخ البشرية، التي يحقق فيها الإنسان وجوده الحقيقي، ومهمته التي خلق من أجلها، والتكريم الرباني الذي منحه الله إياه.
ويظل تاريخ الجاهلية هو الفترة المظلمة في تاريخ البشرية، مهما حاول الجاهليون إضاءتها بالتقدم المادي أو العلمي، أو القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية.. ومهما أحدثوا من محاولات الإصلاح الجزئية التي قد تغير شراً بشر أشد!).
وأول من قدم تعريفا لمعنى تفسير التاريخ من المنظور الإسلامي من المؤلفين المسلمين هو ابن خلدون (وقد سماه تعليلا)، حيث قال في مقدمته الشهيرة عن التاريخ: (هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتُطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق).
إن محور التفسير الإسلامي للتاريخ هو أن ما يقع من الحوادث إنما يخضع لسنن إلهية، كونية أو دينية، ومن هذه السنن:
فمن الملاحظ أن محل الدراسة التاريخية في القرآن الكريم ليس المقصود به شعبًا معينًا أو دولة معينة بقدر ما هو مقصود: ما هو دين هذه الأمة وما هي عقيدتها؟ وما موقفها من الرسل والأنبياء؟ فالتركيز على "الملة" باعتبار أن ظاهرة التدين هي الأصل في الإنسان، وعندما يذكر القرآن الحوادث التي وقعت لبني إسرائيل يسردها دون ترتيب زمني؛ لأن المقصود أن هذه الأمة "يهود" لها صفات معينة، وقصص الأنبياء في القرآن هي قصة الصراع بين التوحيد وبين الوثنية والأمة الإسلامية يقابلها الأمم النصرانية أو المجوسية. وقد فرح المسلمون في مكة ببشارة القرآن لهم بانتصار الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب من المجوس.
وتركيز القرآن علي هذه الناحية يؤكد أن الدين هو العامل الفعال في تكوين الحضارات والدول الكبرى سواء كان هذا الدين حقًا كما أنزله الله سبحانه وتعالى أو قد حرف وبدل، والمهم هو أن فكرة التدين أو التطلع الغيبي هي التي تعطي الحماس والجد والعاطفة التي تحتاجها الدول في إبان تأسيسها، وقد خلق الإنسان متدينًا بفطرته، بالعهد الذي أخذ عليه ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾ [الأعراف: 172]، والفكرة التي تبلغ عند أصحابها مبلغ التقديس للديانات ويتفانون في تطبيقها تؤدي إلى نفس النتيجة.
وهذه الحضارات والدول وإن قامت ابتداء على الدين إلا أنه مع تطاول الزمن والإسراف في الحضارة بدأ الفساد ينخر فيها، وهذا ينقلنا إلى السنة الثانية من سنن الله؛ سنة التدافع، فلابد إذن من مبدأ الدفع الذي سنه الله سبحانه وتعالى.
إن التفسير القرآني للتاريخ بمدافعة الأمم بعضها بعضًا هو أعم وأشمل من نظرية "التحدي" عند المؤرخ الإنجليزي توينبي التي هي صادقة في جانب من جوانب التاريخ الإنساني، فإن تعرض أمة لخطر خارجي أو داخلي قد يظهر من طاقات أبنائها ما كان خامدًا، فإن وقت الأزمات والمصائب هو الوقت الذي يفكر فيه الناس بالتغيير، ولكن أين هذه النظرية من تفسير القرآن الذي هو عملية مستمرة وصراع دائم بين الخير والشر ليتغلب الخير أو يخفف من الشر؟
من سنته تعالى في البشر أن الأمم التي تبطر معيشتها، وتعيش في الترف وتنهمك في الملذات، وتقارف الآثام والذنوب، لا بد أن يصيبها العقاب إن آجلًا أو عاجلًا وسواء كان عذابًا ماديًا حسيًا أو عذابًا معنويًا. قال تعالى: ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾ [الإسراء: ١٦].
يقول ابن تيمية مطبقًا هذه القاعدة على التاريخ الإسلامي: (وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالًا أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم) [الفتاوى: ج١١ص١١٤]. وجاء في "سير أعلام النبلاء" تعليقًا على الأحداث التي جرت في مكة بين جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير السكوني وبين جيش عبد الله بن الزبير: (دخل عبد الله بن عمرو المسجد الحرام والكعبة تحترق حين أدبر جيش حصين بن نمير، فوقف وبكى وقال: أيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلوا ابن نبيكم "الحسين بن علي" ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من أبي هريرة، فقد فعلتم فانتظروا نقمة الله فليلبسنكم شيعًا، ويذيق بعضكم بأس بعض) [سير أعلام النبلاء: ج٣ص٩٤].
قال تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الرعد: ١١]، فالتغيير يجب أن يبدأ من الإنسان، والله سبحانه وتعالى ييسر له السبل التي يريدها. والأمة التي تعشش فيها الأفكار الميتة والأنانية والبغض والحسد، وقد ركنت إلى الكسل والخمول، هذه الأمة لا يمكن أن تنتج تقدمًا أو شيئًا يذكر بل إن حكمًا علمانيًا يمكن أن يستمر ويزدهر بالاتحاد والعدالة أكثر من حكم أدعياء الإيمان إذا ما ركنوا إلى الأخلاق المنحلة وإلى الفوضى والعصيان.
قال تعالى: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال﴾ [الرعد: ١٧]. يقول ابن قتيبة شارحًا هذه الآيات: (هذا مثل ضربه الله للحق والباطل يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العافية للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود أسال الأودية بقدرها ﴿فاحتمل السيل زبدا رابيا﴾ أي عاليًا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق، وكذلك المعادن إذا دخلت الكير يوقد عليها فيعلوها مثل زبد الماء، ثم قال: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء﴾ أي يلقيه الماء عنه فيتعلق بأصول الشجر وجنبات الوادي، وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير، فهذا مثل الباطل ﴿وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ فهو مثل الحق) [تأويل مشكل القرآن: ٣٢٦]. والمسلمون هم أحق الناس بهذه السنة وإذا تأخر عنهم فلأمر ما في نفوسهم، أو لأنه لم تتمحص صفوفهم وكيف لا ينصرهم الله سبحانه وهم أولياؤه، وهل يستوي المجرمون والمسلمون.
ويجب أن يعتقد من تأخر عنه النصر والتمكين أنه ما تأخر إلا لسبب أو لأسباب، فلا يلومن إلا نفسه، ولا يضع المعاذير لنفسه ويلقي بالتبعة على غيره.
(وعلى ضوء هذا التفسير الإسلامي للتاريخ يجب أن نفهم تاريخنا، فهو في جانب من جوانبه جزء من التاريخ العام للبشرية، ينطلق عليه ما ينطلق على الأمم الأخرى من سنن نشوء المجتمعات وارتقائها، أو انحطاطها وتخلفها، ويخضع للعقوبات الإلهية التي تحل بأهل المعاصي والذنوب وأهل البطر والترف).
أن سنة الله نوعان: (سنة متعلقة بالأمور الطبيعية كسنة الله في تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، فهى تجري وفق ناموس محدد قدّره الله لها؛ وسنة متعلقة بدين الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فهي ثابتة لا تتبدل، مثل نصره لأوليائه وإهانته لأعدائه.
لقد مرت كلمة التاريخ بمراحل عدة قبل الإسلام وبعده فى مدلولاتها واستخدامتها، فالعرب الشمالية وإن لم يكن لديهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تقويم واحد يرجعون إليه إذ أرخوا بمشهور الحوادث وبولاية الملوك، فهذا أمر كان كذلك عند الجنوبيين، حتى جاء الإسلام واجتمعوا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تقويم واحد هو التقويم الهجري الذي أُلزم به الجميع دون سواه. واستمرت دلالة مفهوم كلمة التاريخ عند المسلمون الأوائل على نفس النسق الذى يربطها بعنصر الزمن والأحداث الهامة، وأيضا عدم الخلط بينها وبين ألفاظ أخرى استعملها المسلمون في هذا الباب ولكن في غير هذا المعنى: كالأخبار، والسير، والمغازي، والأنساب، والأيام، والأنباء، والحديث، والأساطير، والأنساب، والقصص؛ إذ منهج المؤرخ عندهم يختلف عن منهج الأخباري والنسابة، ومنهج النسابة يختلف عن كليهما..وهكذا. ثم ما لبث منذ القرن الرابع الهجري أن بدأت الأخبار والقصص تأخذ طريقها إلى كتب التاريخ حتى صارت الأخبار جزءا لا ينفك غالبا عن التاريخ، فأصبحت بمثابة الجسد له، لا يكاد يتجسد التاريخ إلا به، وصار كل مؤرخ في هذا العصر أخباريا مؤرّخًا، وليس العكس، ونجد معنى ذلك في نَفْس ابن حجر حين قال: (ومن ثمة قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها الأخباري).
فضلا عن أنّ التاريخ حمل منذ ذلك الوقت معنى الأولى والآخرة، سَنَّ ذلك مؤرخ مجدد تزعم حركة انتقالية بين عصر وعصر، شارك في منهاج الأول وابتدع منهاج الآخَر، هو الطبري في تاريخه، وتبعه مَن بعده أسوة به، فلم يعد التاريخ هو "التأريخ" المطلق كما كان قبل، بل قيده فهمٌ جديدٌ أضاف لــ"التاريخ" في هذا العصر معنى جديدا، فلم يعد "التاريخ" مجرد العَدّ، ولا مجرد التقييد على الأيام والسنين فحسب، بل صار مع ذلك هو العبرة في الدنيا للفوز بالآخرة، فهو: (تاريخ الرسل والملوك)، و(تجارب الأمم) و(مرآة الزمان) ، و(البداية والنهاية).
ونستطيع أن نجمل تطور مصطلح التاريخ كما هو مبين بالشكل التالى:
إن القرآن ليس منهجا للتاريخ أو تفسيره ولكنه منهج حياة شامل أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم لإصلاح وهداية الناس وإنقاذهم من الغي والضلال ومن ظلمات الشرك إلى نور الإسلام: ﴿الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ [إبراهيم: 1]. لذا نرى القرآن الكريم يعرض منهج التاريخ وتفسيره ضمن منظومة منهجه الشامل لهداية البشر وإصلاحهم. "ولعل في قوله تعالى آمرا المسلمين: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين﴾ [الروم: 42] خير دليل على أن تفسير التاريخ كان أمرا إلهيا، إذ إن في هذه الآية أمرا بالاعتبار والنظر في الماضي واستخلاص العبر التي تعين على فهم الحاضر. وهذا هو المعنى الحقيقي لتفسير التاريخ".
ومما لا شك فيه أن المنهج التاريخى أخذ حيزًا كبيرا من المنهج الشامل للقرآن الكريم، فمن أول سور القرآن وهي سورة البقرة نجد العرض التاريخى لقصة خلق البشر والغرض من خلقهم ووجودهم فى الأرض: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ [البقرة: 30]. ثم نجد القصص القرآني وذكر تاريخ الأمم السابقة، قد جاء فى أكثر من 80 موضعا في سور القرآن، بل هناك سور كاملة فى عرض تاريخ الأمم السابقة كسورة يوسف.
وبالرغم من هذا العدد الكبير لمواضع الأحداث التاريخية للأمم السابقة فى آيات القرآن الكريم فإننا لا نجد ذكرا لكلمة التاريخ فيه صراحة (ولا حتى في السنة النبوية)، فكما ذكرنا سابقا في مفهوم التاريخ في لغة قريش وهي اللغة التي نزل بها القرآن أن المصطلح عند عرب الشمال لا تعني ولا تفي بمراد القرآن الكريم من عرض أحوال الأمم السابقة، لذا نجد القرآن الكريم قد استخدم أربعة ألفاظ (بمشتقاتها) في معظم مواضع عرض الأحداث التاريخية، وهي:
نبأ: وهو الخبر الهام ذو الفائدة العظيمة.
خبر: وهو العلم بشيء مضى أو شيء حاضر أو سيحدث مستقبلا بقطع النظر عن صحته من عدمه. أو هو الخبرة والإحاطة بشكل دقيق بالحدث.
قصص: وهو تتبع الأثر للوصول إلى الهدف والغاية المرادة، وقصص القرآن أخباره عن أحوال الأمم الماضية ، والنبوات السابقة ، والحوادث الواقعة، وقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي ، وتاريخ الأمم ، وذكر البلاد والديار. وتتبع آثار كل قوم ، وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه.
(وقول الحق: ﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾ [الأعراف: 176] يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخًا، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ، بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتى سبحانه بلقطة جديدة، لتعدد ما فى القصة الواحدة من العبر، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة. ونجد فى القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل، ومن قصص المبطلين مع المحقين، ومن قصص المعاندين مع الرسل لأن القصة أمر واقعي ـ والتقنين للمناهج أمر لفظى، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع، لأن واقع الحياة يعطى القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظرى معزول عن الواقع).
فالقرآن إذًا حوى كلمات جاءت لتخبرنا أو تنبئنا أو تقص علينا الأحداث التاريخية، الماضية والحاضرة والمستقبلية، وتجمع لنا التجارب البشرية عبر التاريخ الإنسانى، (وهي تحدثنا عن مواقف الأفراد والجماعات إزاء عدد من الأحداث والقيم التاريخية، يمتد بعضها إلى خلق آدم، وردود الأفعال التي أثارتها هذه الخطوة الإلهية الحاسمة، ويصل بعضها إلى عدد من التجارب التى مارسها أفراد عاديون سلبا (وقائع أصحاب الجنتين، أصحاب الحجر، وقوم لوط) أو إيجابا (أهل الكهف وأصحاب الأخدود) أو نفذها قادة وملوك وزعماء كبار (فرعون وقارون وذو القرنين وأصحاب الفيل)، مرورا بسلسلة الأنبياء الطويلة الذين أرسلهم الله ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده... وتتجاوز بعض آيات القرآن الماضي والحاضر لكى تمد رؤيتها إلى المستقبل القريب أو البعيد في تنبؤات تاريخية يحيطها علم الله تعالى المطلق بالصدق الكامل والضمانة النهائية، ولقد نفذ بعض هذه التنبؤات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وظل بعضها الآخر ينتظر التنفيذ).
إن القرآن من المصادر الأساسية في فهم وتعليل بعض أحداث السيرة النبوية كالغزوات الكبار مثل أحد وبدر والخندق وحنين وتبوك، فقد شغلت غزوة أحد حيزًا كبيرًا من سورة آل عمران، وكذلك غزوة تبوك في سورة "براءة".
كما يحدثنا القرآن وبصورة مفصلة عن نفسيات وأخلاق المشركين وأهل الكتاب وخاصة اليهود، ولا يخفى ما لليهود والنصارى من دور في الأحداث العالمية، ولا شك أن الذي يُخدع بهؤلاء لم يتمكن من فهم القرآن من قلبه، ولم يستوعب دروسه، كما يحدثنا بشكل مفصل عن فئة قد توجد في كل عصر ويكون لها دورها في المجتمعات الإسلامية وهم المنافقون، الذين يخربون من الداخل. هذه الفئة وصفها القرآن حتى كأن صورة كل منافق ترتسم أمامنا شاخصة تلوح، وإن دراسة هذه الأصناف من البشر لهي جديرة أن تعطي للمؤرخ نظرة دقيقة ورحبة عما جرى ويجري من حوادث التاريخ.
ورد في السنة أحاديث صحيحة تذكر أحداثًا ستقع أو تحذر المسلمين من أمور يجب عليهم ألا يفعلوها، أو تصف عصرًا بصفة معينة، كل هذا يلقي أضواءً تعيننا على تحليل وفهم أحداث التاريخ الإسلامي.
هناك علماء لم يصرفوا جُل عنايتهم للتاريخ، ولكن لهم آراء وتعليقات على بعض الأحداث، أو نظرات عامة لبعض العصور والدول، وآراؤهم هذه لها قيمة كبيرة، لأنهم أشد الناس إنصافًا وتحريًا للحق. وليس لهم غرض عند الحكام أو المحكومين، يقول الإمام أحمد بن حنبل - عن الذي يتوقف في خلافة علي رضي الله عنه ويقول: لا أدري هل كان الحق معه أو مع غيره؟، ويظن أن هذا من شدة تحرّيه - يقول عنه: (هو أضل من حمار أهله)!.
ويقول ابن تيمية - موضحًا رأي أهل السنة في ملوك الدولتين الأموية والعباسية -: (ما قال أهل السنة أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون تولى هؤلاء وكان لهم سلطان وقدرة؛ فانتظم لهم الأمر، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج والجُمَع والأعياد وأمن السبل، ولكن لا طاعة في معصية الله).
وعندما طعن العلماء في نسب العُبيديين الذين كانوا بمصر والذين تسموا "بالفاطميين" وقالوا: ليس لهم أي صلة بنسب علي بن أبي طالب، وأنهم مجوس ملحدون، فهذا الطعن له أهمية كبيرة، ويساعدنا على فهم تصرفات هذه الدولة.
فهؤلاء العلماء من أمثال أبي حامد الإسفراييني وأبو الحسن القدوري والبيضاوي وابن الأكفاني وغيرهم لا يمكن أن يشهدوا هذه الشهادة تقربًا وتملقًا للخليفة العباسي ببغداد، كما يريد أن يصورهم البعض، وهؤلاء أجلّ من أن يشهدوا زورًا من أجل الخليفة.
ويبدي ابن تيمية رأيه في خلفاء بني العباس من ناحية إقامتهم للصلوات فيقول: (وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدًا للصلوات في أوقاتها من بني أمية). ويقول أيضًا ذاكرًا بعض سلبيات الدولة العباسية: (وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الفتنة ههنا)، وظهر حينئذ كثير من البدع، وعُرّبت أيضًا إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم، وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيمانًا؛ فصار يتتبع المنافقين الزنادقة). ويقول أحد علماء المغرب المعاصرين - موضحًا حرص العباسيين الأوائل على نشر السنة: (ولما أراد بنو العباس نقل عاصمة الملك إلى بغداد، لم يجدوا في العراق ما يكفي لنشر السنة إلا بأن أتوا من المدينة بعلماء مهدوا السبيل كربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد، وارتحل إليهم هشام بن عروة وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومحمد بن إسحاق، ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك).
من أمثال الطبري وابن كثير والذهبي وابن الأثير والسخاوي؛ فهؤلاء يجمعون بين علم الحديث والفقه من جهة، والتاريخ والكتابة التاريخية من جهة أخرى. ولا شك أنهم مقدمون في توثيقهم للحدث التاريخي أو فهمهم له على المتخصصين في التاريخ الذين لا يهتمون إلا بجمع المادة التاريخية سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة. فعندما يبدي ابن كثير رأيه في الحجاج بن يوسف ويقول عنه: (وقد كان ناصبيًا يبغض عليًا في هوى آل مروان، وكان جبارًا عنيدًا، مقدامًا على سفك الدماء بأدنى شبهة)، عندما نسمع هذا لا نلتفت إلى ما يحاوله بعض المعاصرين من الدفاع عن الحجاج دفاعًا باردًا؛ فهو ظالم لا شك في ذلك، وكلام ابن كثير هو الحق.
ويقول الذهبي عن أمير مصر - زمن الوليد بن عبد الملك - قرة بن شريك: (ظالم جبار، عاتٍ فاسق، مات بمصر بعد أن وليها سبعة أعوام). وكيف يكون عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، مجددًا إذا لم يكن هذا الظلم قبله؟!
ويقول الذهبي أيضًا عن أبي مسلم الخراساني: (كان بلاءً عظيمًا على عرب خراسان فإنه أبادهم بحد السيف).
وهؤلاء العلماء المؤرخون معتدلون منصفون يرجعون بالحق إلى نصابه إذا طاشت الكفة هنا أو هناك، فغُلُوّ الروافض يقابله أحيانًا غلو من جهلة أهل السنة، وتأتي أقوال هؤلاء العلماء هي الحَكَم الفصل، خاصة عندما يغلب على الناس قلة الإنصاف. يقول ابن كثير - معلقًا على حديث (خلافة النبوة ثلاثون عامًا ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) -: (هذا الحديث فيه رد صريح على الروافض المنكرين لخلافة الثلاثة، وعلى النواصب الذين ينكرون خلافة علي بن أبي طالب).
ويقول الذهبي عن معاوية - رضي الله عنه -: (حسبك بمَن يؤمّره عمر ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر - فيضبطه ويقوم به أتم قيام، فيرضي الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا منه وأفضل، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وقوة دهائه وله هنات وأمور والله الموعد).
وعلى رأسهم مؤسس علم الاجتماع وعالم نقد التاريخ عبد الرحمن بن خلدون الذي حاول في مقدمته المشهورة أن يضع الأسس التي تساعد المؤرخ على تفهم أحوال الدول وتقلباتها وأسباب اضمحلالها، والمجتمعات وأسباب رقيها وانخفاضها، وليس هذا موضع تفصيل نظريات ابن خلدون في مقدمته ولكن نضرب مثالًا واحدًا للأسس التي وضعها لفهم حقائق التاريخ.
فقد نبه ابن خلدون في مقدمته إلى ناحية مهمة جدًا يذهل عنها أكثر الناس وهي تبدل أحوال الناس وتطورهم من حالة إلى حالة، في كثير من العادات والتقاليد أو طريقة التفكير وتناولهم للأمور، أي يجب أن نفهم طبيعة العصر الذي عاش فيه فلان أو قامت فيه الدولة الفلانية، ولا نقيسه على عصرنا تمامًا، فالبيئة العلمية التي تكون في عصرٍ ما هي التي تساعد على ظهور علماء مجتهدين، والذي يظن أنه يجب أن يكون بيننا الآن من أمثال هؤلاء العلماء دون أن يكون هناك بيئة علمية فهو واهم، وقس على ذلك البيئة الجهادية التي بدأها عماد الدين زنكي وابنه نور الدين والتي كان من نتائجها صلاح الدين الأيوبي.
والذي لا يتفطن لهذا يظن أن الأمور متشابهة من كل الوجوه. وقد يرى ما عليه الصحابة والتابعون من قيامهم بالأعمال الجليلة، سواء في قيادة الجيوش أو التعليم، فيظن أنه يمكن أن يتأتى له هذا دون تدريب وتعلم، ولا يعلم أن العرب - لأول عهدهم بالرسالة - كانوا من صفاء الذهن والذكاء والفصاحة ما جعل هذه الأمور سهلة عليهم. فهم يعلمون طبيعة الناس والمجتمعات دون أن يدرسوا علم النفس وعلم الاجتماع مثلًا، وقد يرى ما عليه بعض العلماء في العصور المتأخرة من التصنع في اللباس والهيئة فيظن أن العلماء السابقين كانوا هكذا.
يقول ابن خلدون: (من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. ومن هذا الباب ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ، إذ سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرياسة في الحروب، فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب، يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل).
وللمؤرخين من غير المسلمين - وخاصة الغربيين - نظريات في التحليل التاريخي يجب أن لا تُهمل، بل نستفيد منها مع الحذر لما فيها من تعميم أو نظريات مادية أو غير صحيحة. فالمؤرخون الغربيون لهم جهود كبيرة في علم التاريخ، بل نستطيع القول إن اهتمامهم بهذا الفن قد بلغ مبلغًا عظيمًا، وذلك لما رأوه من أثر دراسة التاريخ في معرفة الحاضر والتخطيط للمستقبل.
كما أن الدراسات النفسية والاجتماعية التي تقدمت وتطورت كثيرًا في هذا العصر - هي من المصادر التي يُعتمد عليها مع التنبه إلى عدم المغالاة فيها وفي حشرها في كل شيء.
المنهج لغةً: "وسيلة محدّدة توصِّل إلى غاية معيَّنة، والمنهج العلمي: خُطَّة منظّمة لعدَّة عمليّات ذهنيَّة أو حسيَّة بُغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها". "قال الرّاغب الأصفهانيُّ في مفرداته: "النَّهْجُ: الطريقُ الوَاضِحُ، ونَهَجَ الأمْرُ وأَنْهَجَ: وَضَحَ، ومَنْهَجُ الطَّرِيقِ ومِنْهَاجُهُ، قال تعالى: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾ [المائدة: 48]". فالمنهج إذًا هو الطريق الواضح، الّذي لا يتيه سالكُه، بل يصلُ إلى غايته من ورائه مباشرةً، بلا التواءٍ ولا تعرُّج.
ولقد "كان العلماء المسلمون يعبرون عن المنهج بالأصول والقواعد، ولذلك وضعوا أصولا وضوابط للبحث في مختلف العلوم، مثل أصول الحديث (المصطلح)، وأصول التفسير، وأصول الفقه".
أما منهج البحث التاريخي "فهو مجموعة الطرق والتقنيات التي يتبعها الباحث والمؤرخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية، وإعادة بناء الماضي بكل وقائعه وزواياه. وكما كان عليه زمانه ومكانه. ويجمع تفاعلات الحياة فيه. وهذه الطرق قابلة دوما للتطور والتكامل مع تطور جموع المعرفة الإنسانية وتكاملها ومنهج اكتسابها". ويضيف الدكتور حسن عثمان "أن منهج البحث التاريخي هو المراحل التي يسير خلالها الباحث حتى يبلغ الحقيقة التاريخية - بقدر المستطاع - ويقدمها إلى المختصين بخاصة والقراء بعامة. وتتلخص هذه المراحل فى تزويد الباحث نفسه بالثقافة اللازمة له، ثم اختيار موضوع البحث، وجمع الأصول والمصادر، وإثبات صحتها، وتعيين شخصية المؤلف وتحديد زمان التدوين ومكانه، وتحرَى نصوص الأصول وتحديد العلاقة بينها... وإثبات الحقائق التاريخية وتنظيمها وتركيبها والاجتهاد فيها وتعليلها، وإنشاء الصيغة التاريخية ثم عرضها عرضا تاريخيا معقولا".
يقول ابن خلدون: "اعلم أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم؛ حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا. فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمدت على مجرد النقل ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قِيسَ الغائبُ منها بالشاهد والحاضر بالذاهب؛ فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة فى الأخبار".
(لا شك أن من المهمات الرئيسة للمؤرخ بعد الاطلاع على المرويات التاريخية، تمحيص الخبر وبيان صحته أو زيفه، وذلك بعد عرضه على منهج واضح محدد المعالم يرتضيه هو لنفسه، ذلك أن الخبر بطبيعته يتطرق إليه الوهم والغلط أو الكذب أحيانًا، وقد تكلم ابن خلدون في مقدمته عن الأسباب التي تقتضي الكذب في الأخبار فذكر منها:
١. التشيعات للآراء والمذاهب.
٢. الثقة بالناقلين.
٣. الجهل بالقوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية.
٤. الجهل بطباع العمران).
وإذا كان الخبر التاريخي يختلف عن نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلا أن (منهج الجرح والتعديل الذي قام به أهل الحديث هو من أعظم العلوم التي برز فيها المسلمون، وإن تطبيق هذا المنهج على الروايات التاريخية - إن أمكن ذلك - لهو في غاية الأهمية، ولكن هناك صعوبات تعترض هذا التطبيق، منها:
١. لم تؤلف الكتب في جرح وتعديل رواة التاريخ كما وقع لرواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٢. إن البحث والتفتيش عن الرواة انتهى في القرون الأولى بعد أن اطمأن علماء الحديث إلى حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التاريخ حركة دائبة، فكيف العمل في الأحداث التي جاءت من بعد؟
٣. تتدخل عوامل كثيرة في الحدث التاريخي غير الرواية، مما يساعد على التأكد أو الشك في الخبر، كالآثار التاريخية والعوامل الجغرافية.. إلخ. لهذه الأسباب ولغيرها لا بد من الجمع بين منهج أهل الحديث، وما ذكره ابن خلدون من عدم مخالفة الخبر لسنن الاجتماع، أو عدم مخالفته للعقل الصريح، مع الاستفادة أيضًا من مناهج النقد الحديثة عند دارسي التاريخ، مما يتفق والأصول العامة للإسلام.
وقد طبق ابن خلدون منهجه في نقد الخبر وهو: هل يثبت هذا الخبر أولًا إذا عرض على قواعد علم الاجتماع، أو أنه يتناقض مع طبيعة العصر وطبيعة العلاقات الاجتماعية يومها؛ وذكر أمثلة على منافاة الأخبار لطبيعة قواعد علم الاجتماع نذكر منها:
أ- قصة العباسة أخت الرشيد قال: (ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه، وأنه لِكَلَفه بمكانهما أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصًا على اجتماعهما في مجلسه، وأن العباسة تحيلت على التماس الخلوة، فحملت من جعفر ووشي بذلك للرشيد فاستغضب) ويتابع ابن خلدون نقده لهذا الخبر: (وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها، وأبويها، وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربع رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده، والعباسة بنت محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ترجمان القرآن، ابنة خليفة، أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز، قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة... الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش، وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على همته وعظم آبائه؛ وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واستنكاف الرشيد عن الحَجْر والأنفة..).
ب- كثيرًا ما يقع المؤرخون في الوهم والغلط عندما يكون الخبر متعلقًا بالأرقام والإحصائيات، كإحصاء الجيوش، أو أموال الخراج، وبعض الناس عندهم ولع بتضخيم الأرقام، فيذكرون أشياء تصادم العقل والبديهيات، وتصادم قانون النمو السكاني، وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين قبله لوقوعهم في هذه الأغلاط، واعتمد في نقده على علم الإحصاء، وتكاثر السكان ضمن البيئة الجغرافية التي يعيشون فيها. يقول: (وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، وأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون).
يعلق ابن خلدون على هذه الرواية: (ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبًا منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفًا كلهم متبوع، وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف، وعن عائشة والزهري أن جموع رستم التي زحف بها لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا.
وأيضًا، فالذي بين موسى وإسرائيل (يعقوب عليه السلام) إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد).
ولا بد من التأكيد على أن منهج أهل الحديث في نقد الخبر هو من أعظم المناهج، وإذا استطعنا الجمع بين هذا المنهج ومنهج النقد الاجتماعي والعقلي عند ابن خلدون وغيره من دارسي التاريخ - مع بعض التحفظات على هذه المناهج - فسوف نؤدي بعملنا هذا خدمة جليلة للتاريخ الإسلامي).
يتضح لنا مما سبق من كلام ابن خلدون أن هناك قواعد يجب أن تُراعى وتُتبع فى منهج البحث التاريخي وطريقة دراسته. ومن خلال كلامه وكلام علماء آخرين نستطيع أن نجمل بعضًا من تلك القواعد:
يجب على المتصدي للبحث التاريخي أن يملك تصورًا صحيحًا، عقديًا وفكريًا وأخلاقيًا، ليمكنه من دراسة وتفسير الأحداث التاريخية بصورة صحيحة بعيدة عن الأهواء، (فالوحي الرباني هو المصدر المأمون الذي يتميز بالثبات والشمول ويقدم التفسير الشامل للحياة والكون والإنسان وحقيقة الألوهية والعبودية، لأنه كلام رب العالمين العليم الخبير المطلع على كل شىء، والمبرأ مما يعتري البشر من القصور والظلم والجهل وسوء الفهم والارتباط بالمصلحة والبيئة التي نشأ فيها، والتربية التي تلقاها، والمفاهيم والتصورات المتوارثة… فلقد وضع الإسلام ضوابط لمنهج العلم وتلقيه كما وضع ضوابط لأدوات العلم والمعرفة. فالعقل والسمع والبصر أدوات زود الله بها الإنسان ليحصل عن طريقها على المعرفة. فهي أدوات لا مصادر مستقلة للمعرفة. واعتبار أن الوحي الرباني الذي يرجع إليه لضبط المعرفة).
يقول محمد قطب رحمه الله: "إنما يُستمد التفسير الإسلامي للتاريخ من الإسلام؛ من المقررات الإسلامية عن الوجود كله، سواء الوجود الإلهي، أو الوجود الإنساني، أو الوجود المادي، وعلاقة الخالق بمخلوقاته، وعلاقة الخلق بخالقهم، والسنن التي يجري بها الله أمر البشر وأمر الكون المادي سواء".
فالباحث التاريخي يجب أولًا أن يكون على علم بالسنن الربانية التي يجريها الله سبحانه وتعالى على خلقه، فيجب عليه أن يدرك التالي:
- أن سنة الله نوعان: "سنة متعلقة بالأمور الطبيعية، كسنة الله في تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، فهي تجري وفق ناموس محدد قدّره الله لها. وسنة متعلقة بدين الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فهي ثابتة لا تتبدل، مثل نصره لأوليائه وإهانته لأعدائه.
- أنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينتقض ولا يتبدل ولا يتحول، فهو سبحانه لا يفرق بين المتماثلين، وإذا وقع فذلك لعدم التماثل... يقول ابن تيمية: (ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها. لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن).
- السنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلا لكي ترى متحققة في الواقع، في حين أن عمر الفرد محدود، ولذلك فقد لا يرى السنة متحققة في الواقع.
- من خلال دراسة التاريخ يعلم الإنسان أن الحاضر الذي يعيشه إذا كان فيه ما يتصور أنه مخالف لسنة الله الشرعية - غير مستثنى من السنة الربانية بل هو جزء منها، ولكن للسنة الربانية أجل ووقت محدد".
(تتحدد قيمة التاريخ المكتوب بناء على قدرة الباحث على الدرس والبحث، وقدرته على نقد ما تحت يديه من الأصول والمصادر والمراجع، وطريقته في استخلاص الحقائق وتنظيمها وتفسيرها وعرضها).
فحوادث التاريخ تعرف إذًا بصفة أساسية عن طريق غير مباشر، بدراسة آثار الإنسان المتنوعة التي تُحفظ من الضياع. فالمؤرخ لا يرى الحوادث نفسها، ولكنه يرى ويدرس آثارها. وبين نقطة البدء وهي آثار الإنسان المتنوعة والهدف المراد الذي هو الحقيقة التاريخية طريق طويل معقد متشابك عتوره المصاعب والعقبات والأخطاء. ودراسة الأصول التاريخية وتحليلها هي من أهم المراحل في طريقة البحث، وهي عبارة عن ميدان نقد الأصول التاريخية.
ويمكن أن يطلق عليها العلوم اللازمة للباحث والتي تساعده في البحث التاريخي، ويمكن إجمالها في التالي:
إن دراسة التاريخ بعامة وتاريخ الأمة المسلمة بخاصة لا ينبغي أن يكون لمجرد المعرفة أو التسلية أو حفظ الحكايات والأخبار والتحدث بها، لأنه علم جليل ذكر الله منه في كتابه العزيز وهو كتاب هدى ونور مبين.
إن لدراسة التاريخ ثمرات وأهداف متعددة، تشمل الفوائد التربوية؛ ومعرفة وإدراك السنن الربانية، كسوء عاقبة المكذبين، مداولة الأيام بين الناس، وزوال الأمم بتفشي الظلم وبالترف والفساد، واستحقاق المؤمنين لنصر الله؛ والتعرف على معالم تاريخ الإنسانية، كيف بدأت، وكيف تطورت الحضارة الإنسانية، ومسيرة الأنبياء في تاريخ الإنسانية؛ وتأكيد بعض الحقائق الهامة في حياة الإنسان، فالله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، والتوحيد هو أول ما عرفته البشرية؛ والاستفادة والتعلم من الخبرات المكتسبة عبر تاريخ البشرية؛ ومعرفة الحركة العلمية في كل عصر؛ والمساعدة على فهم الحاضر؛ وبث الأمل في نفوس المسلمين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فإن سيرةَ النبي هي من أجَلِّ ما يُعتنى به، فهي ديوانُ حياة الرسول الكريم، سيدِ وَلَدِ آدم. وقد كان الصحابةُ والتابعون شديدي العنايةِ بهذا الأمر.فهذا زينُ العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يُروى عنه قوله: كُنا نُعلَّمُ مغازي النبي وسراياه كما نُعَلَّمُ السورةَ من القرآن. وعن ابن شهاب الزهري: في علمِ المغازي علمُ الآخرةِ والدنيا. وهذا إسماعيل بن محمد بن سعد يقول: كان أبي يُعلمنا مغازيَ رسولِ الله ويَعُدُّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بَنِيّ! هذه مآثرُ آبائكم فلا تُضَيِّعوا ذِكرَها.
ولما كان المقصودُ من السيرة التأسِّي والاتِّباع، كما قال تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ [الأحزاب: 21]، لَزِمَ أن يكونَ هذا التأسّي مَبنيًّا على نَقْلٍ ثابتٍ عن رسول الله، شأنُه في ذلك شأنُ سائرِ الأحكامِ الاعتقادية والعملية. ومُنطَلَقُ ذلك بالأساس هو انْدِراجُ السيرةِ تحت مَصدَرَي التشريعِ الأصليين: الكتاب والسنة.
لكن كُتبَ السيرةِ كثيرة، وفيها من الأخبارِ الغَثُّ والسَّمين، ولهذا قال عن تلك الكتب أحمدُ بن حنبل: ثلاثةُ كُتبٍ ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير).
ومن أجل هذا لزمت العناية بالسيرة النبوية، حتى تكونَ لنا نبراسًا ينير الطريقَ ونهتدي به. وفي سبيل ذلك لا بد من اتباع الصحيح من مرويات السيرة النبوية، مع العناية الخاصة بما أثبته الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، بعد كتاب الله تعالى.
السِّيرةُ لغةً: قال ابنُ فارس: السِّين والياء والرَّاء أصلٌ يدلُّ على مضيٍّ وجريان؛ يقال: سار يسير سيرًا. والسِّيرةُ: الطَّريقةُ في الشَّيء، والسُّنَّةُ؛ لأنَّها تسير وتجري.
وقال ابنُ منظور: «السِّيرةُ: الطريقة. يقال: سار بهم سيرةً حسنةً. والسِّيرةُ: الهيئة، وفي التَّنزيل الكريم: ﴿سنعيدها سيرتها الأولى﴾ [طه: 21]. وسيَّر سيرةً: حدَّث أحاديثَ الأوائل»، وبهذا يكون معنى السيرة النبوية في اللغة: ما أضيف إلى النَّبيِّ من السُّنَّة والطَّريقة والهيئة وأحاديث الأوائل.
السِّيرةُ اصطلاحًا: لها دلالات متنوعة؛ فقد تكون مرادفةً لمعنى السُّنَّة عند علماء الحديث؛ وتعني طريقة النَّبيِّ عند علماء العقيدة والأصول، كما تعني عند علماء التاريخ أخبارَه ومغازيه . وهذه الدلالات والمعاني ليست متضادَّةً؛ إنَّما هي متنوِّعةٌ ومتكاملةٌ.
وبهذا نستطيع أن نقول في تعريف السِّيرة النَّبويَّة اصطلاحًا: هي دراسة حياة النَّبيِّ وأخباره وأخبار أصحابه على الجملة، وبيان أخلاقه وصفاته وخصائصه ودلائل نبوَّته وأحوال عصره؛ فالسِّيرةُ النَّبويَّة تشمل كلَّ ما يتعلَّقُ بالنَّبيِّ، وأحوال عصره، وأخبار أصحابه؛ لأنَّ السِّيرةَ هي: فعله وإقرارُه لفعل أصحابه رضي الله عنهم.
إن السيرة هو اللفظ الذي اختاره قدماء المؤلفين في السير، وقدماء الفقهاء، بلا تكلف، حتى صار عرفا إذا ذكر اسم السيرة ألا ينصرف إلا إلى سيرة النبي ﷺ، أو سير أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. بخلاف من جعل عنوان سيرة النبي عبقرية أو زعامة سياسية أو قيادة حربية، كما صنع مؤلفو «العبقريات» أو الذين ألفوا في الزعامات والقيادات، أو كما صنع «كارليل» في كتابه «الأبطال» أو بعض من كتب عن «رسول الحرية»، إلى غير ذلك مما افتن فيه المؤلفون؛ لأننا نؤمن عن يقين وعلم أنه ﷺ فوق هؤلاء جميعا، إنه النبي والرسول، وكفى!!
والعبقري: هو الأصيل الرأي، البعيد النظر، الذي لا يفوقه أحد في حل المشكلات، من غير تعمل، ولا تكلف، وقد وصف به النبي ﷺ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت- أي الدلو- غربا، فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس، وضربوا بعطن». ولم يُعلم أحدٌ غير عمر وصفه النبي ﷺ بالعبقري، وهو ما عبر عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث آخر «بالمحدَّث».
فمن ثم نرى أن المعاني كلها تلتقي عند معنى الإلهام، وأن في بعض الروايات التنصيص على أنه إلهام بغير نبوة، فدل على فرق ما بين إلهام الأنبياء وإلهام المحدَّثين غير الأنبياء، وهذا الإلهام بغير نبوة هو ما يعرف بالعبقرية، فهي لا ترجع إلى الذكاء، والفطنة، والتجربة، وإنما مرجعها إلى الإلهام وإلقاء الصواب في النفس من غير تعمل وتكلف، فالعبقرية إذًا تليق بملهم محدث من أصحابه كعمر، والزعامة إنما تليق بسياسي محنك كمعاوية مثلا، والقيادة الحربية إنما تليق بأمثال سيف الله خالد، وسعد، وأبي عبيدة، والبطولة إنما تليق بالكثيرين من أصحابه كعلي، وأبي دجانة، وأبي طلحة، والمقداد بن عمرو، وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم أجمعين- على ما اتصفوا به من قوة الإيمان، وحسن السيرة، وسمو الأخلاق.
إنه ﷺ فوق أي عبقري، وأجلّ من أي زعيم، وأعظم من أي قائد، وأشجع من أي بطل، وأسمى من أي مصلح، لقد جمع له من صفات هؤلاء خيرها، وأفضلها، وأعدلها، وأرحمها. ولكنه فوق هؤلاء جميعا، إنه نبي يوحى إليه، ورسول يبلغ عن ربه، وهذا ما لا يدرك ولا ينال.
والذين كتبوا في حياة النبي وسيرته من غير المسلمين لا يؤمنون به على أنه نبي ورسول، فمن ثم كتبوا عنه على أنه عظيم، أو بطل، أو مصلح، أو زعيم أو نحو ذلك، وإن كان بعضهم كتب عنه تحت عنوان «حياة محمد» ولا يجوز لنا معاشر المسلمين المؤمنين، ولا سيما أهل العلم، والدين، أن نجاريهم فيما عنونوا.
ومن العجيب حقا أن هذا المعنى الدقيق سبق إلى العلم به العباس عم النبي ﷺ، على حين غفل عن إدراكه كبار الكتاب، وحذاق المؤلفين المعاصرين الذين ضربوا في كل علم وفن بسهم، وليس أدل على هذا من هذه القصة: ذلك أنه لما أسلم أبو سفيان بن حرب ليلة الفتح- وكان العباس رضي الله عنه قد سبقه إلى الإسلام- قال النبي للعباس: «خذ أبا سفيان، وقف به عند خطم الجبل وذلك ليرى جيش الفتح، فمرت به كتائب الله، وفيها «الكتيبة الخضراء» كتيبة رسول الله ﷺ، فلم يملك أبو سفيان نفسه أن قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما!! فقال له العباس رضي الله عنه: إنها النبوة يا أبا سفيان!! فقال: نعم والله إنها النبوة!!»
يقول محمد أبو شهبة: لقد وقفت عند هذه الكلمة طويلا، وهي التي أوحت إلي بما كتبت، وأكدت في نفسي ما كنت علمت.
إن المسلمين جميعًا يحبون قراءةَ سيرة النبي ﷺ وسماعَها، وكلٌّ له غرضٌ في ذلك:
فمِنهُم مَنْ يحبها لِحُبِّهِ صاحبَها، وهو النبي محمد ﷺ، فيُحِبُّ أن يَتَعَرّفَ صفاتِه وأخبارَه.
ومِنهم مَن شُغِفَ بالقَصَص، ولن يجدَ أحسنَ ولا أعظمَ مِن قَصص النبي وأصحابِه.
ومِنهم مَن يَتبرّكُ بسماع سيرةِ الحبيب، فيرجو حصولَ الثوابِ والبركةِ والخيرِ بمجالس السيرة العَطِرَة.
ولا رَيبَ أنّ هذه كلَّها مقاصدُ محمودة، إلا أنَّ الغايةَ الرئيسةَ مِن مَعرفةِ السيرةِ هي التأسِّي والاتِّباع والاعتبار.
فأما الأسوة، فقد قال تعالى عن نبينا الكريم: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ [الأحزاب: 21]، والآيةُ في سورةِ ”الأحزاب“ في أثناءِ الحديثِ عن هذه الغزوةِ العظيمة، وهي مرحلةٌ فاصلةٌ في السيرة النبوية، كما سنعرف بإذن الله.
والأسوةُ: القدوة. والأسوةُ أيضا: ما يُتَأسَّى - أي يُتعزَّى - به.
فيَقتدي المسلمُ بنبيه في جميع أفعاله.
ويَتعزَّى المسلم بنبيه في جميع أحواله. فإذا أصابه أي بلاء أو مصيبة، تَذَكّرَ ما أصاب النبيَّ مِن ذلك، فيَهُونُ عليه بَلاؤه ومُصيبته.
وقال تعالى في أهمية اتباع النبي: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم﴾ [آل عمران: 31].
وأما الاعتبار، فقد قال تعالى في أول حكايته لغزوة بني النضير: ﴿هُهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ [الحشر: 2]. فأمرنا بالاعتبار، وهو الاستفادةُ من القَصَص المحكيِّ لحياتنا وواقعنا.
وقال تعالى عن قصص الأنبياء عموما - وذلك في ختام قصة يوسف عليه السلام -: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولـكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ [يوسف: 111].
فمِنْ هذه الآيات، يتبين لنا أنَّ سيرةَ النبي ﷺ وقَصَصِ إخوانه من الأنبياء هي أحسنُ القَصَص، وهي بيانٌ لكل الناس، لكنها تَذكرةٌ وموعظةٌ وهدايةٌ لأولي الأبصار والألباب، الذين يؤمنون بالقرآن وبالنبي، فينتفعوا بالموعظة والعبرة.
إن الأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى هذا المنهج في دراسة سيرة نبيها والاعتزاز بها؛ لترتفع إلى مكان الصدارة والريادة، وتحصل لها القدرة والتمكن من القيادة الراشدة للمجتمعات الإنسانية، وتتحمل المسؤولية تجاه هداية البشرية وردها إلى الصراط المستقيم، وتكون خير أمة أخرجت للناس في قضاء الله وحكمه، وفي واقع حياتها؛ قال تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ [البقرة: 143]، وقال تعالى: ﴿ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس﴾ [الحج: 78].
فالله جعل هذه الأمة وسطا؛ أي عدولا وخيارا، وجعلها شهيدة على الناس جميعا، ورسولها هو خاتم الرسل وأفضلهم، وهو شهيد على أمته بإبلاغها ما أنزل إليه من الوحي، وببيان الوحي المتلو بسنته القولية، وبسنته الفعلية، وبتقريره؛ قال تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى﴾ [النجم: 3، 4].
وقد أدى عليه الصلاة والسلام الشهادة كاملة وبلغ البلاغ المبين، ورفع الأمة بهذا الوحي إلى مراقي النجاح والفلاح بعد أن كانت أمة أمية تعيش في ضلال مبين؛ قال تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ [الجمعة: 2].
فالرسول- عليه الصلاة والسلام- هو معلم الكتاب ومبلغ الوحي إلى عباد الله، وهو مزكي النفوس بهذا الوحي، وهو منقي المسالك من الضلالات والأهواء والانحرافات، وهو مبين بسيرته لكيفيات تنزيل القرآن على الواقع، وتقويم السلوك البشري بهدي القرآن وبناء الأمة والمجتمع العالمي بالعلم والتزكية للنفوس والأخلاق.
وهذه الآية تضمنت أثر الوحي في بناء الأمة المسلمة، وأنه مادة بنائها وقاعدة فكرها ومنطلق تصوراتها؛ كما تضمنت بيان وظيفة الرسول ومهمته من تلاوة الوحي؛ وهي: تعليمه لهم، وتربيتهم على مقتضياته، وتزكية نفوسهم وأخلاقهم من خلال قوله وفعله، والأمة مطلوب منها للشهادة على الناس القيام بواجب البلاغ والعمل بذلك؛ حتى تكون قدوة للناس جميعا، ولكي تحصل لها القدرة والتمكن من أداء الشهادة على وجهها يلزم أن تكون في موقع القيادة الراشدة للمجتمعات الإنسانية، والريادة في كل المجالات النافعة، وتحمل المسؤولية تجاه هداية البشرية جمعاء إلى الحق والهدى.
وقد تحقق السيادة والريادة للجيل الأول عندما صدق في التأسي والمتابعة للرسول ؛ فتمكن من التطبيق الواقعي لنصوص القرآن والسنة، ولابد لاستئناف الحياة الإسلامية الصحيحة من تمثل السيرة النبوية في الواقع المعاش على مختلف المستويات، وفي كل المواقع والنواحي، وأن تكون دراستنا للسيرة النبوية بهذه المعاني العميقة والنظرة الشاملة، والفقه الواعي؛ حتى نصنع جيل النهضة، وثلة النصر وقاعدة التمكين للأمة.
وقد مرت حياة الرسول بمراحل وأطوار مختلفة، وجعل الله في سيرته وتصرفاته تنوعا وشمولا لكل جانب من جوانب الحياة ومواقفها المتغيرة؛ لتكون مساحة الاقتداء والتأسي واسعة وشاملة لكافة القدرات البشرية بفروقها الفردية وسجاياها الفطرية؛ فالرسول قدوة لكل المسلمين على مختلف عصورهم وتعدد مواقعهم الجغرافية وأحوالهم العلمية ومراكزهم الإدارية؛ قال تعالى: ﴿لَلقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما﴾ [الأحزاب: 21، 22].
قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، ولهذا قال- تعالى– للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟
ثم قال عز وجل مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة: ﴿ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله﴾؛ أي: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب؛ والمراد – كما قال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة – قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾ [البقرة: 214]؛ فهذه الآية الآمرة بالتأسي بالرسول نزلت بمناسبة غزوة الأحزاب حين رمى أهل الشرك والكفر المسلمين عن قوس واحدة وتحزبوا عليهم؛ حيث زلزلت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، وكاد أن يهتز الاقتداء لتأخر النصر؛ فجاءت لتؤكد أن الاقتداء إنما يكون في مواطن الشدة والصبر والبأس والضيق ومؤشرات فوت الحياة الدنيا، وتبين كيف أن الارتباط بالآخرة هو سبيل الصمود والحماية من السقوط؛ فالاقتداء لا يكون في اليسر دون العسر، والاقتداء لا يكون بالكماليات والتحسينيات من مقاصد الشريعة دون الضروريات والحاجيات، والاقتداء لا يكون بالأشكال دون الأفعال.
ومع أهمية الاقتداء بكل أفعال الرسول وأثرها في صياغة الشخصية المسلمة وبنائها على طريقة التربية النبوية إلا أنه من المعلوم أن للدين والشريعة الإسلامية مقاصد تتمثل في تحقيق ضروريات لا تقوم الحياة إلا بها، وحاجيات لا تحمى وتقام الضروريات إلا بتوفيرها، وكماليات وتحسينيات تعد أمورا جمالية انعدامها لا يؤثر كثيرا في قيام الحياة الصحيحة المستقيمة.
والمشكلة التي تعاني منها الأمة اليوم هي التخاذل والتفريط في الاقتداء بالرسول في الضروريات والمقاصد الكبرى للدين، وإذا وجد اقتداء فهو في التحسينيات التي لا تكلف جهدا وتضحية وبلاء؛ فهذه قضية بحاجة إلى إدراك ومعالجة.
وقضية أخرى هي كذلك بحاجة إلى تحرير القول فيها بعد أن تحول كثير من المسلمين في التاريخ المعاصر من التوكل إلى التواكل والإرجاء والعجز عن التعامل مع الحياة المعاصرة وتقويم مسيرتها؛ لقد خرج كثير من الناس من الحياة وافتقدوا القدرة على التعامل مع مشكلاتها في ضوء السيرة النبوية، فانتهى بعضهم إلى المقابر؛ سواء في ذلك من يعتبر الأموات سبيلا لحل مشكلاته، فيستغيث بهم، أو من يعتبر الأموات سببا لمشكلته فيرى معركته معهم؛ فألقى اللوم عليهم، واشتغل بسبهم.
وبعض آخر حاول ستر عجزه عن الاقتداء بالنبي والتأسي به بالإسقاط وإلقاء اللوم على الآخر من عدو خارجي أو عميل داخلي.
والقضية التي نعرض لها هي أن مسيرة السيرة النبوية كلها تحققت من خلال التعامل مع السنن الجارية التي تقتضيها بشرية الرسول وتحتملها عزمات البشر؛ لتكون السيرة محلا للاقتداء وإعادة البناء في كل زمان ومكان؛ إذ الاقتداء يقتضي العمل بالسنن الجارية، والفاعلية في الحياة، والحركة بذلك؛ أما السنن الخارقة والمعجزات والكرامات فلا تأتي إلا بقدر الله، ولمن قام بالواجب عليه حسب السنن الجارية والشريعة المقررة؛ وهي من إكرام الله لأوليائه، ونصره لهم، وتأييدهم بها، ولا يكونوا أولياء لله حتى يحققوا الإيمان والتقوى.
إن انتظار الكرامات والخوارق دون العمل يفتح الباب لإشاعة الخرافة والبدعة وتغييب السنة التي هي القانون الجاري، ومن الأمور الملفتة للنظر تسمية طريقة الرسول في التعامل مع الحياة والأحياء سنة بكل ما تحمل هذه التسمية من دلالات في المنهج والقانونية والإطراء .
إن آية الاقتداء نزلت يوم الأحزاب– كما أسلفنا، وقد أخذ الرسول وأصحابه بالأسباب، وحفروا الخندق، وعندما واجهت بعضهم صخرة كبيرة وعجزوا عن تفتيتها استعانوا برسول الله ، فأخذ معوله وضربها؛ محاولا تفتيتها طبقا للسنن الجارية في الحياة، وكله أمل في نصر الله لهم؛ فأكرمه الله إكراما عظيما وأراه آية جليلة؛ وهي البشرى بفتح بلاد فارس والروم للمسلمين وسقوط الباطل وأهله .
إن قيمة الاقتداء وفائدته وعطاءه وعظيم ثوابه إنما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه؛ فتفوته بعض النتائج في الدنيا ويخسر المعركة؛ لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إلى إبصار العواقب والمآلات؛ ذلك أن نقطة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء الله واليوم الآخر، واستمرار الذكر الذي يجلي هذه الحقيقة ويؤكد حضورها واستمرارها .
وتظهر أهمية السيرة النبوية في التكامل والشمول في فهم النصوص الشرعية، وضرورة الاقتداء والتأسي بالرسول في كل جوانب الحياة، والتعامل مع نصوصها الصحيحة الثابتة بكل تقدير واحترام؛ وقد يسر الله لهذه السيرة من يقوم على حفظها والعناية بأدق تفاصيلها؛ حتى كأنك تنظر إلى صاحبها وأحواله رأي العين، والتاريخ شاهد على أنه ليس في الدنيا أحد يصح أن تكون سيرته من الوضوح والكمال والصدق غير سيرة محمد وحياته.
يتميز التاريخ الإسلامي بميزة خاصة عن بقية تاريخ الأمم، إذ إن كل شيء مهما بلغ من شأن يظل دائما مرتبطا بنقطة البداية التي انطلق منها أولا.
ونقطة البداية في التاريخ الإسلامي مرتبطة بحياة نبي الإسلام وسيرته، فسيرة النبي ﷺ هي المدخل الطبيعي لدراسة تاريخ الاسلام، وبقدر ما يحيط الدارس علمًا بهذه السيرة ويفهم أسرارها وأخبارها، بقدر ما يستطيع أن يفهم التاريخ الإسلامي في جميع مراحله في كل زمان ومكان.
إن شخصية النبي محمد ﷺ الفذة لا تقاس بالإنجازات التي تمت في عصره فقط، ولكن بما نتج عن هذه الإنجازات وما تحقق بعده، بقيام الفتوحات الكبرى التي تمت في عهد الخلفاء، وتأسيس دولة الإسلام العظمى الممتدة من حدود الصين شرقا إلى جبال فرنسا غربا.
ولقد كان أثر هذا وما زال كبيرًا للغاية على البشر وحضاراتهم وثقافاتهم وأوضاعهم الاجتماعية والعقدية والسياسية والحربية.
ولقد بنى النبي محمد ﷺ أمة جديدة، فتربية محمد ﷺ تظهر جلية واضحة في أستاذيته حين أخرج العرب الممزقين الغارقين في ظلام الجهل، وعبادة غير الله، إلى نور التوحيد الذي جمعهم به بعد تمزق، ووحدهم به بعد تفرق، وأخرج من هذه الأمة قادة عظامًا، وجعل من الإنسان المسلم متحضرًا بعقله وإيمانه وحسن أخلاقه ومثله وأمانته. لقد صبر النبي ﷺ على تربية أصحابه حتى هيأ مجموعة من الناس عندهم القدرة على إدارة الدولة الكبرى التي ستقام بعد وفاته.
إن الدارس والمتعرف على الإسلام وتاريخه وحضارته، بشكل علمي ونزيه، سيلاحظ بكل إكبار وإعجاب التأثير البالغ لمحمد عليه الصلاة والسلام في كل خلجة وحركة تمت في تاريخ المسلمين، وسيسلم بداهة - مع الأخذ بعين الاعتبار والتقدير تفاوت الأزمان والنوايا والإخلاص مع درجة الفهم - أن المحرض الأساس المسبب لكل حادث في هذا التاريخ هو الإسلام، وأن كل شيء قام بعد قيام الإسلام، إنما قام باسمه وبسببه.
وما دامت سيرة محمد ﷺ مفتاحا للتاريخ الإسلامي، فهي أجدر العلوم بالاهتمام والتوثيق لتقديمها في أنصع صورة وأجملها، في وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت المادية على الإنسان فغيرت كثيرا من قيمه وجعلته لا يستقر على حال، وحتى يجد الإنسان في سيرة هذا النبي السلوك المثالي الذي تتساقط عنده دعاوى المغرضين والزائفين، ولعله يجد فيها الصورة المشرقة الحية للإنسانية الحقة، وليجد فيها الصورة المشرقة للإنسان الذي يمارس إنسانيته بكل أبعادها، ويتفاعل مع الواقع بكل معطياته، وليدرك الإنسان أيضًا إن محمدا ﷺ الذي وصل إلى قمة الكمال الإنساني كان في كل أحواله غير بعيد عن بشريته، بل عاش مشاعر هذه البشرية، شابًّا مستقيمًا في سلوكه، داعيا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأبا حانيًا، وزوجًا مثاليًا، وقائدًا حربيًّا، فقيرًا وغنيًّا، إمامًا وحكمًا مسلمًا جامعًا بين العبادة والتبتل لربه، والمعاشرة لأهله وأصحابه.
وإذا كانت هذه الدراسة للسيرة ضرورية للإنسان بشكل عام، فإنها أشد ضرورة للإنسان المسلم المعذب الحائر بين القيم التي تغزو عقله وفكره ومجتمعه، لأن السيرة إنما هي تجسيد حي لتعاليم الإسلام كما أرادها الله أن تطبق في عالم الواقع، لأن تعاليم الإسلام إنما أنزلت لتطبق في واقع الإنسان ومجتمعه، هذه الأوامر والتعاليم هي التي ينشأ الإنسان في ظلها في بحبوحة من العيش، واعتراف كامل بإنسانيته حيث تهديه هذه التعاليم في كل جانب من جوانب حياته وترشده إلى ما فيه خيره وصلاحه. ومحمد ﷺ هو الذي كان يجسد تعاليم الإسلام في كل حادثة وظرف في شخصه حتى يكون قدوة لأصحابه ولمن يأتون بعده.
إن كتب السنة النبوية تحوي كمًّا هائلًا من سيرة المصطفى، والمعلومات المبثوثة في كتب السنة تمتاز بالدقة والوضوح، والواجب أن يجمع شتات هذا الكم الكبير من مرويات السيرة النبوية، ثم التأليف بين هذه المرويات بتقسيمها إلى موضوعات متناسقة، مقتصرا في ذلك على الصحيح من الروايات، بعيدا عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، التي جعلت بعض أحداث السيرة شبيهة بالخرافة والأسطورة.
إن تنقية السيرة مما شابها واجب كفائي مناط بالعلماء، فالمسلمون كانوا وما يزالون يرجعون إلى كتب السير، وفيها الصحيح والضعيف والموضوع، ويأخذون تلك الروايات أخذ المصدق بها المذعن لها، ونتج عن هذا أن ينسب إلى رسول الله ﷺ ما لم يقله ولم يفعله، ولم يحدث في زمانه.
وانتشرت روايات السيرة التي ضمتها كتب السيرة صحيحة وضعيفة في مؤلفات العلماء، وحدث بها الدعاة والوعاظ، واستدل بها العوام وطلبة العلم، وكل هذا أحدث خللًا كبيرًا عند هؤلاء جميعًا، ومن هنا كانت الحاجة كبيرة وملحة لتنقية السيرة مما شابها، تصحيحًا للمسار، ونصحًا لله ولرسوله والمؤمنين، وإعانة للعلماء وطلبة العلم والدعاة والوعاظ.
ويرى الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه "السيرة النبوية الصحيحة" أن المطلوب هو "اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها ثم الحسنة ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام... وعند التعارض يقدم الأقوى دائما.. أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغات التي لا تسدها الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي".
وهنا يجب التمييز بين إمكانية استخدام الضعيف لبناء الصورة التاريخية، وخطورة اعتماده كأساس لفهم السيرة، أو استخدامه كدليل على سمات حركية لمرحلة ما من السيرة، يمكن أن نبنى عليها فعلاً استراتيجيًا. فالإشكالية في التعامل مع النص ليست في الجانب العقدي والتشريعي فقط، بل فيما تلقيه النصوص من ظلال على الفهم، قد تجر في اتجاهات حركية كارثية. ويتأكد ذلك إذا استحضرنا أن السيرة مادة خصبة محببة إلى قلب كل مسلم، يصعب على قلبه ألا يتعلق بمروية من مروياتها حتى وإن أشارت الهامشة إلى ضعفها أو تم التنبيه على ضوابط الاستفادة من الضعيف من المرويات.
إن وظيفة الدعاة هي نفسها وظيفة الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، ومنزلتهم تلي منزلة المرسلين التي هي أشرف المنازل وأسمى المقامات؛ لأن غايتهم هي:إعلاء كلمة الله عز وجل في الأرض؛ التي بها صلاح الأنفس والمجتمعات وسعادتها في الدارين.
ولما كان الداعية إلى الله تعالى من صفوة الخلق وخيرهم وأحبهم إلى الله عز وجل؛ كانت كلمته هي أحسن كلمة تقال في الأرض: ﴿ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين﴾ [فصلت: 33].
على أن الدعوة إلى الله عز وجل هي سبب خيرية هذه الأمة: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ [آل عمران: 110]، وبها استحقت القوامة على العالمين: ﴿لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم﴾ [البقرة 143]، وهي مناط الفلاح في الدنيا والآخرة: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولـئك هم المفلحون﴾ [آل عمران: 104].
والدعوة قوامها: العلم النافع، والعمل الصالح، وسلامة القصد والغاية، والفهم الصحيح، والبصيرة في الدين، ومعرفة حال المخاطبين والمدعوين، والصلابة والجرأة في الحق، والجدال بالتي هي أحسن.
إن وظيفة البلاغ المبين تقتضي الاستقامة على المنهج: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير﴾ [هود: 112]، لأن مضمون الدعوة وجوهرها لا يتغير، وحقائقها ومبادئها لا تتبدل؛ بل هي راسخة ثابتة على إختلاف الزمان والمكان والظروف والأشخاص.
لكن الخلط بين المنهج والطريقة، وبين الجوهر والأسلوب، وبين الموضوع والكيفية؛ أوقع بعض الدعاة في نتائج خاطئة؛ مما ترتب عليه تحريف وتمييع في مضمون وجوه الدعوة.
ولأجل ذلك ينبغي الفصل بين المنهج والوسيلة؛ فتعدد طرق وأساليب البلاغ سنة ربانية، لكن بشرط الاتحاد في الأهداف والاتفاق على الأصول والثوابت التي تعدّ مرجعية للمنهج.
ومن جهة أخرى: فإن وسائل الدعوة لا يحكم عليها إلا بعد عرضها على الشروط الشرعية؛ هل المقصد المتوسل إليه مقصد شرعي صحيح ؟ وهل هو باقٍ لم يسقط ؟ وهل درجة الإفضاء كافية ؟ وهل يترتب على هذا التوسل مفسدة مساوية لمصلحته أو أعظم منها ؟ فمتى وجدت هذه الشروط جميعها في وسيلة ما؛ حكم بصحة هذه الوسيلة، ومتى تخلفت هذه الشروط أو بعضها؛ حكم ببطلانها.
ومن المعلوم أن وسائل إما توقيفية، أو اجتهادية.
فإن أريد بوسائل الدعوة: منهج الأنبياء الثابت في الدعوة إلى الله تعالى كضرورة البدء بالعقيدة، ونبذ الشرك بمختلف صوره، والبراءة من أعداء الدين؛ فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى توقيفية، أي لا مجال فيها للاجتهاد.
وإن أريد بوسائل الدعوة: أساليب الدعوة إلى الله عز وجل، وطرق تبليغ الدين؛ كالبرامج الإعلامية المعتمدة على الصوت والصورة مثل: شريط الفيديو، والحاسب الآلي، وكإنشاء المدارس والمكتبات والجمعيات، والمجلات والصحف، وإستعمال الآلات والمخترعات الحديثة المنتشرة في هذا العصر؛ فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى ليست توقيفية، بل هي خاضعة للاجتهاد والنظر حسبما يحقق المصلحة، شريطة إعمال الفكر وإطالة النظر في إطار الضوابط الشرعية.
أما بالنسبة لجوهر الدعوة: فإن غفلة بعض الدعاة عن حقيقة الإيمان وحدِّ الإسلام، وعن مقتضى "لا إله إلا الله" أدى إلى أن اشتبه عليهم الأمر، حيث لبَّست عليهم الأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله، أو تحكم ببعض الكتاب وتكفر ببعض، وفي الوقت نفسه تدَّعي الإسلام، وتظهر احترام العقيدة، ولا تمانع في إقامة شعائر التعبد، فصعب عليهم تبعا لذلك التفريق بين أهل الإيمان والمنافقين.
كما أن دعاة آخرين لجأوا في ظل إنتشار الفساد في المجتمعات الإسلامية، وفي ظل سيطرة الحكومات العلمانية إلى الغلو، وإلى تكفير الحكام وعامة المسلمين على السواء.
وهكذا فإن الشبهات من ناحية، والأوضاع المزرية من ناحية ثانية، وما عليه هؤلاء وأولئك من قلة العلم الشرعي والجهل بالضوابط الشرعية التي تحدد بها المسارات والمواقف، أدى إلى إفراز مناهج مختلفة وتوجهات متباينة، كرَّست الخلاف والفرقة في ساحة العمل الإسلامي.
إن الدعوة الراشدة تفطن إلى أصل القضية ومكمن الداء، فتصحح الأصول، وتجلي بدهيات الدين، وتربط ذلك بالعمل وضرورته، ويملك منهجا واضحا وشاملا للتغيير وتطبيق شرع الله؛ فيتبنّى الدعوة بشمولها، ويخاطب الأمة ويحركها بمنهج يستوعب جميع طاقتها، ويفسح المجال لمن يسعى إلى ذلك ويعاون على البر والتقوى. فمن أهم الأسس في عملية التغيير الشامل قيام جماعة الدعوة بنظامها الذي يحقق معنى الجماعة في الشرع.
إن الهدف الشرعي من وجود أي جماعة إسلامية، والمبرر الوحيد لوجودها وبقائها: هو خضع ومغالبة الكفر بكل فصائله وأنواعه؛ لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض. ولا يتأتى ذلك إلا بالمعرفة الصحيحة، والتربية الطويلة، وإمتداد الإعداد والتخطيط، والعمل المنظم.
ولا يمكن تحقيق ذلك الهدف إلا في إطار منهج واضح المعالم، يحدد مسار الطريق بدقة ووضوح، وبمنأى عن اضطراب التصورات وتداخل الأهداف بالوسائل، واختلاط المراحل، ونسيان الغاية الأهم في سبيل تحقيق مصالح جزئية ضيقة، أو استعجال الثمرة باللجوء إلى القوة قبل الأوان، أو اتباع الهوى والجمود على مسائل فرعية وجزئية بسبب ضيق الأفق وعقلية البعد الواحد.
إن غياب المنهج الإسلامي للتغيير بشكله الشمولي، وافتقار معظم الحركات الإسلامية إلى البرامج التربوية الصارمة، وإلى النظرة العلمية العميقة لطبيعة الصراع الذي تخوضه، وانحصار همِّ بعضها في تحقيق مكاسب محدودة عن طريق المشاركة في الإنتخابات والدخول في المجالس النيابية، ودخول البعض الآخر في صراعات وصدامات غير محسوبة العواقب مع الأنظمة الحاكمة؛ كل ذلك أدى إلى تخلخل البناء.
ومما لا ريب فيه أن حسم الخلاف بين المناهج المتباينة في ساحة العمل الإسلامي غير ممكن بدون العودة إلى المنهج النبوي في التغيير؛ وهو المنهج الذي ارتضاه الله عز وجل لرسوله ﷺ في دعوته منذ البعثة النبوية حتى إلتحاقه بالرفيق الأعلى.
وتتجلى خصائص المنهج النبوي في أنه:
- منهج مسدد بالوحي في منطلقاته وأهدافه، وثوابته وأصوله، وأسسه ومرتكزاته.
- منهج شامل ومتكامل يستقصي جميع قضايا الدعوة وعملا وفكرا وسلوكا، وعقيدة وشريعة. كما يضبط السلوك ويحكم الحركة أثناء التعامل مع واقع الأمور وحقائق الأشياء.
- منهج يُعلَّم الداعية كيف يتعامل مع الواقع بالمعرفة العميقة والفحص الدقيق لإستقراء المناط الحقيقي ليتنزل عليه حكمه الصحيح لإصابة الحكم الشرعي المطالب به إزاء هذا الواقع.
علما بأن هذا المنهج هو الإطار الوحيد الذي لا يملك أي داعية ـ يبتغي النجاة في الدنيا والآخرة ـ أن يخرج عليه، لما يؤدي إليه هذا الإطار من تأصيل متابعة الرسول ﷺ التي هي صمام الأمن من الزيغ والإنحراف، وما يؤدي إليه من مقاصد شرعية ومصالح معتبرة تسدد خطوات الدعاة للوصول إلى هدفهم المنشود، وهو التمكين لدين الله في الأرض.
ولما كانت السيرة النبوية هي التطبيق الواقعي لمنهج النبي ﷺ في الدعوة إلى الله، فمن البديهي بلورة أسس وعالم هذا المنهج من خلال وقائعها وأحداثها.
ومن ضروريات هذا المنهج: أن يُعلم أن رسول الله ﷺ كان يتلقى الوحي من الله تعالى، ويسير في دعوته على منهج قدَّره الله له، وهيأ له سلوكه، وأحكمَ أسبابه، وفق حكمة بالغة قد لا يستطيع الدعاة إكتشاف بعضها، فضلا عن إدعاء موافقتها.
فتسلسل الأحداث من بداية الوحي إلى دار الأرقم، إلى الصدع بالدعوة، إلى الحصار في شعب أبي طالب، إلى دعوة القبائل وطلب النصرة منها، ثم الهجرة وما تلاها: من بدر، إلى أُحد، إلى يوم الأحزاب، ثم من الحديبية والفتح إلى تبوك، وما تخلل ذلك من أحداث ومواقف؛ إنما كانت تسير في الأصل وفق تدبير رباني ولطف إلهي: الوحي ينزل آمرا وموجها، وأحيانا معاتبا، وأحيانا أخرى محذرا، والنبي ﷺ يسير واثقا ومصمما: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني"، والصحابة رضي الله عنهم واثقون كل الثقة، بل مؤمنون كل الإيمان بقيادته وتوجيهه ﷺ، عالمون أن متابعته والإعتصام بهديد هي قضية إيمان أو كفر ونفاق.
فإذا وقعت حالة شاذة كيوم الحديبية؛ إذ جرى من بعضهم شيء من التردد أو مراجعة النبي ﷺ؛ فإن ذلك يبقى في ذاكرتهم الحية خطأ عظيما لا يُنسى، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذٍ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
أما السائرون على الطريق بعده ﷺ: فهم مهما بلغوا من العلم والفهم وتجريد المتابعة إنما يترسمون الخُطى، ويسددون ويقاربون وفق الاصول الكلية والقواعد التأصيلية.
وإذا كان الوحي قد انقطع، والدعاة لا يستطيعون تفسير بعض أحداث السيرة على حقيقته وحكمته؛ فإن هذا يحتم السير على أصولها الواضحة وقواعدها القطعية، وأن نحذر كل الحذر من مزالق الانحراف عن الخط الصحيح الذي رسمه رسول الله ﷺ؛ فلقد حلت العقوبة الرادعة محل العتاب الرباني بالنسبة للجيل الأول، وأصبحت الأحداث والنكبات هي وحدها التي تربي الأمة وتصحح مسارها.
ثم إذا كان الله تعالى ربَّى الجيل الأول أيضا بالأحداث كما في أحد: ﴿قل هو من عند أنفسكم﴾ [آل عمران: 165]، فما يتوقع الدعاة في هذا العصر؟!.
إنه لا يصح بحال من الأحوال الأخذ بجزئية من جزئيات المنهج التربوي الحركي للسيرة دون معرفة ملابسات تلك الجزئية وما يحيط بها ضمن المنهج بكامله، فيقع الشطط والزيغ عن الطريق من أصله.
فكما أنه من الإيمان رد المتشابه إلى المحكم من نصوص الشرع، فكذلك يجب رد الملتبس إلى الواضح من وقائع السيرة، ولا ينبغي قطعا فصل التربية الحركية عن التربية الإيمانية.
فعلى سبيل المثال: لا يجوز الإعراض عن مواقف النبي ﷺ الواضحة القاطعة من الكفار والمشركين والاستدلال فقط أنه - في مرحلة من مراحل دعوته تختلف عما نحن فيه ولملابسات وأسباب خاصة، وفي حدود لا تمس العقيدة والدعوة في شيء بل تخدمها - دخل في جوار مشرك، أو حالف إحدى القبائل أو وادعها في مرحلة القوة، ثم يتخذ بعضهم من هذه الجزئية نقطة البدء في خطٍّ لا نهاية له من التنازلات والركون إلى المرتدين والمنافقين تحالفا وتناصرا وعملا وهدفا، أو أن نلجأ في مرحلة الاستضعاف تحت ضغط ردود الأفعال، وعدم السيطرة على المشاعر والانفعالات واستدراج الأعداء إلى المواجهة والصدام قبل وجود القاعدة الإسلامية الصلبة الواعية بالشكل المطلوب.
والذين يفعلون ذلك ليسوا أبدا سائرين على منهج رسول الله ﷺ في دعوته، ولا مقتدين بسيرته، ومن ثم سيكلنا الله عز وجل إلى أنفسنا، ومن وُكل إلى نفسه فلن يتوقع نصرا ولا مددا.
ولنعلم أن منهج الدعوة إلى الله تعالى كما سار فيه النبي ﷺ هو حلقات محكمة متناسقة، يأخذ بعضها برقاب بعض، ابتداءً من بدء الدعوة، وانتهاءً باكتمال نزول الشريعة، ومرورا بتلك الأحداث كلها.
ومن ضروريات سير الدعوة: أن نترسم تلك الخطى متابعين سيرها التدريجي المحكم، مع مراعاة تغير وسائل وأدوات العصر من ناحية، ومع البعد عن التفسير الحرفي أو المنحرف لمفهوم المرحلية من ناحية ثانية.
ومن اللافت للنظر أن هذه الدعوة تختلف عن كل دعوة وحركة؛ فهي نبتة فريدة يجب أن تنشأ تنشئة حسنة، فتنمو في تربة نقية، وتسقى بماء المتابعة الدائمة والصبر الجميل، وإن طريقها الشاق الطويل لا يقطع بالقفزات المهلكة، ولا يمكن اختصاره بالانحرافات القاتلة، وإنما يلتمس عبر المنهاج الذي رسمه لنا رسول الله ﷺ مسددا بالوحي، وقوامه الوسطية والاعتدال والتوازن الدقيق بين الإحجام والإقدام، فلا نستسلم لوقع ردود الأفعال التي تدفع إلى إتخاذ المواقف المتسرعة غير المحسوبة، ولا نميع مواقفنا ونستسلم في منتصف الطريق تحت ضغط العروض والإغراءات وأنصاف الحلول التي تعصف بالدعوة إلى غير رجعة.
إن قوة المنهج تتجلى في: الصمود أمام الإغراءات والعروض، وأمام التحديات العاطفية والانفعالات. على أن الإصلاح لا يتم في ليلة واحدة، والخير يسترسل مع بذل الجهد والصبر وفقًا لسنة الله في التدرج والنماء، ومعالم الحق لا بد لها من أطوار تمهد لها. وواجب الدعاة في هذا العصر أن يلتمسوا الهدى في سيرة الرسول ﷺ وفي منهجه الدعوى علمًا، وتربية، وتخطيطًا، وتنظيما.
ويمكن تلخيص خصائص هذا المنهج في النقاط التالية:
المقصود بالمنهج الحركي: الخطوات المنهجية التي تحرك بها النبي منذ بعثته حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
إن المنهج الحركي رباني التوجيه، فالله تعالى يسدد نبيه في خطواته كلها. وليس هو وليد رد الفعل من الظروف الطارئة التي تواجهه. وهذا يقتضي منا متابعة المراحل خطوة فخطوة؛ لنكون على بينة من أمرنا ونحن نتابع السير في حركتنا الإسلامية، فنقتفي خطى حركته عليه الصلاة والسلام انطلاقا من قول الله عز وجل: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر﴾ [الأحزاب: 21]. والأسوة تبدو واضحة أكثر ما تبدو من خلال السيرة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام.
وأي اعتساف في مراحل هذا المنهج لا يوصل إلى الغاية، والتجارب الكثيرة التي خاضتها الحركات الإسلامية على مدار التاريخ تؤكد هذا المعنى. فما من حركة إسلامية قامت وأقامت منهج الله في الأرض إلا اعتمدت التنظيم السري في بداية الأمر، ثم انطلقت إلى إعلان فهمها الحركي للإسلام، من خلال الحكمة والموعظة الحسنة، ثم واجهت المجتمع المنحرف جاهليا كان أو فاسقا، وتسنمت سدة الحكم، واعتمدت القوة للحفاظ على المبدأ من الحرب المسلحة التي يشنها أعداؤه عليه. بينما بقيت قضية اعتماد السلاح والقوة في مرحلة الدعوة أمرا اجتهاديا، متقيدا بطبيعة الحرب مع العدو أو الخصم.
و إذا كان الأمر مجال خلاف في الاجتهاد وللمسلمين خلافتهم ودولتهم التي يفيئون إليها، فليس الأمر كذلك والمسلمون نتفا مبعثرة في الأرض يُحكَمون بغير شريعة الله. وإذا كان تكوين الجماعة - مع قيام دولة الإسلام - محل خلاف ونظر حول الثورة على الأمير الفاسق؛ فليس هو محل خلاف والأمير يحكم علنا وصراحة بغير شريعة الإسلام: "إلا أن تروا كفرا بواحا، لكم فيه من الله برهان".
ولا شك أن متابعة هذه الخطوات والمراحل هو أمر تعبدي قبل كل شيء، نصل به إن اقتدينا بهداها إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. وهو من جهة ثانية تبصرة للحركة الإسلامية في خطها السياسي للوصول إلى أهدافها في إقامة حكم الله في الأرض.
فلا بد من دراسة السيرة دراسة واضحة تحدد المراحل المتتابعة فيها، وسمات كل مرحلة؛ لأن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام، وهي الثورة الأنموذج لإقامة دولة الإسلام. فإذا توضحت هذه المراحل، وتبينت هذه السمات، كفينا المؤونة، وتوحد خط السير، وانتفى دور الاجتهاد الشخصي
وعدم فهم هذه المراحل والتعرف عليها، وفهم الوسائل المناسبة يجعل الخلاف عميقا بين الدعاة المسلمين وبين أبناء الحركة الإسلامية.
يقول صاحب الظلال: (إن السمة الثانية في منهج هذا الدين: هي الواقعة الحركية.. فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل نظريات هذا الواقع بوسائل مجمدة.. والذين يسوقون النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا، ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية في هذا الدين، ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع عن النفس أو يحسبون أنهم يسدون إلى هذه الدين جميلا بتخليه عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلي بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم هذه الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها والتخلي بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها).
لكن: ما هي مدى إلزامية هذه المراحل وهذه الوسائل للجماعة المسلمة وهي تشق طريقها لإقامة دولة الإسلام في الأرض؟ وهل الحركة الإسلامية متعبدة بهذه المراحل ما لها من فكاك عنها؟ أم أن تلك المراحل قد انتهت مع النصوص النهائية للإسلام، وأصبحت منسوخة هي وأحكامها في الواقع الإسلامي؟
ثمة فهم خاطئ يرى أن التقيد بهذه المراحل لا مناص منه حتى في الحد الزمني. وهذا الفهم يقرر أن رسول الله عاش دعوة ثلاثة عشر عاما، ثم أقام دولته. فالحركة الإسلامية مقيدة بهذا العمر من الدعوة، وعليها أن تقيم دولة الإسلام بعد ثلاثة عشر عاما من عمرها. وهذا فهم خطير ولا شك، فالمدى الزمني في الأصل تقدير رباني، وليس جهدا بشريا فقط، والله تعالى قد قال لنبيه: ﴿فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم﴾ [الزخرف: 41-43]. ومن آثار هذا الفهم كذلك موضوع النصرة، وأنه لا يجوز استعمال السلاح قبل قيام الدولة، إنما تقوم الدولة على أساس طلب النصرة من سدنة المجتمع الجاهلي. وإلى أن يفتح صدر أحد هؤلاء للدعوة أو لنصرة هذه الدعوة وهو على شركه، فالحركة الإسلامية معذورة في المواجهة المسلحة. وقد أدى حمل هذين المبدأين معا، العمر الزمني والنصرة، إلى تناقض عجيب في المواقف، وإلى تزعزع في الثقة بصحة هذه المبادئ.
ولنتساءل أكثر وأكثر: ما فائدة دراسة المنهج الحركي للسيرة؟
إن المسلم قد قد يقرأ سور القرآن الطوال - البقرة وآل عمران على سبيل المثال - فلا يكاد يجد خطا يربط بين جزئياتها، ويضيع في متاهتها، تماما مثل رجل دخل في بلدة ولم يتعرف على مخططها. فهو يجوب فيها كلها دون أن يصل إلى بغيته، أو الدار التي يريدها. أو رأي بناء ضخما، لم ير هندسته التي قام عليها، فلا يدرك شيئا من جمال البنيان وفن المعمار فيه.
لكن حين يقرأ "في ظلال القرآن" يحس بعظمة البناء وروعته؛ فسورة البقرة التي تستغرق قرابة جزأين ونصف كان محورها الرئيس هو البناء الداخلي للأمة من خلال العبادات والتشريعات، وعرض عدوها الأول بني إسرائيل لتتعرف على طبيعة هذا العدو، وعلى تجربته حين كلف بالخلافة على الأرض، وكيف انحرف عن رسالته. بهذين الخطين الرئيسين أمكن أن نعيد كل جزئية في هذه السورة العظيمة إلى مكانها في المخطط، وفعلا قدم سيد لنا - رحمه الله - المنهج الحركي في القرآن. فلكل سورة هدف عام، وهدف خاص، ومحور تدور عليه أهداف هذه السورة. والذي يستعرض هذا المخطط الكلي للسورة، يستوعب بعدها كل أجزائها في مكانها المناسب لها. ويكاد يكون سيد رحمه الله قد انفرد من بين المفسرين جميعا بهذه الميزة.
إذن هناك شيء اسمه المنهج الحركي للقرآن. كتب سيد ظلاله على ضوئه. وقد حاول كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية" أن يتناول المنهج الحركي للسيرة، الذي يحدد معالم الطريق وسماته، بحيث تأخذ الجزئيات في السيرة مكانها الطبيعي من خلال المرحلة، ولا تضيع معالم المرحلة في متاهة الجزئيات المبعثرة، كالذي يضيع في المدينة الضخمة دون أن يطلع على مخططاتها.
وما أحوجنا إلى الحديث عن المناهج، نحدد بها معالم السير، التي تنطلق كلها للنظرة الكلية الشاملة، لتعيد بعد ذلك كل الأجزاء إلى مكانها الطبيعي في تخطيط هندسي بديع.
وما أفقر مكتبتنا الإسلامية إليها على وفرة والكتب الإسلامية اليوم التي تغزو المكتبات كل يوم.
إن الثروة الضخمة من مرويات السيرة النبوية تمثل أعظم ما قاله البشر في هذا الوجود، مضى عليها زمان وهي متناثرة تناثر النجوم في السماء، وهي غير مترابطة البناء، غير محكمة البنيان.
وقد يعرض في أثناء ذلك فهم خاطئ في السيرة، وخاصة في المقارنات بين حركتنا الإسلامية اليوم ومسيرتنا الإسلامية، وبين مراحل السيرة من قبل ومنهجها الحركي، فهذه فهوم ونظرات يختلف فيها الحكم، لكن نتفق على أنه لا بد لنا من المنهج الحركي للسيرة النبوية، نسير على هداه، ثم يأتي آخر من بعدُ فيعمق هذه الخطوط، ويحدد هذه المراحل تحديدا أدق وأعمق ويكون الاتجاه كله لإيضاح معالم البناء الجديد. فالسيرة النبوية نبعٌ ثرٍ ومعمل ضخم لابد أن يحسن الاستفادة منه بتحديد مجاريه وتوزيع نتاجه. ويبقى أكبر المعالم للطريق الطويل.
لقد كتبت السيرة من مناظير مختلفة، منها المدخل القصصي، والمدخل العسكري، ومدخل العبر، والمدخل الحركي، والمدخل الفقهي. وليست كلها على درجة سواء، فالمرجع والمعيار في ذلك هو مقصود الشرع من السيرة العلم والفقه بالسيرة النبوية. فهناك مقاصد ثانوية لا يجب أن تحرفنا عن المقصد الرئيس وهو الحركة بهذا الدين لإقامته في واقع الناس، لإخراج الأمة المسلمة. ولهذا كانت أبحاث المنهج التروي/الدعوي/الحركي للسيرة أرقى أبحاث السيرة منزلة وأعمقها غورا.
فمثلا، إضافة للمنهج الحركي، فقد تشكلت "القراءة الفكرية الحضارية الاستراتيجية للسيرة" في ظلال العلوم الإنسانية، كمحاولة لإثراء المداخل المتنوعة لدراسة السيرة. ويقصد بالمدخل الفكري التجوال الفكري في ثنايا السيرة العطرة للمصطفى، للتعرف على لبنات بزوغ فجر هذا الدين والتي لا تزال مسرحا للتأمل، اليوم وغدا وحتى قيام الساعة، وهي محاولة للفهم والربط بين الجزئيات المختلفة للسيرة في سياق تجريدي لا يغوص في الجزئيات إلا بالقدر الذي يقدم الدلالة على الفكرة. أما المدخل الحضاري فيعنى المنظور القيمي الذي تطرحه السيرة في سياق العمران البشري، الذي يعمل على مستوى الدولة والمجتمع والفرد على حد سواء، ويحافظ على الكليات الخمس للإنسان كإنسان، الدين والعقل والنفس والنسل والمال. وأما ما يقصد بالمدخل الاستراتيجي فهو محاولة الاقتراب من منطق الفعل واتخاذ القرار في كل مرحلة من مراحل السيرة، لسبر أغوار تقدير الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتقدير السياق الذي يتم فيه الحدث واعتبار الواقع المحلي والإقليمي والعالمي وتقويم البدائل المحتملة واعتبار المآل.
إن القيمة الحقيقية للسيرة، تكمن في درجة ما تضيفه للعقل من نور وبصيرة، وللوجدان من تعلق بالقيم السامية ومن تعلق بمن يمثل هذه القيم، ولكن شرط الاستفادة الأول هو وجود العقل المسلم المنهجي الذي يستقي من السيرة، خاصة وهو يحاول أن يعالج بأنوارها واقعه المتجدد، وحين نقول المتجدد نقصد في الزمان والمكان والظرف والعوائد، وبالتالي فكلما أمكن تجاوز عمليات التسطيح التي تحاول أن تتماهى مع السيرة بغض النظر عن المكان والزمان والظرف والعوائد، كلما أمكن مد أنوار السيرة إلى مساحات زمنية جديدة بدون الإخلال بشروط هذه المقاربات.
إننا في عصر كثرت فيه الأسئلة الصعبة على الإسلام كمشروع قادر على بعث الأمم من جديد، والسيرة أحد أهم وسائل المحافظة على الذاكرة التاريخية، وبناء الهوية، وتشكيل الوجدان الخاص بالأمة، إذا أُحسن تقديمها وعرضها باعتبار متغيرات العصر والمخاطبين. ورغم إننا هنا نخاطب شريحة من الجمهور متقدمة بعض الشيء -باعتبار أن المدخل الفكري الحضاري والاستراتيجي يتسم بشيء من التجريد- إلا أننا نهيب بكل القادرين على توفير السيرة بشكل يناسب جميع المستويات العمرية والفكرية أن يشمروا عن ساعد الجدـ فالكتاب للطفل قبل تعلمه الكتابة مطلوب وهو مجال تخصص، وفي مراحله الثلاث الأولى في المدرسة يمكن أن يأخذ شكلا آخر، ثم في المراحل الثلاث الثانية من المرحلة الابتدائية قد يأخذ شكلاً ثالثًا، وهكذا تنمو صورة السيرة في ذهن النشأ وتترعرع معه لتشكيل هويته ووجدانه، ويجب ألا يتخرج الطالب من الثانوية ولم يدرك المحتوى القيمي للسيرة قبل تذكر تواريخها وتتابعها، فإن اشد ما ابتلي به المسلمون اليوم هو غياب القيم التي انطلق منها هذا الدين، ومارس دوره من خلالها في الرحمة بالعالمين، وتحول الجزئيات إلى كليات وإغفال الكليات وإهدارها.
كان المتخصصون في القرون الأولى يعرفون الرواة وأحوالهم والأسانيد وشروط صحتها، فكان بوسعهم الحكم على الروايات وتمييزها، لكن هذه المعرفة بالرجال والأسانيد لم تعد من أسس الثقافة في القرون المتأخرة، بل يندر أن تجد من يهتم بذلك من مثقفي هذا العصر، لذلك جاءت كتابات المعاصرين من الكتاب والمؤرخين خلوًّا من تمييز الروايات وفق قواعد مصطلح الحديث.
لكن كبار المؤرخين في عصرنا يترسمون مناهج (النقد التاريخي) الذي ظهر ونما في الغرب خلال القرنين الأخيرين، وهم يتعاملون مع روايات السيرة من خلال هذه المناهج النقدية التي وضعت بعد استقراء الكتابات التاريخية الغربية، ولم تكيف للتعامل مع الرواية التاريخية الإسلامية التي لها سماتها الخاصة والتي من أبرزها وجود سلاسل السند التي تتقدم الرواية عادة، والتي يعتمد منهج المحدثين عليها بالدرجة الأولى في الحكم على الرواية بالصحة أو عدمها، مما أدى إلى ظهور مكتبة ضخمة مَعْنِيَّة بتراجم الرواة وبيان أحوالهم وإمكان التقائهم ببعضهم أو عدمه، والحكم عليهم من خلال استقراء مروياتهم بالإضافة إلى رأي معاصريهم فيهم. وهذه الثروة الهائلة من المعلومات والمكتبة النفيسة ظلت بمعزل عن الإفادة منها في الدراسات التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام ومنها دراسات السيرة. وما أعظمها من خسارة أن نئد جهود المئات من كبار العلماء الذين قدموا لنا هذه الخدمة الخاصة بالتعامل مع "الرواية التاريخية الإسلامية"، بسبب جهلنا بقيمتها والتزامنا الحرفي بمنهج النقد التاريخي الغربي. وهنا تلزم الإشارة إلى أن إهمال نقد الأسانيد في الرواية التاريخية الإسلامية والاكتفاء بنقد المتون يوقعنا في حيرة أمام الروايات الكثيرة المتعارضة عندما تكون متونها جميعًا متفقة مع المقاييس والقواعد النقدية العقلية، وهذا يحدث مع كثير من تفاصيل الأحداث التأريخية، وخاصة المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام. إن ذلك يحتم على الباحث استعمال منهج المحدثين في نقد الأسانيد وإلا فإنه سيقف أمام العديد من المشاكل دون حل أو ترجيح.
إن هذا لا يعني غمط النقد الغربي حقه، والتعسف في الحكم عليه، فلا شك أنه ثمرة عقول مفكرين كبار، طوروه من خلال التجربة والاستقراء، فأضاف اللاحق منهم على السابق حتى وصل إلى ما وصل إليه من تكامل وشمول وعمق، وهو يلتقي في كثير من جزئياته وقواعده وأصوله بمنهج العلماء المسلمين الذين سبقوا الغربيين في هذا الميدان بعدة قرون، مما يدل على جذور التأثير الإسلامي في الفكر الأوروبي منذ أن حصل التماس بين الغرب وحضارة الإسلام في العصور الوسطى الأوروبية. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن منهج البحث العلمي عند المسلمين لا يقتصر على معطيات مدرسة المحدثين، فهناك معطيات أخرى يقدمها علماء أصول الفقه في منهجهم المنطقي العقلي وتتبلور في كتب أصول الفقه، ومعطيات يقدمها علماء الطب والفلك والرياضيات المسلمون وتتمثل في منهج البحث التجريبي، وهو المنهج الذي ارتبط في تاريخ الفكر الغربي باسم العالم "روجر بيكون" الذي عول في دراسته على كتب العرب وحدها كما يصرح "غوستاف لوبون"، وهو المنهج الذي يرجع إليه الفضل في بلوغ حضارة الغرب المادية إلى مستواها التقني الرائع.
إن منهج المحدثين يهتم مباشرة بالتعامل مع "الرواية الحديثية" وبالتالي يمكن سحبه إلى أقرب ميدان ليتعامل مع "الرواية التأريخية" وهو الذي يلتقي كثيرًا مع "منهج البحث التاريخي".
وقد استقر منهج المحدثين في كتب مصطلح الحديث منذ القرن الخامس للهجرة على يد الخطيب البغدادي، ولم تلحق به إضافات أساسية، وإن أعيدت الصياغة والترتيب لأغراض مدرسية على يد ابن الصلاح والقاضي عياض، وجرت إضافات دقيقة نتيجة تطبيق الحافظ الذهبي والحافظ ابن كثير ومن بعدهما الحافظ ابن حجر لهذا المنهج في مؤلفاتهم، ولكن المنهج لم يتعرض لتعديل جوهري، بل تعتبر إضافات الذهبي وابن كثير وابن حجر في جزئيات القواعد العامة، وهي إضافات مهمة تعطينا تصورًا لما كان يمكن أن يصل إليه هذا المنهج من الاكتمال لو استمرت الحركة الفكرية نشيطة في "عالم الإسلام" ولم يتوقف إبداعها ونموها في عصور التخلف الطويلة.
إن الجمع بين معطيات منهج المحدثين ومنهج النقد الغربي يعطي أمثل النتائج إذا حَكَمت الأخير معايير التصور الإسلامي، ولا شك أن الدراسات التاريخية الإسلامية الحديثة ومنها دراسات السيرة النبوية ما زالت في بداية الطريق، وهي تحتاج إلى جهود هائلة للارتقاء بها إلى مستوى الدراسات التاريخية العالمية. ويكفي أن القارئ لدارسة حديثة في السيرة لا يكاد يحس فرقًا مهمًا بينها وبين كتاب سيرة ابن هشام أو زاد المعاد على تباين أسلوب ومنهج الكتابين، رغم التطور الهائل في الدراسات الاجتماعية في العصر الحديث، وما تقدمه العلوم الحديثة من معطيات ضخمة تخدم الدراسات الاجتماعية. وللأسف فإننا نعيش على حافة العالم الحديث ولم نجرؤ على اقتحامه لنفيد من معطياته الثرية المتنوعة، مع أن ما ورثناه من أسلافنا في حقل التأليف التاريخي أعظم بكثير مما ورثه المؤرخون الغربيون عن أسلافهم.
وإذا كان النقد التاريخي يبدو ضعيفًا في دراساتنا، فإن التحليل للروايات والتعامل معها يبدو أكثر قصورًا، بسبب النظرة التجزيئية للقضايا والسطحية في التعامل مع الروايات وعدم وضوح التصور الإسلامي لحركة التاريخ ودور الفرد والجماعة والعلاقة الجدلية بين القدر والحرية وقانون السببية والربط بين المقدمات والنتائج. فضلا على أن الكتب التاريخية القديمة لا تمدنا بمنحى واضح في التحليل والتصور الكلي بسبب اعتمادها على سرد الروايات فقط، إذ قلما يشير المؤرخ الإسلامي القديم للسنن والنواميس والقوانين الاجتماعية التي تحكم حركة التاريخ رغم أن القرآن الكريم لفت نظر المسلمين إلى ذلك كله بوضوح بل أن أحدا من مؤرخي الإسلام لم يحاول إعادة صياغة النظرة القرآنية للتاريخ وتقديم الوقائع والتطبيقات والشواهد التاريخية عليها بشكل نظريات كلية حتى وقت متأخر عندما كتب ابن خلدون مقدمته، رغم أن المفكرين المسلمين تعاملوا مع الفلسفة والمنطق منذ القرون الأولى وأفادوا منها في بناء علوم اللغة وأصول الفقه بوضوح وتصرفوا في ذلك بعقليتهم اليقظة التي تنفي ما يناقض المعتقد الإيماني والتصور الإسلامي، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير، وكان نجاحهم في تخطي التجربة يرتبط بمدى وضوح العقيدة وصفائها في عقولهم.
ويرى العديد من الدارسين -وخاصة المستشرقين- أن علماء المسلمين عنوا بنقد أسانيد الروايات وأهملوا نقد متونها، وقد يتصور البعض أن غياب العقلية النقدية هو سبب إهمال محاكمة المتن، وهنا يلزم الانتباه إلى أن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فرغم توسع علماء المسلمين في نقد الأسانيد إلا أنهم لم يهملوا نقد المتون ومحاكمتها، بل عنوا بذلك أيضًا، ويصعب حصر الشواهد على ذلك لكثرتها، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض المحاكمات التاريخية التي استندت إلى نقد المتن.
لقد رفض ابن حزم الرقم الذي ذكرته المصادر الكثيرة عن عدد جند المسلمين في غزوة أحد بناء على محاكمة المتن وفق أقيسة عقلية بحتة.
وقدَّم موسى بن عقبة غزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة مخالفًا معظم كتاب السيرة الذين يجعلونها في السنة السادسة، وتابعه ابن القيم والذهبي بناء على نقد المتن، حيث اشترك سعد بن معاذ بالغزوة وقد استشهد في أعقاب غزوة بني قريظة.
وقد وقع اختلاف في تاريخ غزوة ذات الرقاع بين قدامى المؤرخين بناء على محاكمة المتن، فأخرها البخاري، وتابعه ابن القيم وابن كثير وابن حجر إلى ما بعد خيبر، خلافًا لرأي ابن إسحق والواقدي، بناء على اشتراك أبي موسى الأشعري وأبي هريرة فيها، وقد قدما على النبي ﷺ بعد فتح خيبر مباشرة.
وجرت مناقشات مستفيضة حول تاريخ تشريع صلاة الخوف ومعظمها مبني على محاكمة المتن.
وقد كشف الخطابي عن نسخ تحريم وادي وج بالطائف بناء على محاكمة المتن...
وتبرز في مؤلفات متأخرة محاكمات دقيقة للمتون، كما يتضح ذلك بجلاء لمن يطلع على (البداية والنهاية) لابن كثير و(فتح الباري) للحافظ ابن حجر في شرحه لقسم المغازي من صحيح البخاري.
ولكن ذلك لا يعني أن نقد المتن تم بنفس التوسع الذي فازت به نصوص التاريخ الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعدما اكتملت مناهج النقد التاريخي. ولكن هل من الإنصاف أن تُقَوَّمَ جهود القدامى بمقاييس حديثة هي من منجزات التقدم العلمي في كل ميدان عبر عدة قرون؟!
ومع ذلك فإن تقويم العقلية النقدية عند علماء المسلمين القدامى ينبغي ألا يتم من خلال الكتب التاريخية وحدها، وإنما ينظر إلى جملة النتاج الفكري في الفقه والفقه المقارن (كتب أحاديث الأحكام)، فلا شك أن كتب الفقه ركزت على المتون تركيزًا عظيمًا؛ تفسيرًا وتوضيحًا وإعرابًا واستنباطًا. ومن الواضح أن عمل المحدثين والفقهاء يتكامل، فلا بد للمنصف أن يعترف بأن السنة النبوية نالت عناية عظيمة ومتوازنة من قبل العلماء المسلمين.
وتتضح في كتب أصول الفقه المحاكمات الدقيقة للمتون التي تكشف عن عقلية نقدية فذة. وإذا كان المؤرخون القدامى معظمهم له جهود في حقول العلوم الإسلامية الأخرى، فإن الحكم عليهم ينبغي أن يكون من خلال تقويم جملة نتاجهم الفكري مع مراعاة عنصر الزمن حتى لا يغمطوا حقهم من التقويم.
وأيضًا لا بد من توضيح أن الجانب النظري لنقد المتن كان متبلورًا إلى حد كبير منذ القرون الأولى في كتب مصطلح الحديث كما في أقسام المدرج والمعلل والمضطرب والشاذ والمنكر والموضوع وغيرها مما يدور الكلام فيها على نقد الأسانيد والمتون معًا، ولكن القصور كان في تطبيق ذلك عمليًا عند التعامل مع الرواية التأريخية التي لم تحظ بنفس القدر من النقد الذي حظيت به الأحاديث النبوية.
ولا بد أيضًا من الإشارة إلى الموقف من المعجزات النبوية وإثباتها حيث أن للرسول ﷺ معجزات كثيرة وإن كان القرآن معجزته الدائمة الباقية.
إنَّ إثبات المعجزة الخالدة (القرآن الكريم) ونفي بقية المعجزات الثابتة بالنقل الصحيح إنما هو في الحقيقة خضوع وانصياع للفكر المادي والفلسفات الوضعية، ولا بد للمسلم من الاستعلاء والاعتزاز الذي يحقق له الاستقلال التام في النظر والبحث العلمي. ومن ثم ينبغي إثبات المعجزات جميعها عندما تثبت بالنقل الصحيح.
يقول الحافظ ابن حجر: (وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدّي به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده ﷺ من خوارق العادات شيء كثير، كما يُقطع بوجود جود حاتم، وشجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الآحاد، مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكبير والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرتبة لعدم عنايتهم بذلك. بل لو ادّعى مدّع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لما كان مستبعدا، وهو أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدّثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك، ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ من الإغضاء على الباطل).
يهتم البحث في السيرة النبوية بالإشارة إلى الأحكام الفقهية وتاريخ تشريعها، لأن التأريخ للسيرة ينبغي أن يعني بالجانب التشريعي الذي يحتكم إليه المجتمع ويوضح الضوابط الخلقية والقانونية التي تحكم حركة الأفراد والجماعات. ولا يمكن الفصل بين الجانب السياسي والعسكري والجانب الخلقي والتشريعي خاصة في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة والشريعة تشابكًا وثيقًا بحيث يصعب فهم حركة التاريخ في تلك المرحلة دون فهم روح الإسلام ومبادئه.
إن الاهتمام بكتابة السيرة النبوية ظهر مبكرًا في تاريخ الإسلام، وقد تناولها بالتصنيف المؤرخون والمحِّدثون في القرون الأولى.
وتمتاز كتابات المؤرخين مثل الواقدي والبلاذري بالعناية بمراعاة ترتيب الأحداث ترتيبًا زمنيًا وموضوعيًا، في حين تظهر التجزئة للأحداث في كتابات المحدثين الذين التزموا بقواعد الرواية وتمييز الأسانيد عن بعضها، وربما قطَّعوا الرواية الواحدة فخرجوا بعضها في مكان وبقيتها في مكان آخر لموضوعات (تراجم) مؤلفاتهم، كما يظهر ذلك جليًا في قسم المغازي الذي كتبه الإمام البخاري ضمن صحيحه، ويظهر بصورة أخف في صحيح الإمام مسلم بسبب عنايته الخاصة بسرد المتون الطويلة وتحرير ألفاظها، لأنه أقل عناية من البخاري بتقطيع الرواية حسب تراجم كتابه.
وبعض المؤلفين جمع بين صفتي المحدث والمؤرخ مثل محمد بن إسحاق وخليفة بن خياط، ويعقوب بن سفيان الفَسَوي، ومحمد بن جرير الطبري، وهؤلاء أفادوا من منهج المحدثين بالتزام سرد الأسانيد ومحاولة إكمال صورة الحادث عن طريق جمع الأسانيد أحيانًا أو سرد الروايات التي تشكل وحدة موضوعية تحت عناوين دالة.
ولكن سائر الذين كتبوا في السيرة اهتموا بجمع ما أمكنهم من الروايات وتدوينها دون أن يشترطوا الصحة فيما يكتبونه، وأحالوا القارئ على الأسانيد التي أوردوها ليعرف الصحيح من الضعيف، ويشذ عن ذلك البخاري ومسلم حيث شرطا الصحة فيما روياه من روايات السيرة ضمن كتابيهما في الصحيح.
تعتمد دراسة السيرة النبوية على مصادر متنوعة، منها الأصلية ومنها التكميلية، فمن المصادر الأصلية في دراسة السيرة النبوية القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب الدلائل والشمائل وكتب السيرة المختصة والتواريخ العامة، أما المصادر التكميلية فهي لا تختص بالسيرة أو التاريخ، بل تتناول موضوعات أخرى لكنها تفيد في حقل دراسة السيرة، مثل كتب الأدب ودواوين الشعر وكتب الرجال والتراجم وكتب الجغرافية التاريخية وكتب الفقه وكتب الأنساب ومعاجم اللغة... إلخ.
ولا شك أن استيعاب هذه المصادر عند دراسة السيرة يعطي أكمل صورة ممكنة، وهي صورة واضحة فيها كثير من التفاصيل. وههنا نبذة عن هذه المصادر وقيمتها وكيفية استعمالها.
إن أول ما ينبغي أن يلتفت إليه الباحث أن هذه المصادر تتباين قوة وضعفاً وأصالة ووضعاً، لذلك لا ينبغي أن توضع في مصاف واحد وتعامل على السواء، فلا يمكن معارضة آية قرآنية أو حديث صحيح برواية من كتب التاريخ أو الأدب، فلابد إذًا من تقويم هذه المصادر ووضعها في الموضع الذي تستحق.
ويقف القرآن الكريم في مقدمة مصادر السيرة، والقرآن هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد ﷺ لفظا ومعنى بطريق الوحي، ويتضمن بيان العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، وترد فيه آيات الأحكام ذات الأهمية الكبيرة في بيان النظم الإسلامية ونشأتها، فهي تلقي ضوءاً على التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عمل بمقتضاها النبي ﷺ في إدارة الدولة الإسلامية الأولى.
وفي القرآن الكريم ذكر لبعض الأحداث التاريخية في عصر السيرة مثل بدر، أحد، الخندق، حنين، حيث يصور الظروف والأجواء العامة التي وقعت فيها الغزوات والأحداث الأخرى الهامة، وخاصة الأبعاد النفسية مما لا نستطيع الحصول عليه - بالدقة والصدق التي ترد في القرآن الكريم - من المصادر الأخرى.
وكذلك نجد فيه تصويراً دقيقاً للصراع الفكري والمادي بين المسلمين واليهود في الحجاز. وبإشارة القرآن الكريم إلى الأمم الماضية وسَّع النظرة التاريخية عند المسلمين فشملت دراساتهم التاريخية الأنبياء السابقين والأمم الماضية، وبتطرقه إلى أحداث خارج شبه الجزيرة العربية كالصراع بين الروم والفرس جعلهم يهتمون بالتاريخ العالمي فيسجلون أخبار الروم والفرس والترك والأحباش وغيرها.
ولكن ينبغي أن لا نتوقع تفاصيل عن الأحداث التاريخية في القرآن الكريم لأنه ليس كتاباً في التاريخ بل هو دستور للحياة، ثم إن هناك صعوبة في معرفة أسباب ووقت نزول كثير من الآيات، إما لعدم ورود روايات في ذلك أو لتضارب الروايات الواردة مما يحتاج إلى تحقيق لتمييز الروايات الصحيحة أولاً ثم إزالة التعارض إن وجد بعد ذلك.
وينبغي التفطن إلى أن الإفادة التامة من القرآن الكريم لا تتم إلا بالرجوع إلى كتب التفسير الموثقة، وخاصة التفسير بالمأثور مثل تفسير الطبري وتفسير ابن كثير، وينبغي أيضاً الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ، وكتب أسباب النزول وغيرها مما يتصل بالقرآن وعلومه.
إن بعض المؤرخين المعاصرين يأنفون من الرجوع إلى هذه المؤلفات، ويعتمدون على ذوقهم في فهم أساليب اللغة ومعانيها مما يؤدي بهم إلى وقوع في أخطاء كبيرة، مثل تفسير المستشرقين لقوله تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم﴾ [الجمعة: 2] حيث ذهبوا إلى أن الأمية هنا تعني الجهل بالدين لا الكتابة، في حين أن القرآن الكريم وصف النبي ﷺ بأنه ﴿النبي الأمي﴾ [الأعراف: 157] ولا يعقل أن يكون النبي جاهلاً بالدين!!!.
إن النزاهة العلمية تقتضي الرجوع إلى كتب التفسير الموثقة وإعطاء النصوص القرآنية معانيها الصحيحة المرادة، وليس تأويلها تبعاً للهوى رغبة في دعم رأي أو مذهب، وقد حذر النبي ﷺ من ذلك بقوله: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليبوأ مقعده من النار".
أما عن أهمية الحديث في دراسة السيرة المطهرة، فإن الأحاديث توضح العقائد والآداب الإسلامية، وتبين أحاديث الأحكام النواحي العبادية والتشريعية من صوم وصلاة وحج وزكاة ونظم سياسية ومالية وإدارية، ولا يمكن تكامل تصور الإسلام إلا بمعرفة الحديث، ولكل هذه الجوانب التي تناولتها الأحاديث صلة بالحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر النبي ﷺ، وما تلاه، لأن المسلمين التزموا - بتطبيق "السنة" في حياتهم إلى حد كبير.
وكذلك فإن بعض مصنفات الحديث تخصص قسماً للمغازي والسير مثل صحيح البخاري. ولا شك أن مادة السيرة في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث لم تحظ به الكتب التاريخية، ولكن ينبغي التفطن إلى أن كتب الحديث - بحكم عدم تخصصها - لا تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة بل تقتصر على بعض ذلك، مما ينضوي تحت شرط المؤلف أو وقعت له روايته، ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث وينبغي إكمال الصورة من كتب السيرة المختصة، وإلا فقد يؤدي ذلك إلى لبس كبير.
ولكن بسبب ترتيب الأحاديث في كتب الحديث إما على الرواة من الصحابة مثل كتب المسانيد ومن أجلّها مسند الإمام أحمد بن حنبل أو على الموضوعات مثل الكتب الستة، دون مراعاة عنصر الزمن في كلا الترتيبين، لذلك تبرز أمام الباحث صعوبة في تحديد الأحاديث زمنياًـ على أن كتب السير والتاريخ المرتبة على السنين تسد هذا النقص في كثير من الحالات.
إن أقدم كتب الحديث الشاملة التي وصلت إلينا هي موطأ مالك وصحيحا البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومسند الدارمي ومسند أحمد بن حنبل.
فهي تتناول المعجزات والدلائل التي تبين صدق النبي ﷺ.
ورغم أن كتب الحديث اشتملت على أبواب في علامات النبوة وآياتها ودلائلها وخصائص الرسول ﷺ، لكن أقدم من أفردها محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ) وهو محدث ثقة ثبت في كتابه (دلائل النبوة) ثم على ابن محمد المدائني (ت 225 هـ) في كتابة (آيات النبي) وداود بن علي الأصبهاني (ت 270 هـ) في كتابه (أعلام النبوة) وابن قتيبة (ت 276 هـ) في مؤلفه (أعلام رسول الله) وابن أبي حاتم (ت 327 هـ) في كتابه (أعلام النبوة) وأبو بكر بن أبي الدنيا (ت 281 هـ) وأبو عبد الله بن منده (ت 395 هـ) وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ) وقد طبع مختصر منه، وفيه روايات كثيرة ضعيفة. والقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415 هـ) في كتابه (تثبيت دلائل النبوة) وهو مطبوع.وأبو العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت 432 هـ). وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) وكتابه مطبوع، ويضم أحاديث صحيحة وحسنة وأخرى ضعيفة وموضوعة، وقد امتدح الحافظ الذهبي هذا الكتاب. وأبو الحسن على بن محمد الماوردي (ت 450 هـ) وكتابه مطبوع. وأبو القاسم إسماعيل الأصفهاني (ت 535 هـ). وعمر بن علي بن الملقن (ت 804 هـ) في كتابه (خصائص أفضل المخلوقين) وأخيراً جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه (الخصائص الكبرى) وهو مطبوع ويتناول السيرة والدلائل والشمائل. وكتب الخصائص كثيرة فاقتصرنا على بعضها، وليست هذه القائمة مشتملة على سائر ما ألِّف فهناك مؤلفات أخرى في هذا الموضوع.
فتتناول أخلاق وآداب وصفات النبي ﷺ، وأقدم من أفرادها: أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت 200 هـ) في مؤلفه "صفة النبي" ثم أبو الحسن على بن محمد المدائني (ت 224 هـ) في كتابه "صفة النبي" ثم داود بن علي الأصبهاني (ت 270 هـ) في كتابه (صفة أخلاق النبي) كما ذكر ابن النديم والحافظ الترمذي (ت 279 هـ) في كتاب (الشمائل النبوية والخصائص المصطفوية) وهو مطبوع. ثم أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني (ت 369 هـ) في كتابه (أخلاق النبي وآدابه) وهو مطبوع. ثم أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 406 هـ) في كتاب (شرف المصطفى). ثم أبو العباس المستغفري (ت 432 هـ) في كتاب (شمائل النبي). ثم القاضي عياض (ت 544 هـ) بعنوان (كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وهو مطبوع أيضاً، وهو كتاب جامع. وخرّج أحاديثه الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا). وهو مطبوع. وشرحه عدد من العلماء منهم علي القاري (ت 1014 هـ) في (شرح الشفا) مطبوع، والخفاجي (ت 1069 هـ) في كتابه (نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض)، ثم صنف الحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) كتابه (شمائل الرسول) وهو مطبوع.
فإنها تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ومما يعطيها قيمة علمية كبيرة أن أوائلها كتبت في وقت مبكر جداً، وعلى وجه التحديد في جيل التابعين حيث كان الصحابة موجودين فلم ينكروا على كتاب السيرة، مما يدل على إقرارهم لما كتبوه، والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول ﷺ وتعلقهم به ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة ومذكراتهم فيها وحفظهم لها، فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام. وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم الكبير بموضوع السيرة منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص والبراء بن عازب.
وكذلك فإن التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للضياع.
ولقد كتبت عدة دراسات حديثة عن رواد كتابة السيرة من التابعين ومن تلاهم ولكنها لم تهتم ببيان حالهم من الجرح والتعديل ولم تقوم مؤلفاتهم من زاوية حديثية ووفق قواعد مصطلح الحديث وهم:
أبان بن عثمان بن عفان (ت101 - 105 هـ) وهو محدث ثقة عن التابعين.
عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ) وهو محدث ثقة من التابعين، وبعد أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة.
عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103 هـ). وهو محدث ثقة له كتاب المغازي.
عصام بن عمر بن قتادة (ت 119 هـ) وهو محدث ثقة.
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت124 هـ) وهو من كبار المحدثين في عصره، وثقة الجهابذة من علماء الجرح والتعديل، وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل الأحداث دون أن تقطعها الأسانيد، وقد انتقد الزهري لتلفيقه الحديث أحياناً عن عدد من شيوخه دون أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر، لكن هذا الانتقاد الذي حكاه القاضي عياض عن القدامى ردّه كبار العلماء مثل النووي والعراقي، حيث أوضحا أن عمله جائز ما دام قد بين ذلك وما دام الجميع ثقات.
شرحبيل بن سعد المدني (ت 123) وهو صدوق اختلط بآخره، مات وقد قارب المائة. وقد خرج ابن خزيمة وابن حبان حديثه في صحيحيهما، وقال ابن عيينة: لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه.
يزيد بن هارون الأسدي المدني (ت 130 هـ) تابعي ثقة، ألفّ في المغازي معتمداً على عروة والزهري، يروي عنه ابن إسحق.
عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (ت 135 هـ)، وهو محدث ثقة من التابعين.
موسى بن عقبة (ت 140 هـ) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري، وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال إنه أصح المغازي. وقال يحي ابن معين: "كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب".
وقال الإمام الشافعي: "ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره".
وقال الذهبي: "وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة".
وقد اطلع الحافظ ابن حجر على مغازي موسى بن عقبة وتملك حق روايتها بالإجازة. وكذلك سمعها على بن عثمان بن الصيرفي (ت 844 هـ) من حسن بن محمد بن القريشة.
سليمان بن طرخان التيمي (ت 143 هـ) وهو محدث ثقة من التابعين، ويعتبر من علماء الجرح والتعديل، وقد اطلع الحافظ ابن حجر على سيرته. له كتاب (السيرة الصحيحة) مفقود إلا قسما.
معمر بن راشد (ت 153 هـ) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري أيضا. "كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف".
محمد بن إسحق (ت 151 هـ) من تلاميذ الزهري، إمام في المغازي لكن مروياته لا ترقn إلى درجة الصحيح بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث لأنه مدلس، سيرته على الحسن والضعيف معاً، وقد قال ابن عدى "وقد فتشت أحاديث فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم، كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به".
وهذه الشهادة عظيمة الأهمية لا لمكانة ابن عدي ولتشدده في التوثيق فقط، بل لأنها مبنية على سبر الروايات وليس على نقل أقوال النقاد القدامى فقط والتي تدور حول اتهام ابن إسحق بالقدر وبالتشيع والتدليس وبالتصحيف فقد انتقده يحيي بن سعيد الأموي بقوله: "ابن إسحق يصحف في الأسماء لأنه إنما أخذها من الديوان"، ومرة باحتمال كذبه في الرواية عن فاطمة زوجة هشام بن عروة بن الزبير، ولم يثبت كذبه فقد رد الاتهام عدد من الأئمة النقاد منهم الإمام أحمد بن حنبل، وقال الحافظ الذهبي: "لا ريب أن ابن إسحق كثَّر وطول بأنساب مستوفاة، اختصارها أملح، وبأشعار غير طائلة حذفها أرجح، وبآثار لم تصحح، مع أنه فاته شيء كثير من الصحيح لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح ورواية ما فاته".
وقال الذهبي:"ابن إسحق حجة في المغازي وله مناكير وعجائب".
وقد أجاد الحافظ الذهبي في بيان مرتبة حديثه فقال عنه: "وله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة، إلا فيما شذّ فيه فإنه يعد منكراً".
وقال الحافظ العراقي: "المشهور قبول حديث ابن إسحق إلا أنه مدلس فإذا صرّح بالتحديث كان حديثه مقبولاً".
وقال الحافظ الذهبي: "والذي يظهر لي أن ابن إسحق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما تفرّد ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به الأئمة".
وقال أيضاً "كان أحد أوعية العلم حبراً في معرفة المغازي والسير، وليس بذلك المتقن، فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوق في نفسه مرضي".
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "ما ينفرد به وإن لم يبلغ الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث... وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن، ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه". ولا يعني ذلك توثيق سائر مرويات كتابه في السيرة، فقد أورد فيها روايات منكرة ومنقطعة كما قال عنه الحافظ الذهبي: "صالح الحديث ماله عندي ذنب إلا ما قد حشاه في السيرة من الأشياء المنكرة والمنقطعة".
وقد قام الحافظ ابن حجر بتخريج الأحاديث المنقطعة في سيرة ابن هشام في مصنف مستقل، وللأسف فقد هذا المصنف.
إن رواة السيرة عن ابن إسحق هم يزاد بن عبد الله البكائي - ومن طريقه رواها ابن هشام - وبكر بن سليمان - ومن طريقه يروي خليفة بن خياط في التاريخ - وسلمة بن الفضل الأبرش - وفيه يقول الطبري: "ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان اثبت في ابن إسحق من سلمة بن الفضل". ويونس بن بكير (ت 195 هـ) - ويرى ابن حجر أنه صدوق يخطئ، ويرى الذهبي بأنه حسن الحديث. وقد أخرج له مسلم في الشواهد لا في الأصول، وذكره البخاري في الشواهد. في حين أن ناقداً قديماً هو أبو داود السجستاني كان يصرح بأنه ليس بحجة وأنه كان يأخذ كلام ابن اسحق فيوصله بالأحاديث. وإبراهيم بن سعد الزهري (ت 185 هـ) - ومن طريقه يروي أحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي- وهي الرواية التي اقتبس بواسطتها الحاكم النيسابوري في المستدرك - وهارون بن أبي عيسى - حيث اعتمد ابن سعد على روايته - وعبد الله بن إدريس الأودي- ومن طريقه أخذ ابن سعد أيضاً. ويحيى بن سعد الأموي الذي تحصل على المغازي عن ابن اسحق سماعاً وزاد فيها. وتوجد بعض الاختلافات بين هذه الروايات للسيرة، مما يدل على أن ابن إسحق كان ينقح في سيرته مع الأيام.
ويبدو أن رواية يونس بن بكير من أقدم هذه الروايات، وأن البكائي حمل نسخة كان ابن إسحق قد نقحها، ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود ذكره ابن إسحق - في رواية البكائي - في مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية. وفي رواية يونس ابن بكير عده في المهاجرين الأولين.
كذلك فقد ورد في رواية البكائي أن جعفر بن أبي طالب هو الذي كلم النجاشي باسم المسلمين.
أما في رواية يونس بن بكير فإن عثمان بن عفان هو الذي كلم النجاشي، وأن جعفر بن أبي طالب قام بعمل المترجم فقط، ولكن ابن إسحق عقب على هذه الرواية بنفي صحتها.
ومن هذه الاختلافات بين الروايات العديدة لسيرة ابن إسحق ما ذكره ابن إسحق في رواية يونس بن بكير من أن النبي ﷺ أرسل إلى النجاشي الأصحم كتاباً - في الوقت الذي أرسل فيه كتاباً إلى ملوك الأرض - يدعوه إلى الإسلام. في حين لم يذكر (الأصحم) في رواية البكائي.
مما يدل على تنقيح ابن إسحق لسيرته، لأن النجاشي أصحمة أسلم فتكون الدعوة موجهة لنجاشي آخر بعده كما نص على ذلك الإمام مسلم.
أبو معشر السندي (ت 171 هـ) وهو بصير في المغازي ضعيف في الحديث، لكن ضعفه نسبي يكتب معه حديثه، لا سيما حديثه عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس تمشياً مع رأي الطبقة المتوسطة من النقاد، لأن منهج المحدثين الأخذ بقول الطبقة المتوسطة في التجريح إذا تعارض مع قول الطبقة المتشددة.
وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن حزم المدني (ت 176 هـ) محدث ثقة في كتابه "المغازي".
يحيي بن سعيد الأموي (ت 194 هـ) محدث ثقة صنف المغازي.
الوليد بن مسلم الدمشقي (ت 196 هـ) محدث ثقة.
ويونس بن بكير (ت 199 هـ) وهو أحد رواة سيرة ابن إسحق وله زيادات على المغازي كما ذكر الحافظ ابن حجر.
محمد بن عمر الواقدي (ت207 هـ). وهو ضعيف عند المحدثين مع غزارة مادته العلمية، ويقدم أحياناً إضافات على سيرة ابن إسحق، ويبدي رأيه في الروايات ويرجح بينها. وكان يمتلك مكتبة كبيرة تضم ستمائة قمطر كتب، واحتاج نقلها من الكرخ إلى الرصافة إلى عشرين ومائة وقر. ولم يقتصر على ما في الكتب بل تتبع مواضع الأحداث التاريخية بنفسه ووصفها، ولا تصلح مروياته للاحتجاج بها فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة، ولكنها تنفع في وصف تفاصيل الأحداث مما لا يتصل بالعقيدة والشريعة، خاصة إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة، فقد قال الحافظ ابن حجر - وهو الذي حكم على الواقدي بأنه متروك: "والواقدي إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي فهو مقبول عند أصحابنا". وقد انتقى الحافظ ابن حجر من مغازي الواقدي وقال إنه في نفسه مصدر عند أهل العلم وأركان معدي المغازي مما لا يخالف غيره فيه.والملاحظ في استقراء مغازيه أنه يسوق روايات كثيرة، من طرق فيها رجال لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال، وأما الروايات التي ينقلها ابن سعد عن الواقدي فيبدو أنه انتقاها، حيث نجد تراجم رجال الإسناد في كتب علم الرجال، ومعنى ذلك أن أسانيد الواقدي فيها رجال ليست لهم رواية في الحديث، لذلك لم تترجم لهم كتب الرجال، أو أنهم مختلقون وضع أسماءهم الواقدي أو بعض شيوخه. وقد قال الإمام أحمد: "الواقدي يركب الأسانيد". ومن هنا يتضح سبب اتهام المحدثين النقاد له بالكذب والوضع وحكمهم عليه بأنه متروك، ولا شك أن جمع مرويات الراوي ودراستها والحكم عليه من خلالها كان منهج كثير من الأئمة النقاد في الحكم على الرواة المكثرين. وقد لخص الحافظ الذهبي الحكم عليه بدقة بارعة فقال: "جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطّرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم". ثم قال: "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، وتورد آثاره من غير احتجاج. أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر، فهذه الكتب الستة ومسند أحمد وعامة من جمع في الأحكام تراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئاً. مع أن وزنه عندي أنه ضعيف يكتب حديثه ويروي لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه كيزيد وأبي عبيد والحربي ومعن، إذ انقعد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة وأن حديثه في عداد الواهي".
وقد مال أبو داود السجستاني إلى أن الواقدي كان يفتعل الحديث، وأضاف: "ليس ننظر للواقدي في كتاب إلا تبين أمره، وروى في فتح اليمين وخبر العنسي أحاديث عن الزهري ليست من حديث الزهري".
وقال يحيي بن معين: "نظرنا في حديث الواقدي، فوجدنا حديثه عن المدنيين عن شيوخ مجهولين أحاديث مناكير، فقلنا يحتمل أن تكون تلك الأحاديث المناكير منه، ويحتمل أن تكون منهم، ثم نظرنا إلى حديثه عن ابن أبي ذئب ومعمر فإنه يضبط حديثهم، فوجدناه قد حدث عنهما بالمناكير، فعلمنا أنه منه فتركنا حديثه".
وقال ابن حبان: "كان يروي عن الثقات المقلوبات، وعن الثقات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك".
وقال ابن عدي: "ومتون أخبار الواقدي غير محفوظة، وهو بيّن الضعف والبلاء منه".
وقد دافع ابن سيد الناس عن الواقدي فقال: "إن سعة العلم مظنة لكثرة الإغراب، وكثرة الإغراب مظنة للتهمة، والواقدي غير مدفوع عن سعة العلم فكثرت غرائبه".
ومال إلى صدقه الحافظ ابن كثير فقال:"الواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالباً، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار".
محمد بن عائذ الدمشقي (ت 234 هـ) محدث ثقة. سمع الحافظ الذهب معظم كتاب المغازي له. وقرأ الحافظ ابن حجر جزءا منتقى من مغازيه
على بن محمد المدائني (ت 225 هـ) ذكر ابن عدي أنه ليس بالقوي في الحديث، وترجم له العسقلاني في لسان الميزان - وهو كتاب يختص بتراجم الضعفاء - مما يدل على أنهم تكلموا فيه بالتضعيف في الحديث. ولكن ورد في ترجمته ما يدل على صدقه في الأخبار. قال عنه الطبري: "كان عالما بأيام الناس صدوقاً في ذلك" وقال عنه الحافظ الذهبي: "العلامة الحافظ الصادق..كان مصدقاً فيما ينقله عالي الإسناد".
ويمتاز المدائني بتناوله موضوعات من السيرة أفردها في مصنف، وهي مهمة في دراسة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للسيرة، ويعتبر فقدانها خسارة جسيمة لعلم التاريخ الإسلامي.
وصالح بن إسحق الجرمي النحوي (ت 225 هـ) "كان جليلاً في الحديث والأخبار، وله كتاب في السيرة عجيب".
وإسماعيل بن جميع (ت 277 هـ) في كتابه (أخبار النبي ومغازيه وسراياه).
وسعيد بن يحيي بن سعيد الأموي (ت 249 هـ) محدث ثقة صنف المغازي.
وأحمد بن الحارث الخرَّاز (ت 258 هـ) في كتابه (مغازي النبي وسراياه وأزواجه).
وعبد الملك بن محمد الرقاشي البصري (ت 276 هـ) في كتابه (المغازي) وهو صدوق يخطئ.
وإبراهيم بن إسماعيل العنبري الطوسي (ت 280 هـ) في كتابه (المغازي).
وإسماعيل بن إسحق القاضي (ت 282 هـ) في كتابه (المغازي).
وقد ذكرت كتب التراجم أسماء عدد من التابعين وأتباعهم من وتلاهم ووصفتهم بالعلم بالسيرة والاهتمام بها، مثل عكرمة مولى ابن عباس الذي قال عنه الطحاوي "عكرمة مولى ابن عباس والزهري عليهما يدور أكثر أخبار المغازي" وأبي إسحق عمرو بن عبد الله السبيعي (ت 127 هـ) ويعقوب بن عتبة بن المغيرة المدني (ت 128 هـ) وداود بن الحسين الأموي (ت 135 هـ)، وعبد الرحمن بن عبد العزيز الحنيفي (ت 162 هـ).
ومحمد بن صالح بن دينار (ت 168 هـ).
وعبد الله بن جعفر المخرمي المدني (ت170 هـ).
وهؤلاء لم تصرح المصادر بتأليفهم كتباً في السيرة بل أشارت إلى عنايتهم واهتمامهم بالتحديث بها.
لذلك لم أثبتهم ضمن أسماء المؤلفين في السيرة واكتفيت بهذه الإشارة إليهم.
هؤلاء هم الرواد الأوائل في كتابة السيرة، ويتضح من توثيق نقاد الحديث لأكثرهم ما تميزوا به من العدالة والضبط، وهما شرطان عند العلماء لتوثيق الرواة، فلئن كانوا قد وثقوا عند المحدثين رغم دقة شروطهم في التوثيق، ورغم ونظرتهم لهم على أنهم محدثون مادتهم الأحاديث وليسوا إخباريين مادتهم الأخبار، والنقاد يتشددون في مادة الحديث كثيراً ويتساهلون في قبول الأخبار فإن هذا التوثيق يعطي كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة.
لقد حفظ الله تعالى سيرة نبيه ﷺ من الضياع والتحريف والمبالغة والتهويل بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام المؤرخين والقصاصين، وهذه ميزة لمصادر السيرة لم تتوافر لغيرها من كتب التاريخ والأخبار. ميزة لكون المحدثين ثقات مأمونين في الرواية، وميزة لكونهم علماء لهم مناهج واضحة في نقد الروايات سنداً ومتناً، ولهم أسلوب يتسم بالجدية والبعد عن الحشو والمبالغة.
وحقاً فإن مصنفات هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم في السيرة معظمها مفقود لكن المصادر التالية التي وصلت إلينا اعتمدت على مصنفاتهم فنقلت عنها كثيراً بالأسانيد، وقد ظلت مادة المصنفات الأولى هي الأساس في المصنفات المتأخرة، ليس في المادة فقط بل في طريقة العرض أيضاً، ومن أبرز المصادر التي وصلت إلينا في السيرة:
(سيرة ابن هشام): وهي تهذيب لسيرة ابن إسحق، حيث حذف ابن هشام منها كثيراً من الإسرائيليات والأشعار المنتحلة وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب، مما جعلها - بعد التهذيب - تنال رضا جمهور العلماء فليس من مؤلف بعده إلا كان عيالاً عليه. والحق أن الصورة التي تعطيها مغازيه عن حياة الرسول ﷺ تقترب إلى حد كبير مما أوردته كتب الحديث الصحيحة مما يعطي سيرته توثيقاً كبيراً. وقد شرح سيرة ابن هشام الحافظ السهيلي (ت 581 هـ) في كتابه "الروض الأنف" وهو مطبوع.
ومنها (الطبقات الكبرى) لمحمد بن سعد (ت 230 هـ) حيث خصص المجلدين الأولين من كتابه للسيرة، وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته، لكن التدقيق يثبت أن ابن سعد مؤلف له منهجه وأنه يكثر النقل عن الواقدي كما يكثر عن شيوخ آخرين يبرز بينهم عفان بن مسلم وعبيد الله بن موسى والفضل بن دكين والثلاثة من ثقات المحدثين. وقد ذكر الحافظ الذهبي: "ويقولون إن ما رواه عنه - أي الواقدي - كاتبه في الطبقات هو أمثل قليلاً في رواية الغير عنه"
ومنها (تاريخ خليفة بن خياط) المتوفى 240 هـ، وهو محدث ثقة من شيوخ الإمام البخاري في "الصحيح"، وكتابه تاريخ عام تناول في بدايته أحداث السيرة باقتضاب معتمداً على ابن إسحق بالدرجة الأولى.
ومنها (أنساب الأشراف) لأحمد بن يحيي بن جابر البلاذري (ت 279 هـ) وهو تاريخ عام مرتب على النسب وقد خصص البلاذري القسم الأول منه للسيرة، وينظر المحدثون إلى البلاذري نظرة تضعيف، فقد أورد العسقلاني ترجمته في كتابه عن الضعفاء (لسان الميزان).
ومنها (تاريخ الرسل والملوك) لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) حيث خصص قسماً من تاريخه للسيرة والطبري ثقة واعتمد على ابن إسحق بالدرجة الأولى، ومنهج الطبري أنه لا يهتم بنقد الروايات التي يوردها من حيث الصحة والضعف بل يسوقها بأسانيدها تاركاً للقارئ مهمة التحقيق والترجيح.
ومنها (الدرر في اختصار المغازي والسير) لابن عبد البر القرطبي (ت 463 هـ) وهو من أعلام المحدثين في عصره، وقد اعتمد على سيرة ابن إسحق وسيرة موسى بن عقبة وتاريخ ابن أبي خيثمة إضافة إلى كتب الحديث، ولم يصرح بالنقل عن الواقدي إلا في موضع واحد، لكنه أشار إلى روايته لمغازيه، وقد صرح بمتابعة ابن إسحق في البناء العام لكتابه، ولم يتقيد بذكر الإسناد كثيراً.
ومنها (جوامع السيرة) لابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) وقد تخلى عن طريقة ذكر الأسانيد ولم يشر إلى مصادره، ورجح بين الروايات وأثبت في كتابه ما اختاره وحقق في تواريخ الأحداث وغلبت عليه طريقة التلخيص فجرد السيرة من الأشعار والقصص.
ومنها (الكامل في التاريخ) لابن الأثير الجزري (ت 632 هـ)، وهو مؤرخ ثقة وكتابه تاريخ عام خصص قسماً منه للسيرة.
ومنها (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) لابن سيد الناس (ت 734 هـ) وهو محدث ثقة، وثقه الذهبي وابن كثير، وقد أكثر فيه النقل عن كتب الحديث إلى جانب كتب المغازي التي سبقته، وقد ذكر مصادره في مقدمة كتابه.
ومنها (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) وهو من أعلام العلماء في عصره، وكتابه نفيس في الشمائل والآداب والفقه والمغازي، فهو مزيج من ذلك كله.
ومنها (السيرة النبوية) للحافظ الذهبي (ت 748 هـ)، وهو مؤلف ثقة يمتلك عقلية ناقدة جيدة وخاصة في استخدام قواعد المحدثين التي يعتبر من أهل الاستقراء التام فيها، وقد اقتصر على نقد بعض الروايات في كتابه هذا.
ومنها (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) وهو تاريخ عام خصص قسماً منه للسيرة، وابن كثير من الأئمة الثقات المتحققين وثقه الذهبي والعسقلاني ابن العماد الحنبلي.
ومنها (إمتاع الأسماع) للمقريزي، وهو ثقة، وقصد الاختصار وتخلي عن ذكر الإسناد، وقال السخاوي عن (الإمتاع): "فيه الكثير مما ينتقد".
ومنها (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) لأحمد بن محمد القسطلاني (ت 923 هـ).
ومنها (شرح المواهب اللدنية) لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1122 هـ).
والمواهب وشرحه من الكتب الجامعة في الشمائل والسيرة.
ومنها (السيرة الحلبية) لبرهان الدين الحلبي (ت 841 هـ) فيه حشو وقصص إسرائيلي. وقد حذف أسانيد الروايات واكتفى بذكر راوي الخبر وشرح بعض الغريب وإضافة تعليقات أخرى.
ومنها (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) لمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي (ت 942 هـ) انتخبها من أكثر من 300 كتاب.
هذا أهم ما وصل إلينا من مصادر السيرة، وهي كما ذكرت تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردته كتب السيرة له نفس القيمة من حيث الصحة، بل ولا يشترط أن يكون كله صحيحاً، بل فيه الصحيح والضعيف، وينبغي عند دراسة السيرة الاعتماد على الصحيح أولا ثم استكمال الصورة بما هو حسن أو مقارب للحسن، ولا يلجأ إلى الضعيف فيما له أثر في العقائد أو التشريع، ولا بأس من الأخذ به - عندما لا نجد غيره من الروايات القوية - فيما سوى ذلك من أخبار تتعلق بالحث على مكارم الأخلاق أو وصف لعمران أو صناعات أو زرع، أو ما شاكل ذلك.
وهذا المنهج اتبعه أهل الحديث أنفسهم، قال عبد الرحمن بن مهدي (ت 197 هـ) "إذا روينا عن النبي ﷺ في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال".
إن السيرة بحاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعاً لقواعد المحدثين في نقد الحديث، ومما يعين على ذلك أن سائر مصادر السيرة المهمة قد أوردت الروايات تتقدمها الأسانيد، وأن معظم رواة السير من المحدثين الذين ترجمت لهم كتب الرجال وأوضحت حالهم وبينت ما قيل فيهم من جرح وتعديل.
إن عدم استعمال البعض لهذا المنهج يرجع إلى ما في ذلك من صعوبة وجهد في معرفة الرجال وأحوالهم والتفتيش عنهم، وفي إتقان علوم الحديث والتمرس على تطبيقها في النقد التاريخي، لكن آخرين قد يتجاهلون هذا المنهج ويغمطونه حقه بالتقليل من جدواه والتشكيك من قيمته وتوسيع بعض المآخذ عليه.
إن هؤلاء - لا شك - يجهلون حقيقته - وقد أوضح أسد رستم - وهو رجل نصراني لا يتعصب لدين - قيمة مناهج المحدثين في النقد مثبتاً لهم سابقتهم وإبداعهم، وذلك في كتابه (مصطلح التاريخ)، إنه لا بد من ابتاع هذا المنهج في نقد دراسة السيرة، بل دراسة التاريخ الإسلامي عامة، فلئن كان التدقيق في حقل السيرة أهم وأولى لتعلقها بالعقيدة والشريعة وصياغة الشخصية الإسلامية، فإن الحاجة إلى استعمال هذا المنهج في دراسة تاريخ الراشدين والأمويين والعباسيين شديدة لتأثير الأهواء على الإخباريين واختلاط الحق بالباطل اختلاطاً يصعب تمييزه إلا على المتضلعين بالرجال ومعرفة جرحهم وتعديلهم وميولهم وعقائدهم. إن كتب التاريخ مزيج من مقتطفات أوردها إخباريون ذوو اتجاهات سياسية ومذهبية متباينة، فلو أريد إعطاء صورة عن العصر الأموي مثلاً من خلال مرويات أبي مخنف فقط، فإنها تكون مغايرة كثيراً للصورة التي تكونها مرويات عوانة ابن الحكم أو أبي اليقظان النسابة وحدها.
وتأتي المصادر التكميلية بعد القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب السيرة المختصة من حيث الدقة والأهمية، وهي تكمل معالم الصورة، وتملأ بعض الثغرات التي ظلت باقية بعد استيفاء المصادر الأصلية.
فكتب الأدب تلقي ضوءاً على الحياة الثقافية ومستوى المعيشة وأنواع الملابس والأطعمة والعادات وغير ذلك من جوانب الحياة في عصر السيرة، والشعر خاصة يعتبر وثيقة تأريخية مهمة حيث يعكس الحياة العقلية والاجتماعية ويصور المعارك ويبرز البطولات، ويكفي هنا الإشارة إلى دور كل من حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة في تصوير بعض أحداث السيرة، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن كتب الأدب تعني بالشاذ والغريب والطريف فتدونه أكثر من عنايتها بأحداث الحياة الرتيبة، ومن هنا نتبين خطورة تعميم ما فيها.
وكتب معرفة الصحابة تترجم للجيل الذي عاش أحداث السيرة، فتقدم معلومات تاريخية موثقة، وإن كانت مشتتة وقليلة، بعضها يتناول أنسابهم وبعضها يتناول أخبارهم، وبقية كتب التراجم والرجال (إضافة لكتب معرفة الصحابة) تفيد في التعريف برجال أسانيد كتب السيرة مما له أثر كبير في دراسة موارد تلك الكتب وفي التمكين من نقد أسانيدها.
وكتب الجغرافية التاريخية تلقي ضوءاً على تضاريس الجزيرة العربية التي دارت فيها أحداث السيرة وتبين مستوى المعيشة وحاصلاتها الزراعية وتحدد المسافات بين الأماكن وتوضح توزيع العشائر.
وهكذا، فإن المصادر التكميلية تساعد على استكمال دراسة جوانب السيرة وإجلاء تفاصيلها ودقائقها.
فهذه نظرة عجلى في مصادر السيرة، ونشير في الختام إلى حاجتنا إلى مناهج شاملة في النقد التاريخي والتفسير التاريخي، حيث ستظل الدراسات التاريخية الإسلامية قاصرة وعاجزة عن التعبير - بصدق وعلمية - عن مسيرة أمتنا التاريخية ما لم تتكامل مناهج النقد والتفسير التاريخيين.
لقد قدم الفكر الأوروبي مجموعة كبيرة من الدراسات عن طبيعة التاريخ ومناهج نقده وتفسيره، بعضها مترجم إلى العربية، ولكن هذه الدراسات تعكس وجهة النظر الغربية وهي نابعة من فلسفة الحياة الأوروبية، وطبيعة التاريخ الأوروبي ومشاكل دراسته، كما أن تطبيقاتها مأخوذه منه، ونحن بحاجة إلى دراسات - في مستواها - تنبع من عقيدتنا وتتكيف لتاريخنا ولا تنظر إليه من خلال زاوية النظر الغربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض العرب المسلمين كتبوا دراسات أولية، وطرحوا تصورات مفيدة بهذا الصدد، ولا شك أن توالي الجهود وتضافرها سينتهي إلى منهج كامل للبحث ونظرية شاملة لتفسير التاريخ الإسلامي من المنطلقات الإسلامية الصحيحة.